الدرس 142

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في منجّزية العلم الإجماليّ للتدريجيّات، في الصورة الأولى: وهي ما إذا لم يكن الزمان دخيلًا في الملاك ولا الخطاب، ومناقشة سيد المنتقى «قده» في البين، وهنا نذكر أمورًا:

الأمر الأول: هناك فرقٌ بين المنجّزية والمحرّكيّة، كما أنّ هناك فرقًا بين المنجّزية وفعليّة الاستحقاق، بيان ذلك: أنّ المنجّزية عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على فرض المخالفة، بينما المحرّكية الفعليّة عبارة عن حكم العقل بلزوم الانبعاث عن البعث فعلًا، فلأجل ذلك، لا يؤخذ في موضوع المنجّزية ظرف الامتثال، وإن كان ظرف الامتثال مأخوذًا في موضوع المحرّكية بالفعل، فإذا وصل التكليف إجمالًا أو تفصيلًا قبل وقت العدم، أي قبل وقت الامتثال، فإنّ وصول التكليف موضوعٌ للمنجزية، إذ لا يراد بالمنجزية حكم العقل بالمحركيّة الفعلية، أي لزوم الانبعاث عن البعث فعلًا، كي يقال بأنّ هذا لا يتصوَّر إلا في ظرف الامتثال، فما لم يبدأ ظرف الامتثال لا يتصوّر حكم العقل بلزوم التحرّك عن البعث، وإنما المنجّزية عبارة عن قضية تعليقيّة، وهي حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة. ومن الواضح أنّ هذا الحكم العقلي لا يتوقّف على مجيء ظرف الامتثال، فإنّ العقل بمجرد أن يصل التكليف للمكلّف، سواءً وصل تفصيلًا أو إجمالًا، قال العقل بأنّ هذا التكليف الواصل موضوعٌ لاستحقاق العقوبة على فرض المخالفة، فلا يتوقّف حكم العقل بالمنجّزية على قيدٍ آخر، وإن كان حكمه بالمحركية أي بلزوم الانبعاث عن البعث فعلًا متوقفًا على مجيء ظرف الامتثال، كما أنّ هناك فرقًا بين حكم العقل بالاستحقاق وفعليّة الاستحقاق، فالمنجّزية عبارة عن قضية تعليقيّة، أي حكم العقل بالاستحقاق على فرض المخالفة، وهذا لا يتوقّف على حصول المخالفة، فإنّ القضية الشرطيّة صادقة حتّى مع عدم صدق طرفيها، ولكن فعليّة الاستحقاق تتوقف على فعلية المخالفة، فإذا حصلت المخالفة لحكم واقعيٍّ واصل، استحقّ العقاب بالفعل. إلا أن استحقاق العقاب بالفعل لفعلية المخالفة ليس من المنجّزية في شيء، فهو أثر عقليّ من آثار المخالفة.

الأمر الثاني: بما أن موضوع المنجّزية هو الوصول، والوصول أعمّ من الوصول التفصيليّ والإجماليّ، إذ لا كلام حتّآ لدى سيد المنتقى في أن الوصول الإجماليّ وصول، فبناءً على ذلك، لا فرق بين دفعيّة الأطراف وتدريجيّة الأطراف، والسرُّ في ذلك أنّه مع فرض تدريجية الأطراف، فالتدريجيّة ليس في التكليف الواصل، وإنما التدريجية في مصداق الجامع لا في نفس الجامع، وبيان ذلك أنّه: إذا علم بأنّه يجب عليه إمّا صوم اليوم أو صوم غدٍ، فما ليس فعليًّا هو مصداق الجامع، وهو صوم غد، وأما الجامع وهو صوم يومٍ فهو واصلٌ بالفعل، وحيث إنّ العلم الإجمالي بحسب مبناه «قده» عبارة عن وصول الجامع، أو بحسب مبنى العراقيّ عبارة عن وصول الواقع عبر الجامع، فلا محالة موضوع المنجزّية متحقق بالفعل، لأنّ موضوع المنجزية وصول الجامع، والجامع قد وصل بالفعل، حيث إنّ التدريجية إنما هي في مصداق الجامع لا في نفس الجامع، فكون مصاديق الجامع تدريجية لا يمنع من كون المنجزية فعلية، لفعلية موضوعها، ألا وهو وصول الجامع. فلذلك لا فرق بين دفعيّة الأطراف وتدريجية الأطراف.

