كربلاء تاريخ متحرك

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم

صدق الله العلي العظيم

من خلال الآية المباركة نتحدث في عدة محاور:

  • المحور الأول: تحليل الفعل الإنساني.
  • المحور الثاني: الفرق بين الحدث التاريخي وبين الظاهره التاريخية.
  • المحور الثالث: هل هناك حتمية تاريخية؟
  • المحور الرابع: من أعظم الأحداث التاريخية هو حدث كربلاء.
المحور الأول: تحليل الفعل الإنساني.

الإنسان يختلف عن بقية الكائنات الحية، كالنبات والحيوان كل الكائنات الحية لها وجود واحد وهو الوجود الطبيعي تأكل وتشرب وتنام وتموت.

إلا الإنسان له وجودان: وجود طبيعي ووجود تاريخي.

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له تاريخ ويتفاعل مع التاريخ مؤثراً ومُتأثراً إذا الإنسان يختلف عن الحيوان والحيوان ليس له تاريخ يعيش ويموت، أما الإنسان يبقى له وجود وحضور في التاريخ، لماذا؟

الشيخ المطهري في كتابه: «المجتمع والتاريخ» ينطلق من منطلق فلسفي للوجود التاريخي للإنسان. الإنسان ما يصدر منه إما فعل وإما انفعال، أكله وشربه ونومه وتنفسه هذه أحداث انفعالية تصدر من الإنسان.

وهناك قسمٌ يصدر منه بفعل وإرادة لأن الإنسان يتميز على الكائنات الحية بعنصرين: الفكر والإرادة، لأجل ذلك يصدر منه الفعل ولا يختص ما يصدر منه بالإنفعال.

الفعل الذي يصدر من الإنسان على قسمين: فعل صامت والفعل الرمزي، ما الفرق بينهما؟

هذا الإنسان يخرج إلى العمل صباحاً، هذا فعل صامت لأنه فعل روتيني يتكرر منه يومياً أو هذا الإنسان يذهب إلى زيارة الحدائق والأسواق هذا فعل صامت يرجع لعوامل معينه.

لكن هناك قسم من الأفعال يصدر من الإنسان ويُسمى بالفعل الرمزي ومعناه بأنه يرمز إلى دلالات معينة، هذا الإنسان عندما يصلي هذا فعل رمزي يرمز إلى روح عباديه أو عندما يقيم علاقة مع أصدقائه هذا يرمز إلى روح اجتماعيه وخلقيه.

الإنسان عندما يبتكر مُخترع أو يقدم أطروحة دكتوراه أو ماجستير هذا كله يسمى فعل رمزي لأنها تكشف عن روح ثقافية.

إذن الفعل الصادر من الإنسان يتميز على الحيوانات قد يكون فعلاً صامتاً ليس له أي مدلول روتين يتكرر منه، وقد يكون فعلاً رمزياً له دلاله رمزيه على روح اجتماعية أو على روح عباديه أو ثقافية، هذا الفعل الرمزي الذي يصدر من الإنسان لأنه يمتلك فكر وإرادة هو الذي يصنع التاريخ، فالإنسان قادر على أن يصنع التاريخ بأفعاله الرمزية ويستطيع التحكم في مسيرة التاريخ بأفعاله الرمزية.

إذن نحن عندما نقول الإنسان له وجودان: وجود طبيعي بيولوجي أكله وشربه ونومه هذا لا يتميز عن الحيوانات. وله وجود تاريخي هو الإنسان يصنعه من خلال فعله الرمزي الذي يرمز إلى ثقافته أو إلى إرادته أو يرمز إلى عقله.

المحور الثاني: الفرق بين الحدث التاريخي وبين الظاهره التاريخية.

عندما نعود إلى علم الإجتماع التاريخي يُفرق لنا بين الحدث التاريخي وبين الظاهره التاريخية، ما هو الفرق بينهما؟

الحدث التاريخي: هذه الأحداث التي تمر على البشرية أحداث تاريخية تتغير بتغير الزمن. الأحداث التاريخية بعضها ساكن وبعضها متحرك، حتى الأحداث التاريخية التي يصنعها الإنسان عن فكر وإرادة بعضها ساكن وبعضها متحرك، كيف ذلك! أن بعضها يحدث ثم يمضي لا يبقى له أثر على الواقع وبعضها يبقى مؤثراً في الواقع الإنساني كلما مر الزمن.

