الحاجة إلى الأمن

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في عدة محاور:

  • في حاجة الإنسان إلى الأمن.
  • وفي أن الحاجة على نحو الطريقية أم الموضوعية.
  • وفي علاج المنهج الديني لتغذية هذه الحاجة.
المحور الأول: حاجة الإنسان إلى الأمن.

علماء النفس يذكرون أن الأمن يتنوّع إلى حاجات ثلاث: الأمن الحيوي، والأمن النفسي، وأمن الحياة.

الحاجة الأولى: الحاجة إلى الأمن الحيوي.

هو عبارة عن حاجة الإنسان لاستمرار وجوده المادّي، هذه حاجةٌ بيولوجية، الإنسان محتاجٌ إلى الطعام والشراب والهواء، لأن في هذه العناصر بقاءه واستمرارَه، وهذا ما يعبَّر عنه بالأمن الحيوي، أي أن استمرار وجوده المادي وبقاء وجوده المادي يعتمد على عناصر حيوية معيّنة تؤمِّن له البقاء، وتضمن له الاستمرار في الحياة، هذا هو الأمن الحيوي.

الحاجة الثانية: الحاجة إلى الأمن النفسي.

ليس كافيًا أن يعيش الإنسان في فلّةٍ مرفّهةٍ وسيّارةٍ جميلةٍ وفي بلدٍ جميلٍ، هذا ليس كافيًا، لا بدَّ من حاجةٍ أخرى وراء هذه الظواهر المادية، وهي الحاجة إلى الاطمئنان الداخلي، الحاجة إلى الاستقرار النفسي، أن يشعر الإنسان بأنه متوازنٌ نفسيًا، أن يشعر الإنسان بأنه مستقرٌ روحيًا ونفسيًا، الحاجة إلى الاستقرار النفسي والاطمئنان الروحي هي حاجةٌ أخرى وراء حاجته إلى الأمن الحيوي.

هذه الحاجة يشعر بها من يُحْرَم منها، السجين حتى لو وفّرت له قصرًا، ووضعته في قصر، ووفّرت له وسائل الحياة، ما دام سجينًا هو يشعر بالقلق، لا يشعر بإشباع حاجته إلى الأمن النفسي. الإنسان المنبوذ، هناك إنسان محبوب في المجتمع يشعر بالاستقرار، هناك إنسان منبوذ في المجتمع، المنبوذ يفقد الأمن النفسي، يعيش حالةً من القلق، يعيش حالةً من التوتّر، لأنه منبوذ اجتماعيًا، مكروه اجتماعيًا.

أيضًا الشخص المحاط بالأعداء، الشخص المستهدف من الأعداء، حتى لو عاش في مدينة جميلة، وعاش في وسائل من العيش مرفّهة، إلا أن شعوره أنه مستهدَف يمنعه من الاستقرار النفسي، يمنعه من الاطمئنان النفسي، فهو يفقد الحاجة إلى الأمن النفسي، يحتاج إلى أن يشعر بالاستقرار، يحتاج إلى أن يشعر بالاطمئنان، خصوصًا إذا كان مجتمعًا مستهدفًا، مجتمع مستهدف من قِبَل الإعلام، من قِبَل المحرّضين، من قِبَل عوامل متعددة تُشْعِر هذا المجتمع بأنه منبوذٌ مبغوضٌ مستهدَفٌ محاطٌ بوسائل العدوان والرفض من جميع الجهات، فمن الطبيعي أن هذا المجتمع يفقد هذه الحاجة المهمّة الضرورية، وهي الحاجة إلى الاستقرار النفسي، وهي الحاجة إلى الأمن النفسي.

الحاجة الثالثة: الحاجة إلى أمن الحياة.