الأمر الثالث: لا فرق في ما ذكرنا من منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات، بين مسلك العلّية ومسلك الاقتضاء، فالمناط على مسلك العلّية أن يكون العلم الإجماليّ علمًا بتكليفٍ فعليٍّ على كل تقدير، وهذا حاصل بالوجدان، فسواءً كان الواقع هو وجوب صوم اليوم، أو كان الواقع وجوب صوم يوم غد، فإنّه فعليٌّ على كل حال. وكذا على مسلك الاقتضاء، لأنّ المناط في المنجّزية على مسلك الاقتضاء تعارض الأصول، والأصول في المقام متعارضة، وبيان ذلك: إنّ ما أشار إليه الكاظمي في «فوائد الأصول»، الجزء الرابع، ص 111، وارتضاه سيد المنتقى «قدهما» في الجزء الخامس، ص 182، من أنّ الأصول في المقام غير متعارضة، وذلك لأنّ المناط في تعارض الأصول جريانها في ظرفٍ واحد، كي يقال بأنّها متعارضة، وأمّا مع اختلاف الأصل بحسب ظرف الجريان، فالتعارض منتفٍ لانتفاء موضوعه. فإذا علم إجمالًا إما بوجوب صوم اليوم أو صوم غدٍ، فأصالة البراءة عن وجوب صوم اليوم ظرفها الفعليّ، بينما أصالة البراءة عن وجوب صوم غدٍ ظرفها غدًا، فلم يتحد الأصلان في ظرف واحد، كي يقال بتعارضهما، فإنّ تعارض الأصول فرع جريانها في ظرفٍ واحد كي يقال بأنها متعارضة.

فلأجل عدم اتحاد الظرف، ولأجل انتفاء التعارض تنتفي منجّزية العلم الإجمالي على القول بالاقتضاء. ولكنّ ما أُفيد غير تامٍّ، لأنّ تعارض الأصول هو عبارة عن: أنّها لو جرت في الطرفين لزم من جريانها الترخيص بالمخالفة القطعية وهو قبيح، ولو جرت في أحدهما المعيّن دون الآخر، لزم الترجيح بلا مرجّح، فليس معنى تعارض الأصول التضادّ، كي يقال بأنّه يشترط في الضدين اجتماعهما في آن واحد، بل المقصود بتعارض الأصول أن لو جرت لزم الترخيص في المخالفة القطعية، وأن لو جرى أحدها المعين لزم الترجيح بلا مرجح، وهذا لا فرق فيه بين الأطراف الدفعيّة والأطراف التدريجية، فإنّه إذا علم إجمالًا إمّا بوجوب صوم اليوم أو بوجوب صوم غد، فلا محالة جريان البراءة عن وجوب الصوم في كلا اليومين ترخيصٌ في المخالفة القطعية، وجريانها في أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجّح، فتحقق المناط في تعارض الأصول، وهو المحقّق لمنجزية العلم الإجمالي بناءً على مسلك الاقتضاء.

الأمر الرابع: ذكر سيد المنتقى «قده» أنّ هناك منبّهين على عدم منجزية العلم الإجماليّ في التدريجيات، وإن كان الزمن ليس دخيلًا، لا في الملاك ولا في الخطاب، وفاقًا لصاحب الكفاية:

المنبّه الأول: أنّه قد يعلم المكلف تفصيلًا بوجوب الصوم غدًا، ومع ذلك هذا العلم التفصيلي ليس منجزًا، فضلًا عن العلم الإجمالي، والسر في عدم منجزيته أن: لو جاء يوم غدٍ وزال العلم، فإن قلتم ببقاء المنجزية، فهذا لازمه بقاء المعلول من دون علّته، لأنّ المنجزية تابعة للعلم، والمفروض أن العلم قد زال. وإن قلتم بزوال المنجزية، لزم انقلاب الشيء عمّا وقع عليه، فكان الوجوب منجّزًا اليوم، وليس منجزًا في يوم غد، وهو غير معقول. فهذا منبّه على أنّ العلم بالتكليف السابق زمانًا على ظرف الأداء ليس منجَّزًا تفصيلًا أو إجمالًا.

ولكن يلاحظ على ذلك النقض والحلّ: أمّا النقض، فبما لو زال العلم في الدفعيات، فماذا يُقال هناك؟ فلو فرضنا أنّ المكلّف علم بأنّه نذر إمّا الصدقة وإمّا الصلاة في هذا الوقت، فهذا علم إجمالي بالدفعيات، وحينما شرع في أحدهما كالصلاة زال العلم، فماذا تقولون هنا؟ إن قلتم ببقاء المنجزية، لزم بقاء المعلول بلا علة، وإن قلتم بزوال المنجّزية لزم الانقلاب، فما هو الحل؟ وأمّا الحلّ، فإنّه: إمّا أن نختار كما اختار جمعٌ، بأنّ المنجّزية تدور مدار القطع على نحو الحيثيّة التقيدية، أي أنّ الواقع لا دخل له في المنجزية، وإنّما المنجّزية تدور مدار القطع بالتكليف، سواءً كان المقطوع به واقعًا أم لم يكن.

فبناءً على هذا المسلك ليس هناك أي انقلاب، بل تغيُّر في الموضوع؛ كان قاطعًا فكان منجِّزًا، فزال القطع فانتهت المنجّزية بانتهاء الموضوع. وإن قلتم بأنّ الواقع له دخل في المنجزية، أي أن المنجز هو عبارة عن وصول الواقع، فتدور المنجّزية مدار هذين العنصرين، وهما الواقع والوصول، فإذا تبيّن له في الدفعيات أو في التدريجيات، أو زال العلم وإن لم يتبيّن له شيء، فمتى ما زال العلم، زال أحد عنصري المنجزية، فانكشف أن لم يكن هناك منجزية، وبالتالي ليست المسألة من باب الانقلاب، وإنما المسألة من باب انكشاف عدم المنجزية من أول الأمر.