مثلاً: عندما تأتي إلى ولادة موسى أو ولادة إبراهيم هذا حدث لكن لا يوجد له أثر على الواقع الإنساني، ما الذي له أثر على الواقع الإنساني؟

يجب أن تفرق بين تاريخ يوسف وتاريخ إبراهيم، يوسف مر بأحداث جِسام إلى أن حكم مصر لكن كل هذه الأحداث ليس لها أثر على الواقع الإنساني. إذن هي أحداث صامته وساكنه لم يبقى لها أثر على الواقع الإنساني وإن بقيت في ذاكرة التاريخ، لكن عندما تأتي إلى إبراهيم الخليل الذي ذهب إلى مكة المكرمة وأبقى زوجته هاجر وولده إسماعيل وبنى الكعبة المشرفة ويذكر القرآن الكريم قصة بناء إسماعيل وإبراهيم للكعبة المشرفة هذا الحدث مازال إلى يومنا حاضر. ما قام به إبراهيم الخليل قبل موسى ويوسف وقبل كل الأنبياء: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ بقي إلى يومنا شاهداً وحاضراً.

هذا يعتبر حدث متحرك، لماذا؟ لأنه مازال له أثر على الواقع الإنساني وسيبقى هذا الأثر إلى يوم القيامة، فالإنسان هو الذي يصنع التاريخ لكن بعض الأحداث تبقى ساكنه تمضي وبعضها تبقى أحداث متحركة يبقى لها أثر على الواقع.

تاريخ محمد مازال حاضراً بأحداثه وخطبه وحكمه، تاريخٌ مازال فاعلاً في الواقع الإنساني، إذن هي أحداث متحركة وليست أحداث ساكنه.

الحدث التاريخي هل يحدث فجأة منعزل عن العوامل الأخرى؟ الحدث التاريخي تحكمه الظاهرة التاريخية والظاهره تكون وراء الحدث التاريخي.

دور كايم: عالم الاجتماع الفرنسي في كتابه «منهج علم الاجتماع التاريخي» يفرق بين الحدث التاريخي والظاهرة التاريخية.

يقول: أن الحدث التاريخي يستطيع أي مؤرخ ومؤلف أن يدونه، ابن الأثير وابن كثير أو الطبري يكتب لنا أحداث هنا يسمى حدث تاريخي، أما عالم الاجتماع الذي دوره التحليل والتأمل وليس دوره التدوين والتسجيل، عالم الاجتماع ينبش وراء الفراغات ويقول: هذا الحدث ماهي الفراغات والهوامش وراءه، العوامل التي تكمن وراء الحدث هي التي تسمى بالظاهرة التاريخية.

الظاهرة التاريخية: تتحكم في الأحداث ومسيرتها، فالأحداث التاريخية لا تحدث فجأة ولا تحدث منعزلة، هناك عوامل تتحكم فيها، تلك العوامل خارجه عن إرادة الإنسان أحياناً أو أنها مؤثره على إرادة الإنسان أحياناً تلك العوامل متواصلة هي التي تتحكم في الأحداث التاريخية.

إذن الفرق بين الحدث التاريخي والظاهرة، وهو أن الحدث ما نراه ولكن الظاهرة هي ما وراء الحدث، العوامل التي تتحكم في مسيرة الحدث.

مثلاً: حركة الحسين ابن علي هذا حدث تاريخي، لكن هل هو حدث منعزل ومُستقل؟ الحسين صنع حدث ليس له إرتباط بالتاريخ الذي قبله وبعده، الحسين صنع الحدث في كربلاء بشكل مستقل عن كل العوامل الإجتماعية. لا! هناك عوامل ساهمت في صنع الحدث، صحيح الحسين إرادته وإيمانه وشموخه صنع الحدث لكن هناك عوامل أخرى أيضاً ساهمت في صنع الحدث، حدث كربلاء لا تستطيع أن تقرأه مُنفصل ومنعزل عن العوامل الأخرى تسمى الظاهره التاريخية، ماهي هذه العوامل؟

هناك عامل اقتصادي واجتماعي وثقافي.