أحيانًا الإنسان يصل إلى أن حياته أصبحت مهددة، لا أنه فقط ليس مستقرًا نفسيًا، ليس فقط متوترًا، بل حياته أيضًا مهددة، مثل هذا الإنسان الذي مثلًا يصاب لا سمح الله بمرض خطير، أو إنسان يقع في مأزق خطير، تطوّر الموضوع، أصبح محتاجًا إلى الحياة، أصبح مهدّدًا في حياته. أيضًا المجتمع المستهدَف، مستهدف استهدافًا ماديًا مباشرًا، هذا المجتمع يحتاج حاجة ثالثة، وهي الحاجة إلى الحياة. إذن الأمن يتنوّع إلى ثلاث حاجات: الأمن الحيوي، الأمن النفسي، أمن الحياة. هذه الحاجات الثلاث هي التي تشكّل معنى حاجة الإنسان - فردًا أو مجتمعًا - إلى الأمن.

المحور الثاني: هل الحاجة إلى الأمن على نحو الطريقية أم الموضوعية؟

هذه الحاجة على هي ملحوظة على نحو الغاية، أم هي ملحوظة على نحو الوسيلة؟ هل هي ملحوظة على نحو الموضوعية، أم هي ملحوظة على نحو الطريقية؟ هنا يفترق منظور علم النفس عن المنهج الديني؛ علم النفس يرى أنَّ هذه الحاجات هي في حدّ ذاتها أهداف، من أهداف الإنسان أن يعيش، من أهداف الإنسان أن يكون مستقرًا نفسيًا، من أهداف الإنسان أن يضمن حياته، إذن هذه الحاجات الثلاث بنظر علم النفس هي أهداف، هي غايات، ينبغي تحصيلها، ينبغي إحرازها.

أما بحسب المنهج الديني هذه ليست غايات، هذه مجرد وسائل، الأمن ليس غاية، الأمن وسيلة، الأمن النفسي، الأمن الحياتي، الأمن الحيوي، الأمن بشتى أشكاله وبشتى ألوانه هو مجرد وسيلة وليس غاية، هناك غاية أسمى الأمن في سبيلها، الأمن مجرد وسيلة وأداة لتحقيق غايةٍ أسمى، ولتحقيق هدفٍ أعلى بنظر التشريع الإسلامي، بنظر المنهج الإسلامي، فما هو الهدف الأسمى؟

إقامة خلافة الله في الأرض، الإنسان ما خُلِق لكي يعيش فقط، ربما ليس من المهم أن يعيش، ربما تكون حياته رخيصة في سبيل إقامة خلافة الله في الأرض، ليس الهدف هو أن يعيش، هناك هدف أعلى وأسمى من وجود الإنسان، هذا الهدف تحدّثت عنه مجموعةٌ من الآيات القرآنية التي تشير إلى مبدأ إقامة الخلافة على الأرض، إقامة خلافة الله في الأرض، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، العمل الأحسن هو خلافة الله في الأرض، العمل الذي يضمن الكمال الروحي والكمال المادي هو خلافة الله في الأرض، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.

إذن، خلافة الله في الأرض بمعنى أن تقوم حضارةٌ عادلةٌ، أن تقوم حضارة إيمانية، لا حضارة مادية كما في الغرب، بل حضارة إيمانية، ولا حضارة شكلية، ولا حضارة صورية، بل حضارة عادلة، أحيانًا يقال لك: أنت تعيش في دولة فيها رخاء، فيها اقتصاد، فيها ما فيها.. أنت تطلب والدين يطلب حضارة عادلة، حضارة إيمانية، حضارة تعتمد على ركنين: الركن الأول: العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه، والركن الثاني: الإيمان والأخوة، هذا هو الهدف من وجود الإنسان على الأرض، الحضارة العادلة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، يعني حضارة عادلة، والركن الثاني أيضًا أشار إليه بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.

إذن، هناك ركنان، الدولة الرشيدة، الدولة المستقرة هي الدولة التي تعتمد على ركنين: عدالة وإيمان، عدالة وأخوّة، أن تكون هناك عدالة في التعامل مع المواطن، وأن تكون هناك أخوة بين المواطنين من دون أن يعتدي بعض على بعض وفئة على أخرى، الهدف من وجود الإنسان أن يحقّق الخلافة على الأرض، والخلافة على الأرض الحضارة التي تعتمد على ركنين: عدالة وأخوة.

