الدرس 137

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى الإيراد الثاني على كلام المحقق النائيني «قده»، وهو ما أورده السيد الشهيد «قده»، ومحصّله: أنّ المحقق النائيني أفاد أنّه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي أن يكون العلم علمًا بتكليفٍ فعليٍّ على كل تقدير، فلذلك تساءل السيد أنه ما هو المراد بالتكليف الفعلي على كل تقدير؟ فهل المراد العلم بحدوث تكليف على كل تقدير؟ أم أنّ المراد العلم بتكليفٍ فعليّ أعمّ من أن يكون حدوثيًا أو بقائيًا، فإن كان المقصود بذلك هو الأول، أي العلم بحدوث تكليف فعلي على كل تقدير، فهذا ليس شرطًا في منجزية العلم الإجمالي، حتى لدى المحقق النائيني «قده»، فمثلًا، لو كان لدينا إناء مشكوك النجاسة، ولا يوجد أصل ينقّحه، كما إذا تواردت فيه الحالتان مثلًا، ثمّ حصل لدينا علمٌ إجماليٌّ إمّا بنجاسته أو نجاسة الإناء الشرقيّ، فالنجاسة إمّا في الإناء المشكوك النجاسة، أو أنها في الإناء الشرقيّ، فلا ريب في منجزية العلم الإجمالي في المقام، مع أنه ليس علمًا بحدوث تكليف على كل تقدير، إذ لو كانت النجاسة المعلومة هي في الإناء الشرقي، لكانت علمًا بحدوث تكليف، إذ لم يكن تكليف بالنسبة للإناء الشرقي قبل ذلك. وأما لو كانت النجاسة المعلومة في مشكوك النجاسة، وكان مشكوك النجاسة نجسًا من أول الأمر، فحينئذٍ لم يكن العلم علمًا لحدوث تكليف، لأنّه علمٌ بتكليف بوجوب اجتناب هذا المشكوك، والحال بأنّ النجاسة فيه من الأول. إذًا، لو كان الشرط في منجزية العلم الإجمالي أن يكون علمًا بالحدوث لم يضطرد، ففي هذا المثال الذي ذكرناه، لا يوجد علم بحدوث التكليف على كل تقدير، بل على تقدير دون آخر، أي على تقدير أنّ المعلوم هو في طرف الإناء الشرقي، وأما على تقدير أن النجاسة المعلومة في الإناء المشكوك، فنحن نحتمل أنّ هذه النجاسة المعلومة هي نفس النجاسة التي شككنا فيها، وأنّها نجاسة من الأول، وبالتالي لم يحصل لنا علم بحدوث التكليف. وإن كان مقصوده أنّ شرط منجزية العلم الإجمالي العلم بتكليفٍ فعليٍّ، أعمّ من أن يكون حدوثيًا أو بقائيًّا، فهذا متوفّر، حتى في فرض تأخّر العلم علمًا ومعلومًا. مثلًا، إذا علمنا إجمالًا إمّا بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب»، ثمّ علمنا في زمن متأخر، بحصول قطرة بول أو دم جديدة، إما في إناء «ب» أو في إناء «ج»، فالعلم بحدوث قطرة جديدة، إما في إناء «ب» أو في إناء «ج» ليس علمًا بالحدوث - أي بحدوث تكليف -، إذ لو كانت النجاسة الجديدة في إناء «ب»، وكان «ب» متنجسًا من الأول، فوقوع قطرة جديدة لا يضيف تكليفًا جديدًا. ولكنّه علمٌ بتكليف فعليّ، فإنّ وجود قطرة دمٍ أو قطرة بولٍ في ماء قليلٍ مثلًا، أو ماء مضاف، مساوِقةٌ لتكليف فعليّ، إمّا أن يكون هذا التكليف الفعليّ حادثًا، كما لو لم يكن هناك نجس قبل ذلك، أو استمرارًا للتكليف السابق، إذ لو فرضنا أنّ النجاسة التي حصلت من القطرة الأولى زالت، فسوف تبقى بحصول القطرة الثانية، فالعلم بالقطرة الثانية علم بتكليف فعليّ حدوثيًّا أو بقائيًّا، وهذا كافٍ في منجزية العلم الإجمالي. فلا فرق بين الصور، أي بين أن يكون العلم الإجمالي الثاني متأخرًا علمًا ومعلومًا كما مثّلنا، أو يكون العلم الإجمالي الثاني متأخرًا علمًا متقدمًا معلومًا، كما لو علمنا يوم الاثنين بنجاسةٍ إما في «أ» أو «ب»، وعلمنا يوم الثلاثاء بنجاسة في «ب» أو «ج» منذ يوم السبت، فالعلم الثاني متأخر علمًا، لكنه متقدم معلومًا، وهذا لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأوّل، لأنّ العلم الإجمالي الأول، وإن لم يكن علمًا بحدوث تكليف على كل تقدير - إذ لعلّ «ب» متنجسة منذ يوم السبت - لكنه علم بتكليف فعليّ، أعمّ من أن يكون حدوثيًا أو بقائيًا. وما ذكره السيد الشهيد «قده» تامٌّ، سوى بعض التفصيلات التي ستأتي في آخر المطلب.

تنبيه: إذا رجعنا إلى كلام المحقق النائيني «قده»، في «أجود التقريرات»، الجزء الثالث، ص 450، نرى أنّ المحقق النائيني «قده» ذكر أمورًا:

الأمر الأول: قال: يعتبَر في منجزية العلم الإجمالي أن لا يكون أحد طرفيه متنجزًا بمنجز سابق، إذ لو كان أحد طرفيه متنجزًا بمنجز سابق، لم يكن العلم الإجمالي علمًا بتكليف فعليٍّ على كل تقدير، وهذا سبَق شرحه.