العامل الاقتصادي: السياسة الأموية عندما جاءت شكلت طبقة اقطاعية وطبقة فلاحه عاملة، هذا العامل الذي قسم المجتمع الإسلامي كان عامل من عوامل أحداث كربلاء.

يذكر التاريخ أن ترِكت عبدالرحمن ابن عوف وهو أحد صحابة رسول الله كانت ربع الثمن من أمواله يُقدر ب 84، 000 دينار ذهبي، وكما يذكر المسعودي في «مروج الذهب» عن زيد ابن ثابت عندما قسمت أمواله يقول: ”عندما قسمت أمواله كانت تُكسر كنوز الذهب والفضة بالفؤوس من كثرتها“ هذه الطبقة اقطاعية أحدثتها السياسة الأموية آنذاك.

لذلك عندما جاء الإمام علي أوجد صراع في داخل المجتمع الإسلامي قال: ”ألا وإن كل قطيعه قطعها فلان فهي مردوده إلى أهلها وإن كان قد تزوج بها وملك بها الإماء، فإن في العدل سعه ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق“ وعندما أراد الإمام علي ارجاع الأموال كلها إلى خزانة بيت المال حدث صراع في وسط المجتمع الإسلامي. إذن هذا كان العامل الاقتصادي ساهم في ثورة وحركة الحسين.

العامل الاجتماعي: العرب منذ الأيام الأولى يعيشون ألوان الإجتماعية، قريش لها الوجاها والقبائل الأخرى أقلُ منها.

قريش نفسها تنقسم إلى: بني هاشم وبني أمية وبني شيبة كل فخذ من هؤلاء له وجاها مُعينه في المجتمع المكي، هذه عوامل اجتماعية أثرت على الساحة والمُجتمع الإسلامي.

مثلاً: عند قراءة الآية المباركة: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ هذه الآية تحكي كيف كان المجتمع يعيش الطبقية وألوان متمايزة.

جلس عتبة ابن شيبه والعباس ابن عبد المطلب والإمام علي، فقال عتبه: ”من مثلي وبيدي مفاتيح الكعبة“ نحن بنو شيبه نفتح الكعبة ونغلقها وإلى الآن قبيلة بني شيبة بيدها مفاتيح الكعبة، قال العباس ابن عبد المطلب: ”ومن مثلي وبيدي سقي الحجيج وإطعامهم“ لأن هاشم هذا لقب جد النبي عبد مُناف ولأن جد النبي كان يقدم الثريد واللحم فكان يهشم الثريد ويُقطعه فلقب ب هاشم، ومضت إطعام الحجاج والبذلُ لهم أصبحت سيرة في بني هاشم.

هذه التنافسات والصراعات الإجتماعية على المواقع هذا ما كان عليه المجتمع العربي في ذلك الوقت، فقال الإمام علي: ”لا أدري ما تقولان أنا أول من آمن بالله وجاهد في سبيل الله“ فنزلت الآية: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ.

إذن هذا عامل الاجتماعي إحدى العوامل في الثورة الحسينية مُضافاً إليها العامل الثقافي، كيف أن الدولة الأموية حرفت الثقافة الإسلامية إلى ثقافة أخرى واستوردت الروايات الإسرائيلية التي شوهت الفكر الإسلامي.

ثورة الحسين لم تأتي مفاجأة ولا مُنعزلة وإنما حدث وراءه عوامل وهي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أسهمت في حدوث ثورة الحسين وحركته ”ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما“.

المحور الثالث: هل هناك حتمية تاريخية؟

هل هناك نتائج النتائج التاريخية قابلة إلى التغير ومتذبذبة وهي مرنة ليست هناك نتائج حتمية لمسيرة التاريخ؟

كارل غوبر لديه كتاب «المجتمع المفتوح وأعدائه» يتكلم عن الحتمية التاريخية، يرفض الحتمية التاريخية وأن التاريخ نتائجه متذبذبة مضطربة لا تستطيع أن تقول بأن التاريخ بعد 20 سنه سيكون التاريخ بهذا أو بعد 100 سنه، لا يوجد هناك نتائج حتمية، التاريخ متذبذب، لماذا؟