لأجل ذلك، الأمن الحيوي، الأمن النفسي، الأمن الحياتي، هذه كلها وسائل، المهم أن تؤدي هذه الوسائل إلى حضارة عادلة أخويّة، هذا هو المهم، ليس المهم أن أعيش آمنًا فقط، أن أعيش آمنًا في حضارة عادلة أخوية، إذن كل ذلك مجرد وسيلة، والغاية هي الحضارة العادلة الأخوية. هنا يفترق المنهج الديني عن المنهج النفسي، علم النفس يقول: هذه حاجات لا بد من توفيرها، نحن نقول: بل هذه وسائل لهدف آخر وأعمق، ألا وهو حضارة العدالة والأخوّة.

المحور الثالث: علاج الدين لهذه الحاجات.

كيف يعالج علم النفس تغذية هذه الحاجات؟ وكيف يعالج المنهج الديني غذاء هذه الحاجات؟ علم النفس يقول: الإنسان إذا فقد الأمن، ليس عنده أمن نفسي أو ليس عنده أمن حياة، كيف يغذي هذه الحاجة؟ ما هو العلاج؟ علم النفس يقول: أمام الإنسان أربعة اتجاهات: إما الخنوع، إما الانتحار، إما العدوان، إما التضحية، الثلاث الأولى حالات مرضية فتتعين الحالة الرابعة.

الاتجاه الأول: الخنوع، لا أستطيع أن أحصل على الأمن حتى أخنع، حتى أخضع، والخنوع حالة مرضية، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. الاتجاه الثاني هو الانتحار، أن أقضي على الحياة، أن أفجّر هذه الحياة، أن أبيد الحضارة لأنني لا أعيش آمنًا، لأنني لم أعط حاجاتي، لأنني لم أحقق أهدافي، إذن أقضي على الحياة! هذا الانتحار حالة مرضية، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أنت تقضي على طاقة حياتية اجتماعية.

الاتجاه الثالث: العدوان، إذا أنا لا أريد أن أخنع ولا أريد أن أنتحر فكيف أحقق حاجاتي؟! أعتدي على الآخر، أسلب ما عنده، حتى أوفر لنفسي حاجاتي وأهدافي، حتى أضمن استقراري وأهدافي، وهذه أيضًا حالة مرضية، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. إذن ما هو الحل؟ يقول علم النفس: الاتجاه الرابع هو الحل، وهو التضحية لأجل الآخرين، أنت تضحي من أجل الآخرين، ليس أمامك الوسائل المرضية من انتحار، من عدوان، من خنوع، فضحِّ بحياتك من أجل أن تسعد الآخرين، أنت تضحي بحياتك أو بطاقتك البدنية أو بطاقتك الفكرية أو بأي شيء، المهم مبدأ التضحية، التضحية من أجل حياة الآخرين.

هل هذا في التصور وفي المنظور الديني هو العلاج، أم لا؟

حتى نفهم المنهج الديني في تغذية حاجة الإنسان إلى الأمن، لا بد أن ننظر إلى الركائز التي يعتمد عليها المنهج الديني في توفير حاجة الإنسان إلى الأمن، فما هي هذه الركائز؟

الركيزة الأولى: حقيقة الحياة.

المنهج الديني يقول: ما هي الحياة؟ نحن كلنا نتقاتل على الحياة، فما هي الحياة؟ ما هي الحياة التي نريدها؟ نحن نتصارع على الحياة، أبيدك لأجل أن أحيا، تبيدني لأجل أن تحيا، لماذا؟! ما هي هذه الحياة التي نتقاتل عليها، نتصارع عليها؟! لنحدّد ما هي الحياة. الدين يختلف عن علم النفس في تحديد الحياة، الحياة بمنظور علم النفس هي الزمكان، أي: المؤلفة من زمان ومكان، تعيش على الأرض خمسين سنة، سبعين سنة، تسعين سنة، فالحياة هي المؤلفة من زمان ومكان، هذا الزمكان هو الحياة، فأنا أضحي بالزمكان من أجل حياةٍ لإنسانٍ آخر أو لمجتمع آخر.