وببيانٍ آخر: إنّ منجّزية العلم الإجماليّ عبارة عن حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، والموافقة القطعية إنّما تُتَصوَّر في فرض اجتناب الأطراف في ظرف الامتثال، فلا تتحقق الموافقة القطعية حتّى يتحقق اجتناب الأطراف في ظرف الامتثال، وإلا لم تتحقق موافقة قطعية. فبما أنّ منجّزية العلم الإجماليّ عبارة عن حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لهذا العلم، والموافقة القطعية عبارة عن اجتناب الأطراف في ظرف الامتثال، فمقتضى ذلك أن تكون المنجّزية مشروطة لبًّا بشرط متأخر، فإنّما تتحقق منجزية العلم الإجمالي، بمعنى وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي، ما دامت الموافقة القطعية معاصرة للعلم الإجمالي، فمتى زال العلم، ولو في ظرف الامتثال، زال حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، فانكشف بذلك عدم تحقق المنجزية من أول الأمر.

المنبّه الثاني الذي ذكره سيد المنتقى «قده» أنّه: لو حصلت إمارةٌ شرعيّة على التكليف، ولم يحصل علم وجدانيّ، واحتملنا خطأ الإمارة، كما لو أخبر الثقة بوجوب الصوم إما اليوم أو غد، ونحن نحتمل خطأه أو نحتمل عدم وثاقة المخبر، فهل يمكن القول حينئذ بالمنجّزية، مع فرض وجود احتمال وجود الخلاف أم لا؟ والجواب عن هذا المنبه أيضًا بالنقض والحلّ: أمّا النقض، فبه في الدفعيّات، فماذا يقال هناك؟ وأمّا الحل: فلأنّ المفروض أنّ ما هو المعلوم هو الحكم الظاهريّ، وليس الحكم الواقعيّ، فالمنجّزية تدور مدار العلم، سواءً كان المعلوم حكمًا واقعيًّا أو حكمًا ظاهريًّا. فتارةً يعلم بأنّه يجب عليه إمّا صوم اليوم أو صوم غد، أو إمّا أنه يجب عليه الصلاة فعلًا أو الصدقة، وتارةً يعلم بحجيّة الخبر الذي قام على وجوب صوم اليوم أو صوم غد، فالحجيّة أمر معلوم، وإن لم يكن متعلَّق الخبر معلومًا، فمقتضى العلم بالحجّية فعليّة المنجّزية، إذ لا فرق في موضوع المنجّزية بين أن يكون موضوعها العلم بالحكم الواقعيّ أو العلم بالحكم الظاهري.

فتحصّل من ذلك: منجّزية العلم الإجمالي في هذه الصورة، وهي صورة: أن لا يكون الزمان دخيلًا، لا في الملاك ولا في الخطاب، كما في مسألة النذر. وأمّا الصورة الثانية: وهي أن يكون الزمان دخيلًا في الخطاب دون الملاك، كما إذا علم إجمالًا بأنّه يجب عليه إنقاذ النفس المحترمة، إما اليوم أو غد، كما لو فرضنا أنه طبيبٌ في الحرب مع المجاهدين، فهو لديه علمٌ إجماليٌّ بأنّه إمّا يجب عليه إنقاذ النفس المحترمة اليوم، أو يجب عليه إنقاذها في غد أو ما بعد غد. فهنا، لو فرضنا أنّ الزمن دخيلٌ في الخطاب، بمعنى أنّ وجوب إنقاذ النفس المحترمة مقيَّد بزمان وصول النفس المحترمة وابتلائه بها، إلا أن الملاك لا شكّ في أنه فعليٌّ من الآن، فلا يتوقّف اتّصاف إنقاذ النفس المحترمة بكونه محبوبًا أو ذا مصلحة على مجيء زمانه أو ابتلائه به، فالملاك فعليٌّ، وإن كان الخطاب مقيَّدًا بابتلائه بمجيء النفس المحترمة.

وهنا نقول ما قلنا في الصورة السابقة، والسرُّ في ذلك أنّ: الخطاب لا موضوعية له في المنجّزية، لأنّ الخطاب مجرد صياغة اعتبارية مُبرزة للغرض اللزوميّ، فإذا كان الخطاب مجرد صياغة اعتبارية للغرض اللزوميّ، فهو ملحوظٌ على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة، وما له الموضوعيّة نفس الغرض اللزوميّ، والمفروض أن الغرض اللزوميّ فعليٌّ، لأنّ الملاك ليس مقيّدًا بالزمان. ولذلك بنى الأعلام، ومنهم سيدنا «قده»، وسيد المنتقى «قده» على وجوب المقدّمات المفوِّتة، مع أنّ الخطاب لم يصبح فعليًّا بعد، لكن، لأنّ ترك المقدّمة مفوِّت للغرض اللزومي في ظرفه، لذلك مقتضى حكم العقل بلزوم حفظ الغرض اللزومي للمولى وعدم تفويته، وجوب الإتيان بالمقدمة.

والحمد لله رب العالمين