يقول: لأن التاريخ تابع للنمو الثقافي والنمو الثقافي لا تستطيع أن تضبطه تحت ضابط، هذا المجتمع الأمريكي قبل 100 سنه كيف كانت ثقافته والآن بعد 100 سنه كيف أصبحت ثقافته وبعد 50 سنه كيف تكون ثقافته، التاريخ متفرع على النمو الثقافي بمقدار ما يمتلك المجتمع من عامل ثقافي يسير ويتطور تاريخه ونحن لا نستطيع أن نحدد ما هو المستوى الثقافي الأمريكي، إذن لا نستطيع أن نحدد نتيجة حتمية لتاريخ هذا المجتمع.

هذه النظرية الحتمية التاريخية التي يُنكرها غوبر صحيح أم لا؟

عدة من علماء الاجتماع قالوا لا نستطيع أن نأخذها، لأن المجتمعات تختلف، هناك مجتمع مستقر وآخر مجتمع مُضطرب. نأتي إلى مجتمع العراق هل تستطيع التنبؤ عنه؟ لا.

هذا المجتمع العراقي يعيش مخاض ثقافي واجتماعي وإقتصادي بما أن المجتمع العراقي يعيش مخاضات كثيرة نتيجة الاختلافات الاضطرابات السياسية والثقافية والاجتماعية. إذن إذا نظرت لهذا المجتمع لا تستطيع أن تعطيه نتيجة حتمية بأن يكون بعد 20 سنه بأن تكون ثقافته ليبرالية وليست ثقافة إسلامية، أو بعد 30 سنه سيكون مثل مجتمع اليابان مِعطاء وعامل لا تستطيع التكهن لأن المجتمع مُضطرب يعيش مخاضاً عسيرا.

لذلك نحن نقول مسيرة التاريخ تتبع النمو الثقافي وأنت لا تستطيع ضبط النمو الثقافي في المجتمع العراقي، مسيرة التاريخ تتبع القيم الأخلاقية وأنت لا تستطيع أن تقول ماهي الثقافة القيمية للمجتمع العراقي بعد 10 سنوات، مادام التاريخ تابعاً للنمو الثقافي وتابعاً للقيم والأخلاق فلا يمكن التنبؤ لهذين الركيزتين بهاذين العنصرين: الثقافة والأخلاق، لا تستطيع أن تعطي نتيجة حتمية لهذا المجتمع.

بخلاف المجتمع الياباني هل تستطيع التكلم عنه؟ مُجتمع مُستقر معالمه واضحه ومفاصله الثقافية والاقتصادية والاجتماعية واضحه، تستطيع أن تُعطي نتيجة لمسيرة التاريخ في هذا المجتمع بعد 20 سنة أو 30 سنه.

إذن الحتمية التاريخية ليست مُطلقة كما أن الاضطراب التاريخي ليس مُطلقاً بل يختلف ذلك بإختلاف المجتمعات، فرق بين المجتمع المستقر والمجتمع الذي يعيش مخاضاً عسيراً.

الرؤية القرآنية: عندما تتكلم عن مسيرة التاريخ، السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه «المدرسة القرآنية» عندما يتكلم عن التاريخ الاجتماعي كعالم اجتماع، هذا الرجل كان فقيه وفيلسوف وفقير وكان متضلع اقتصادياً وكان يُعتبر عالم في مجال علم الاجتماع التاريخي وله كتاب لم يُطبع «مجتمعنا» وقد سألوه عنه، قال: «مجتمعنا يئباه مجتمعنا» مجتمعنا يرفض أن يستفيد هذا الكتاب كتاب مجتمعنا.

عندما يأتي لمسيرة التاريخ الاجتماعي ينطلق من الرؤية القرآنية لمسيرة التاريخ الاجتماعي، ماهي الرؤية القرآنية لمسيرة التاريخ الاجتماعي؟ القرآن وضع سنن، والتاريخ لا يسير من غير قوانين كما أن الطبيعه لها قوانين كذلك التاريخ له قوانين وكما أن الكون يخضع لقوانين حاكمه منضبطة التاريخ أيضاً يخضع لقوانين منضبطة وتلك القوانين تسمى سنن التاريخ أو السنن الاجتماعية التي تحكم مسيرة التاريخ.