الدين يقول: هذه ليست هي الحياة، الحياة ليست بهذا المنظور الحقير، وهو أن أعيش على أرض في زمان، بل الحياة هي حياة خلافة الله في الأرض، هي الحياة التي تعتمد على ركن الإيمان، وتعتمد على ركن المحبة، وتعتمد على ركن الأخوة الإيمانية، وليست أي حياة. لاحظ القرآن الكريم عندما يقارن بين لونين من الحياة: لون نحن نصر عليه ونعتبره هو الحياة، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، هي هذه الحياة في نظرنا، بمجرد أن نُحْرَم حاجةً من هذه الحياة فزعنا وولولنا وقلنا: كيف نعيش؟! كيف نصبر؟! ليس عندنا حليب أطفال! ليس عندنا جميع وسائل الغذاء.. نفزع ونجزع لأننا فقدنا شيئًا من ملذاتنا وشهواتنا.

القرآن يتحدث عن اللون الثاني من الحياة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، هناك لون آخر من الحياة، حياة الصبر، حياة الاطمئنان بالله، حياة التوكّل على الله، حياة الرضا بقضاء الله وقدره، هناك حياة أخرى هي حياة الكمال الروحي، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، هناك حياة أخرى. إذن، ليست الحياة التي أنا أضحّي لأجلها هي زمكان، الحياة التي أنا أضحّي لأجلها هي الحياة القائمة على مبدأ الإيمان والتوكل والصبر والرضا بقضاء الله وقدره.

الإمام أمير المؤمنين علي يخاطب ابنه الحسن: ”بني حسن، وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى خالقك؛ فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز“، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، إذن لا بد أن نحدد ما هي الحياة التي نحن نتقاتل ونتصارع عليها، وهذه هي الركيزة الأولى.

الركيزة الثانية: حقيقة الصبر.

التي يعبّر عنها القرآن الكريم بالصبر، ما هي حقيقة الصبر؟ القرآن الكريم يقول: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، ويقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فما هو الصبر؟ نحن نفهم الصبر بمعنى سلبي، الصبر يعني أن تسكت، ليس عندك خيار آخر، ليس عندك حيلة، الصبر يعني ألا تجزع، ألا تولول، ألا تصرخ، هذا هو الصبر، الصبر أن تسكت، هذا هو الذي يأمرك القرآن به! هذا فهم سلبي للصبر، ليس هذا هو الصبر، الصبر الذي ينادي به القرآن ويجعله علاجًا وغذاءً لحاجتك إلى الأمن ما هو؟ الصبر يعتمد على أركان لا بد أن تلتفت إليها.

الركن الأول: الثقة بالله.

واحد يقول: والله تسألني: هل أنا راضٍ بما أصابني؟ لا والله لست راضيًا ولكن ماذا أفعل؟! هذا ليس صبرًا، الصبر الثقة بالله، أن تثق بأن ما أصابك خيرٌ لك، الثقة بالله، الاطمئنان بأن ما أصابني معوَّض، بأن ما أصابني مدّخرٌ لي، هذا هو الصبر، لا بد أن يكون معه عنصر إيماني، عنصر ملكوتي، عنصر غيبي، وهو الثقة بالله، وهذا هو الذي تترجمه الآية المباركة: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، فليس الصبر مجرد ألا يجزع الإنسان، ما الفائدة من ألا يجزع وهو في داخله حاقد وناقم؟! لا بد أن يكون واثقًا بأن ما أصابه معوَّض.

لذلك، ورد عن الإمام الحسين في يوم عاشوراء أنه قال: ”هوّن ما نزل بي أنه بعين الله“، الذي يمنحني الصبر ويمنحني طاقة من الإيمان أنني واثقٌ بربي، وأن ما ذهب من دم لن يذهب هدرًا، وما ذهب من طاقة لن يذهب هدرًا، وما ذهب من نعمة لن يذهب نعمة، كله معوَّض، أنا واثقٌ بربي، ”هوّن ما نزل بي أنه بعين الله“، وقال: ”اللهم رضًا بقضائك، وتسليمًا لأمرك، يا غياث المستغيثين“.

الركن الثاني: تأجيل اللذة.