الأمر الثاني: قال: لا فرق في السبْق، بين أن يكون سبقًا زمانيًا أو سبقًا رتبيًّا، فالسبق الزماني ذكرنا مثاله، وأمّا السبق الرُّتبيّ، فقال: مثلًا، لو لاقَت اليد إناء «أ»، وفي عين الوقت الذي لاقت اليد إناء «أ»، علمنا إجمالًا بنجاسة «أ» أو «ب»، فالملاقاة والعلم الإجمالي متعاصران زمنًا، فهنا، هل يمكن القول بأنّ الملاقي - وهو اليد - داخلٌ في منجزية العلم الإجمالي أم لا؟ قال: لا، لأنّ نجاسة طرف الملاقاة سابقة رتبةً، وإن لم تكن سابقة زمنًا، بيان ذلك: صحيحٌ الآن لدينا علمان، علمٌ إمّا بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب»، وعلمٌ إمّا بنجاسة اليد التي لاقت «أ» أو نجاسة «ب»، إذ لو كان النجس «أ» فإنّ اليد نجسة، إذًا عندنا علم إما بنجاسة اليد أو نجاسة «ب». وهذا العلم الإجمالي الثاني، وإن كان معاصرًا زمنًا للعلم الإجمالي الأول، إلا أنه متأخر عنه رتبة، فإن الشك في نجاسة اليد مسبَّبٌ عن الشك في نجاسة «أ»، فلو كان لليد نجاسة لكانت متأخّرة رتبةً عن نجاسة «أ». فبما أنّ العلم الإجمالي الثاني متأخر رتبةً عن الأول، إذًا فهو غير منجز، والسر في ذلك أنه: يعتبر في منجزيته أن لا يكون أحد طرفيه متنجزًا سابقًا زمانًا أو سابقًا رتبةً، والمفروض أنّ طرف «ب» قد تنجز بعلمٍ إجماليٍّ سابق لا زمانًا، ولكنه سابق رتبةً، حيث إن العلم الإجمالي الأول سابقٌ رتبة على العلم الإجمالي الثاني، فالكلام هو الكلام.

الأمر الثالث: قال: بأنّه ليس المدار - كما يظهر من تقرير السيد الصدر لكلامه «قده» - على المعلوم، وليس المدار على العلم، بل المدار على كل منهما، فإذا كان المعلومان متعاصرين زمانًا، فالمدار على العلم، وإذا كان المعلومان متفاوتين زمانًا، فالمدار على المعلوم. مثلًا، إذا علمنا يوم الجمعة، إما بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب»، وعلمنا يوم السبت، إما بنجاسة «ب» أو نجاسة «ج» منذ يوم الجمعة، فالعلم الثاني متأخر عن الأول، لكنّ معلومه معاصر مع الأول، فهنا مع تعاصر المعلومين زمنًا، إلّا أن أحد العلمين متأخر عن الآخر، فالعلم الثاني ليس منجزًا، لأنّ أحد طرفيه، وهو الطرف المشترك، وهو طرف «ب» قد تنجز بمنجز سابق، وإن كان المعلومان متّحدين زمنًا. وأما إذا تفاوت المعلومان زمنًا كما مثلنا، بأن علم يوم الاثنين بنجاسة «أ» أو «ب»، وعلم يوم الثلاثاء بنجاسة «ب» أو «ج» منذ يوم السبت، فالمعلوم للثاني متقدم زمانًا على المعلوم للأول، فهنا يكون المدار على المعلوم لا على العلم، أي بما أن معلوم الثاني متقدم زمانًا على الأول، فلا محالة حينئذ نقول: إن العلم الإجمالي الأول ليس منجزًا، إذ ليس علمًا بتكليفٍ فعليٍّ على كل تقدير، فلعلّ النجس من الأول هو «ب»، وبالتالي لا يكون العلم بنجاسة «أ» أو «ب» علمًا بتكليف فعليّ على كل تقدير.

والنتيجة، أي نتيجة عدم منجزية العلم الإجماليّ الأول، لو فرضنا أن اليد لاقتْ طرف «أ» يوم الاثنين، أو الثوب لاقى طرف «أ» يوم الاثنين، والآن نحن في يوم الثلاثاء علمنا بنجاسة «ب» أو «ج» منذ يوم السبت، والمفروض أنّ العلم الإجمالي السابق - وهو العلم إمّا بنجاسة «أ» أو «ب» - ليس منجزًا، إذًا فالملاقي لطرف «أ» محكومٌ عليه بالطهارة، بمقتضى استصحاب عدم ملاقاته نجسًا، فهو محكومٌ بالطهارة. فهذا ما ذكره المحقق «قده». وهنا علّق سيدنا «قده» في «مصباح الأصول» في موضعين:

في الجزء السابع والأربعين بحسب الموسوعة، ص 427، ظاهره موافقة المحقق النائيني، في أنّ المعلوم إذا تقدم زمانًا، فالعلم الإجمالي غير منجز. وفي ص 486 و487، ظاهره مخالفة المحقق النائيني، وهو الذي نقله عنه السيد الشهيد «قدهما» في أنّ المدار على العلم لا على المعلوم، فالعبرة بأن العلم هل هو متأخر زمانًا أو هو معاصر، مع غمض النظر عن المعلوم. فلاحظوا الموردين معًا، وانظروا هل هناك تخالف وتهافت في كلامه؟ أم يمكن الجمع بين كلاميه في هاتين الصفحتين في هذا الجزء؟

والحمد لله رب العالمين