فإذن إرادة الإنسان عامل من عوامل صنع التاريخ لكن الإرادة وحدها لا تكفي في صنع التاريخ هناك سنن تحكم مسيرة التاريخ فما هي؟

القرآن الكريم يقول: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا

مثال على السُنة: السُنة الأولى: سنة إستلام السلطة بيد المترفين. القرآن الكريم تعبيره دقيق يقول: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا

هناك قراءتان أمّرنا وهي قراءة واردة عن الأئمة

أمّرنا مترفيها معناه: أن المترفين استلموا السُلطة، أمّرنا بمعنى جعلنا لهم الأمارة والسُلطة.

المترفون هم الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية يُفكر في أكله ونومه يفكر في وسادته الناعمه ويفكر في أملاكه وعقاراته ويُفكر في حاشيته وجماعته، هذا المُترف الذي لا يُفكر إلا في أهدافه الشخصية إذا استلم السلطة إذن هذا باب للفساد والفسق وهذا الباب يجر إلى الدمار فالمجتمع يتدمر اقتصادياً واجتماعياً، هذه سُنة إجتماعية وحاكمة من سنن التاريخ متى استلم السُلطة المترفون دمرت ثروة المجتمع.

السُنة الثانية: ينص عليها القرآن: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم. وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم

التغيير التاريخي فرع من التغيير الثقافي، إذا المجتمع لا تتغير ثقافته لا يتغير تاريخه وإذا لا تتطور ثقافته لا يتغير تاريخه وإذا المجتمع يبقى على الخرافات والأحلام والرؤى والفِرق المتخلفة لن يتغير تاريخه ولا يتطور أبداً يبقى على ما هو عليه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم تغيير الثقافة طريق لتغيير الإرادة وتغيير الإرادة طريقٌ لتغيير التاريخ، إذن هذه السُنن اجتماعية حاكمة مسيطرة.

لذلك القرآن يرى أن من السنن الاجتماعية الحاكمة المُأثرة مهما تغيرت الظروف وتبدلت الألوان أن الحق ينتصر لا محالة، القيم قيمة العدالة والحق تنتصر في يوم من الأيام هذه سُنة تاريخية مهيمنة. ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وقال تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا

هذه سُنة اجتماعية أن الحق ينتصر لا محالة، الفضيلة والعدالة تنتصر لا محالة مهما تعاقبت الظُلمات والظروف الحالكة العدالة والقيم تنتصر لا محالة هذه سنة اجتماعية مهيمنة.

إذن القرآن يُؤمن بالحتمية التاريخية بشكل مُوجز وهو أن بعض السُنن الاجتماعية تبقى تحكمُ مسيرة التاريخ ويخضع لها تاريخ الإنسان بمختلف ظروفه وألوانه.

المحور الرابع: من أعظم الأحداث التاريخية حدث كربلاء.

هذا ليس حدث ساكن وإنما حدث مُتحرك، الظالمون مهما فعلوا مع الحسين لم تمت قضية الحسين منذ أول يوم في تاريخ بني أمية إلى آخر يوم من تاريخ الظلمة في العراق. كم حاولوا طمس قضية الحسين وكم حاربوها، كم حاولوا أن يقتلعوها من الجذور لكنها بقية تبسط نفوذها وتُعطي امتداداتها وتمدُ جذورها.

قضية الحسين حدث متحرك وتاريخ متجدد قضية الحسين تثير كل عام، في كل سنة تكبر القضية وتمتد أكثر، الإعلام يتعاطف معها أكثر وفي كل عام تمتد القضية اعلامياً وانسانياً أكثر من العام الذي قبله.

هذا معناه بأن الحدث الذي جسد عظمة البطل بقوة الإرادة وقوة الإباء والعزة، هذا الحدث الذي شكل أعظم إبادة جماعية سمعها التاريخ بقي مُتجدداً يُثير الضمير الإنساني ويُحرك الإرادة البشرية.