نحن دائمًا متمحورون ومتقوقعون في اللذة الحسية، نأكل أحسن كبسة، وننام أحسن نومة، ونركب أجمل سيارة، و.. مرفهين ومرتاحين، دائمًا تركيزنا على اللذة الحسية، أما اللذة الروحية فليست في قاموسنا، اللذة الروحية ليست في مصطلحاتنا، لذة الصلاة، لذة العبادة، لذة الدعاء، لذة النافلة، هذه اللذة هي التي يتقاتل عليها الأولياء، الأولياء لا يتقاتلون على طعام أو شراب، بل يتنافسون على هذه اللذة، لذة الصلاة، لذة العبادة، هذه اللذة التي تأسر أكبر الأبطال علي بن أبي طالب.

مع الأسف، الإنسان الحقير، نحن ندخل في هذا الإنسان الحقير، هذا الإنسان تراه ما شاء الله مفتول العضلات رياضيًا وبطلًا في جسمه، ولكنه بمجرد أن تعرض له شهوة طعام كل هذه البطولة تذهب في شهوة الطعام، بمجرد أن يتعرض لإثارة - إشارة جنسية، إثارة مادية - هذا البطل الكبير يتهاوى أمام تلك الإثارة الصغيرة! يتهاوى أمام لذة حقيرة، أما علي بن أبي طالب، أما أمير المؤمنين الذي اقتلع باب خيبر بكف واحدة.

يا  قالع الباب الذي عن iiهزّه
أأقول  فيك  سميدعٌ  كلا iiولا
بل أنت في يوم القيامة حاكمٌ

 
عجزت  أكفٌّ  أربعون iiوأربعُ
حاشا لمثلك أن يقال سميدعُ
في العالمين وشافعٌ iiومشفّعٌ

علي بن أبي طالب لا تتهاوى بطولته أمام رغيف خبز، ولا تتهاوى بطولته أمام شهوة جنسية أو مادية، علي بن أبي طالب تتهاوى بطولته كلها إذا وقف في محرابه، علي بن أبي طالب تتهاوى تلك البطولة البدنية كلها إذا وقف بين يدي الله وقال: ”ركعة لي في دنياكم أحب إليَّ من الجنة وما فيها“، لذة العبادة هي التي يتنافس عليها الأولياء، هي التي تأسر قلوب الأولياء.

إذن، نحن متقوقعون في اللذة المادية، نتقاتل عليها، ونبكي عليها، وإذا فاتتنا نتحسر عليها، «ماذا نفعل في أولادنا في المستقبل إذا صارت الأوضاع فوضى؟! ماذا نفعل؟! نحن خائفون ومرتبكون وقلقون على أولادنا وأطفالنا، وما هو مصير وظائفنا ورواتبنا؟!»، كل خوفنا على فوت اللذة المادية، أما هل تكلمنا عن اللذة الروحيةظ هل تكلمنا عن لذة الصبر، لذة قوة الإرادة، لذة قوة التحدي، لذة الصمود، لذة العزيمة، هل تحدثنا عن ذلك؟!

من هنا يأتي دور الصبر، الصبر يعني تأجيل اللذة، الصبر يعني استبدال اللذة، استبدال اللذة المادية باللذة الروحية، هذا هو معنى الصبر، الصبر أن تنتقل من لذة إلى لذة، وكما يقول العرفاء: «اللذة في ترك اللذة»، اللذة في أن تعوِّض هذه اللذة الحسية المادية بنشوة الصلاة، بنشوة المناجاة، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، ولم يقل: استيعنوا بالأموال والأملاك والأسهم والعقارات، بل استعينوا بالصبر والصلاة، وكان علي إذا فزع لجأ إلى الصلاة، فالركن الثاني من الصبر تأجيل اللذة واستبدالها بلذة أخرى.

الركن الثالث: الإعداد.

ليس الصبر ألا تفعل شيئًا، وأن تنتظر الضربة الأخرى، بل الصبر إعدادٌ، الصبر أن تكون مستعدًا، أن تكون حذرًا، أن تكون ممهدًا، الصبر لا ينفصل عن الإعداد، «والله أنا صابر على المصائب لكنني جالس في مكاني»! هكذا لن يتغير شيء ولن يحدث أي شيء. عندما تقول لابنك: اصبر على الدراسة، فما معنى الصبر على الدراسة؟ بمعنى أن يذاكر، وإلا لو لم يذاكر لما كان صابرًا، فالصبر ليس حالة سلبية، بل الصبر عملٌ، الصبر إعدادٌ، الصبر حذرٌ، يصبر على الدراسة بمعنى أن يعدّ نفسه للنجاح في الامتحان، يصبر على البلاء بمعنى أن يعدّ نفسه لتجنّب المصائب الأخرى، فالصبر يحتاج إلى إعداد.