حدث الحسين حدث كربلاء، نرى بعض الأقلام التي تكتب يقولون بأن هذا الحدث لعل أكثره خرافة وأسطورة، نحن من أين نضمن وقوع هذه الأحداث؟ هل هذا الحدث كما يُجسده الشيعه؟

الحدث يطرحه الشيعه سنوياً بكل فعاليتهم وبرامجهم، يبذلون فيه الأموال الطائلة والطاقات الفاعلة والقدرات الكبيرة، لكن هل الحدث بمستوى ما يصنعه الشيعه؟ هل الحدث فعلاً له واقع تاريخي بهذا الحجم الذي يصنعه الشيعه الإمامية تفاعلاً وتعاطفاً مع هذا الحدث في كل سنه؟ أم وراء القضية خرافات وأساطير، هل الحدث ثابت بهذا المستوى أم لا؟

أحداث كربلاء مرت بثلاث مراحل:

  • مرحلة الرواية.
  • مرحلة التدوين.
  • مرحلة التنقيح والفرز.

المرحلة الأولى: الرواية.

يأتي شخص ويقول: من روى قضية كربلاء فهم جميعهم قد قتلوا من الذي رواها حتى نثق بأحداثها؟

الرواة الذين شهدوا كربلاء وعاصروا أحداثها وجها لوجه هم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الذين لم يستشهدوا في كربلاء، هناك البعض من أصحاب الحسين لم يستشهد وبقي وروى لنا الحادثة. منهم: عقبة ابن سمعان، خرج مع الحسين من المدينة إلى ما بعد مقتل الحسين وفارق كربلاء دون أن يُستشهد، قال: صحِبة الحسين من المدينة إلى أن قُتل وكل مقولاته وخطبه كتبتها وسجلتها.

وآخر: الضحاك المشرقي هذا من أنصار الحسين وعاهد الحسين، عندما التقى الحسين في الطريق إلى العراق تعاهد مع الحسين وقال له: أنا أعاهدك أن أنصرك ما دام معك ناصر، وجاء الضحاك وقاتل يوم كربلاء ولكن لما أصبح الحسين وحيداً ليس لديه أحد وإلى آخر لحظات الحسين وهو معه حتى بعد مقتل الهاشميين، قال: يا أبا عبدالله أنت أصبحت وحيداً، قال له الحسين: ”أنت في حِلٍ من بيعتي خذ فرسي وأخرج به خارج كربلاء“. وخرج الضحاك المشرقي بفرس الحسين خارج كربلاء ولم ينل الشهادة وأصبح من الرواة الذين رووا هذه المعركة.

وآخر ثالث: المرقع ابن ثمامه الأسدي، قاتل مع الحسين وقطعت يده ووقع بين القتلى وظنوا أنه قُتل فلما إنتهت المعركة وأقبلت القبائل تحتز الرؤوس وكل قبيلة تريد التقرب من عبيد الله ابن زياد بمجموعة من الرؤوس، اقبلوا ووجدوه حياً فأرادوا أن حز رأسه فأقبلت قبيلة بني أسد لأنه أسدي انتصرت بين القبيله وصارت هناك مفاوضات بين القبيلة وبين عبيد الله ابن زياد وجاؤوا به أسيراً إلى عبيد الله ابن زياد لم يعفي عنه إلا بالنفي فنفي إلى منطقه أخرى.

الحسن ابن الحسن المُثنى، أكبر أبناء الإمام الحسن لم يُقتل في كربلاء وإنما جُرح يوم عاشوراء وكان بعض أخواله من مُعسكر عمر ابن سعد فأخذوه وأنقذوه وتركوا بني هاشم وعاش جريحاً وعُمّر وعاش أكثر من 80 سنة وكان من رواة الواقعة، ونسل الحسن الآن من هذا الشخص وجميع الحسنيين جاؤوا من الحسن المُثنى.

إذن لدينا رواة عاصروا الواقعة إلى أن انتهت ورووا أحداثها وتفاصيلها.

القسم الثاني: النساء، أين أم كلثوم؟ العقيلة زينب قد توفيت بعد الحسين بسنه أو سنتين حسب كلام المُؤرخين، ولكن البقية مثل: سكينة وأم كلثوم روت الحادثة وكذلك بعض النساء الأخريات.