المجتمع الصابر هو المجتمع الذي أعدّ نفسه، حمى نفسه، المجتمع الذي مهّد الأرضية أن يتعاطى مع المستقبل تعاطيًا حذرًا، تعاطيًا مدروسًا، تعاطيًا مخطَّطًا له، ولذلك الآية المباركة ما اكتفت بالصبر، بل قالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، الصبر ليس مجرد حالة سلبية، الصبر يحتاج إلى عناصر.

إذن، الصبر - كما فهمنا - هو ركيزة أخرى في العلاج الديني، المنهج الديني لا يقول: بما أن الانتحار حالة مرضية، بما أن العدوان حالة مرضية، بما أن الخنوع حالة مرضية، إذن ضحِّ بحياتك من أجل زمكان لإنسان آخر أو لمجتمع آخر! لا، المنهج الإسلامي يقول: لا بد أن تحدّد مفهومك عن الحياة أولًا، ما هي الحياة؟ الحياة هي حياة الكمال الروحي، حياة الحضارة العادلة الأخويّة، هذه هي الحياة، هذا أولًا، والركيزة الثانية: الصبر، الصبر بعناصره الثلاثة: الثقة بالله، وتأجيل اللذة، والإعداد، هذا هو المهمّ، وهذا هو المطلوب.

الركيزة الثالثة: أن نتعامل مع هذه الدنيا التي نعيشها كما تعامل محمد وآل محمد.

نحن نقرأ في زيارة عاشوراء - وهي زيارة عظيمة - هذه الفقرة: ”اللهم أحيني حياة محمد وآل محمد، وأمتني مماتهم“، أنت تقول: أمتني مماتهم، فكيف تخاف؟! حياتهم حياة صبر، حياة عبادة، حياة قوة إرادة، عدم الخضوع، عدم الاتكال، قوة التحدي، قوة الإرادة، قوة الشموخ، هذه حياة محمد وآل محمد، هكذا تعاملوا مع الدنيا، وهذا ما ورد عن أمير المؤمنين علي : ”إن الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار عافيةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظةٍ لمن اتعظ بها“، الدنيا ليست قبيحةً، ”الدنيا مصلى ملائكة الله، مسجد أحباء الله، مهبط وحي الله، متجر أولياء الله“، هذه الدنيا تستطيع أن تحوّلها إلى نعيم، تستطيع أن تحوّلها إلى حياة روحية عالية.

إذن يا إخوان، علينا أنْ نستفيد من الأحداث التي تمرّ بنا في تربية أنفسنا وتربية أطفالنا، نربي أنفسنا وأطفالنا لا على القلق ولا على الجزع ولا على التوتر، بل نربّي أنفسنا وأجيالنا على الصبر، الصبر بمعنى الثقة بالله، الصبر بمعنى تأجيل اللذة، الصبر بمعنى الإعداد والحذر، نربّي أنفسنا وأجيالنا على أن قيمة الحياة ليست في المظاهر المادية، نربّي أجيالنا وأطفالنا.. لو خسرنا راتبًا، لو خسرنا طعامًا، لو خسرنا نعيمًا ماديًا، فهذا ليس خسارة، الخسارة أن نخسر إيماننا.

”اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا“، فلتكن علينا كل المصائب إلا هذه المصيبة، المهم ألا نصاب في ديننا، فلنربِّ أطفالنا على هذا، على الصبر، على قوة الإرادة، على قوة التحمّل، على أن الدنيا تكون جميلةً عندما تكون مفعمةً بقوة الإرادة، عندما تكون مفعمةً بقوة الإيمان، عندما تكون مفعمةً برضا الله تبارك وتعالى، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، علينا أن نحوّل حياتنا إلى حياة الاطمئنان بذكر الله.