القسم الثالث: الأئمة الذين حضروا الحادثة، الإمام السجاد والإمام الباقر، رواية الفرس قد رواها الإمام الباقر أن الفرس عاد إلى الخيمات وهو ينادي ”الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها“ الإمام الباقر هو الذي روى أن آلالاف الطعنات والضربات وقعت على جسم الحسين.

ومن الأقسام الذي شهدت الواقعة مُعسكر عمر ابن سعد ليس كل المعسكر كان مقاتلاً، حميد ابن مسلم كان صحفي وإعلامي يُسجل الواقعة. يأتي إلى الحسين يراه ماذا يقول ويذهب إلى عمر ابن سعد ويرى ماذا يقول، ويذهب إلى الأنصار ماذا يقولون فقد كان صحفي إعلامي متجول في المعركة سجل كثيراً من الوقائع التي حدثت آنذاك.

إذن الرواة الذين شهدوا الواقعة كثيرون وبالتالي الحادثة والواقعة اشتهرت شهرة كبيرة لأن هؤلاء الرواة بعد إنتهاء الحادثة يأتي إليهم الناس ليتسائلوا والفضول يتصاعد عند أهل الكوفة والحجاز وعند أهل البصرة، فهؤلاء الرواة صنعوا تاريخاً عندما رووا الواقعة كما شهدوها للناس بعد تمام الحادثة.

المرحلة الثانية: التدوين.

أول من كتب في مقتل الحسين الأصبغ ابن نباته أحد أصحاب الإمام علي وقد عاش إلى سنة 70 للهجرة، الحسين قتل في عام 61 وقد سجل الأصبغ ابن نباته الأحداث ونقلها ودونها.

وبعدها يأتي جابر ابن يزيد الجُعفي المتوفى سنة 128 للهجرة أحد أصحاب الإمام الباقر كتب مقتلاً سمع من الرواة ومن الباقر.

وبعده مقتل عمار الدُهني من أصحاب الإمام الصادق وقد توفي سنة 133 للهجرة، كتب المقتل الثالث. وتوالت المقاتل مقتلاً بعد مقتل إلى أن اشتهر هذا المقتل مقتل لوط ابن يحيى المُلقب بأبي مِخنف هذا الرجل توفي عام 157 للهجرة لكنه أتعب نفسه في جمع تفاصيل كربلاء فسمع من الشهود ومن الأئمة الطاهرين وأخذ المقاتل التي كُتبت قبله فجمعها في مقتله المُعبر عنه بمقتل أبي مِخنف.

إذن كربلاء ليست سرقه حدثت في الطريق فهي حادثة مشهورة حضرها الكثير ورواها وكتب عنها الكثير ودوّنها الكثير.

المرحلة الثالثة: التنقيح.

الأئمة صلوات الله عليهم الصادق والرضا تصدوا للمقاتل التي كتبت عن حدث الحسين وواقعة كربلاء ونقّحوا منها الكثير، لا تتصور بأن هذه الحادثة خرافة وأساطير.

حادثة كربلاء من الشُهرة والاستفاضة، مالم يحصل لحادثة أخرى، تاريخ النبي ليس مضمون مثل حادثة كربلاء، تاريخ النبي لم يكتب إلا بعد 80 سنة من وفاة الرسول بينما حادثة كربلاء كُتبت في نفس السنين التي عقبة كربلاء قبل سنة 70 وقبل مرور 8 سنوات على الحادثة دُونت وكتبت وسُجلت هذه المعركة.

ومعركة كربلاء من الإستفاضة والشهرة لا نقول كل الأحداث وقعت لكن نقول بأنها مشهورة ومستفيضة، وما خفي منها أعظم مما وصل إلينا عنها نتيجة محاربة الظالمين ومقاومة المُعتدين وتدليس المُدلسين، لأجل ذلك تبقى هذه الحادثة وتبقى هذه المعركة حية ومُتجددة بتفاصيلها تفاصيل الإباء والطُهر وتفاصيل العزة والفداء والتضحية.

فَأَقْبَلْنَ رَبَّاتُ الحِجالِ ولِلْأَسَى تَفاصِيلُ لا يُحْصِي لَهُنَّ مُفَصِّلُ

والحمد لله رب العالمين.