الحلقة 6 | علاقة الإحساس بالواقع

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام في مناقشة المدرسة التجريبية إلى البحث عن الواقع الموضوعي في الأشياء.

وبيان ذلك: إن الموقف الفطري للإنسان يدرك أن هناك واقعًا موضوعيًا للعالم الخارجي، وهو يتعامل مع هذا الواقع الموضوعي على أساس الإدراك الحسي، ولذلك نرى الطفل في مرحلة الرضاعة بشكل تلقائي يتّجه نحو ثدي أمه، ونرى الإنسان إذا جاع يتجه إلى الغذاء، وإذا عطش يتجه إلى الماء، ويتزوج ويعمل... إلخ، كل ذلك لإيمانه بأن هناك واقعًا موضوعيًا للعالم الخارجي، وهو يتعامل مع هذا الواقع الموضوعي من خلال الإدراك الحسي.

ومن أجل البحث حول هذه النقطة بين المدرسة التجريبية والمدرسة العقلية نتعرض لمحاور ثلاثة:

المحور الأول: واقعية الوجود الموضوعي للأشياء.

من الملاحَظ أن المدرسة التجريبية قد تطورت من رأي إلى آخر إلى أن وصلت إلى المثالية المحضة.

فعندما نقرأ في مقالات «جون لوك» نجده يقسّم صفات الأشياء إلى صفات أوليّة وصفات ثانوية، فالصفات الأوليّة هي ما يدركه الإنسان بإدراكه البسيط من اللون والطعم والرائحة، بينما الصفات الثانوية هي التي تدله على وجود جوهر في الخارج يتّصف بهذه الصفات، من الامتداد والشكل والحركة والصلابة ونحو ذلك.

ونرى أيضًا أن «كانت» يعترف بأن هناك واقعًا للأشياء لكننا لا نستطيع أن نصل إلى إدراكه، وإنما ندرك ظواهره وصفاته، فنحن لا ندرك من البرتقالة جوهرها وواقعها، وإنما ندرك ظواهرها وصفاتها المحسوسة.

لكن عندما تصل المسيرة إلى «باركلي» فإنه ينكر ذلك، وهو بحسب تعبيرهم إمام المثالية، أي: إمام الاتجاه المثالي في علاقة الإحساس بالخارج، وقد تعرّض زكي نجيب محمود في كتاب «نظرية المعرفة» لتحليل موقف «باركلي» في علاقة الحس بالخارج، وكذلك فؤاد زكريا في «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان».

ومحصّل ما يقوله «باركلي»: لا دليل على وجود واقع وراء إدراكاتنا، بل الوجود بالإدراك وليس بشيء آخر، فلا وجود إلا ما ندرك، وأما وراء هذه الإدراكات كلها فلا يوجد واقع.

وعلى ذلك، فمن الخطأ أن تقول: هناك طاولة أمامي، بل ليس هناك إلا لمسك وإحساسك بصلابة، وليس وراء هذا الإدراك شيء، وكذلك أيضًا:

  • من الخطأ أن تقول: هناك صوت، والصحيح أن تقول: أسمع.
  • من الخطأ أن تقول: هناك رائحة، والصحيح أن أقول: أشم.

وإلا فلا يوجد دليل على وجود صوت ولا رائحة، ولا على وجود أي واقع موضوعي وراء إدراك الإنسان، إذ وجود الواقع إنما هو بهذا الإدراك وليس شيئًا آخر وراءه، وبالتالي فهذا الاتجاه المثالي يرتكز على ركيزتين:

  • الركيزة الأولى: الواقع الذاتي للأشياء.
  • الركيزة الثانية: الفصل بين الظواهر وبين الواقع المزعوم.

أما في الركيزة الأولى، فإنَّ «باركلي» يقرّر بأنه ليس هناك واقع موضوعي، بمعنى أنه ليس هناك واقع للأشياء بغض النظر عن إدراكنا، بل ليس هناك إلا واقع ذاتي، بمعنى أن وجود الأشياء هو ما ندركه بذواتنا، فلا وجود للأشياء المُبصَرة إلا إدراكها بحاسة البصر، ولا وجود للأشياء الملموسة إلا الإدراك بحاسة اللمس، أي فكل ما ندّعي أنه حولنا هو عبارة عن صور ترتسم في ذواتنا وإدراكنا وليس شيئًا آخر، فما يسمى بالواقع هو واقع ذاتي وليس واقعًا موضوعيًا.

وأما الركيزة الثانية، فهي الفصل بين الظواهر والواقع المزعوم، فالظواهر - كاللون والطعم والرائحة والشكل والحركة - هي الواقع وليست شيئًا آخر، فليس هناك جوهر يتصف بهذه الصفات نحن نصل إليه عبرها ونثبت وجوده، بل ليس هناك إلا هذه المدركات التي نعبّر عنها بالظواهر.

موقف المدرسة العقلية:

إنَّ المدرسة العقلية - التي تتبنّاها المدرسة الإسلامية - في مقابل هذا الاتجاه المثالي تقرر بأن ما يعبّر عنه بالواقع الذاتي ليس صحيحًا، بل هناك واقع موضوعي للأشياء وراء إدراكنا، وأما الظواهر فليست إلا طورًا من أطوار الواقع ولونًا من ألوانه، فالبرتقالة التي أمامنا مثلًا لها لون معين، وطعم معين، ورائحة معينة، وامتداد معين، وسطح معين، وجميع هذه الظواهر ليست شيئًا منفصلًا عن الواقع الموضوعي، بل هي طور من أطوار وجوده.

ولذلك يوجد - بحسب تعبير الفلاسفة المسلمين - بين العرض وموضوعه تركيب اتحادي لا تركيب انضمامي، فليس هناك وجودان منفكان، بل هناك وجود واحد له أطوار وألوان، ومن أطواره وألوانه: امتداده وشكله ورائحته وطعمه، فهذه كلها ألوان لوجوده وليست شيئًا منفكًا عن وجوده.

والمشكلة هي أننا في مناقشة الاتجاه المثالي نضطر إلى أن نثبت ما نؤمن به بالفطرة إيمانًا بديهيًا، إذ لولا وجود واقع لما سعى الجائع إلى الطعام، ولما سعى العطشان إلى شرب الماء، ولما سعى الطفل إلى ثدي أمه، فهذا إيمان فطري يدركه حتى «باركلي» الذي يدرك أن له قلمًا ويدًا... إلخ، لا أن هذا مجرد مدركات فقط.

ومع ذلك نقول في مقام الاستدلال - الذي هو في الحقيقة عبارة عن إثارة منبّه على هذا الأمر الفطري - إنَّ هناك فرقًا بين ممارسة الإحساس وبين الوصول القهري للأشياء، إذ ممارسة الإحساس فعل اختياري للإنسان، فلو أردت أن أُدرك الضوء ببصري فإنني أفتح بصري لأرى الضوء، وعندما أريد أن أدرك حرارة النار بلمسي فإنني أضع يدي على الجسم الحار أو على النار فأدرك حرارتها، وهذه عملية اختيارية.

وأما الوصول القهري للأشياء فهو شيء آخر، كالإنسان الذي يتعرض لنار، فتصل إليه حرارة النار ووهجها أراد أم لم يرد، أو كالذي يخرج في رابعة النهار في وسط الضحى وهو يرمق ببصره الشمس، فإن أشعتها وحرارتها تصل إلى بصره شاء أم لم يشأ، فهناك فرق بين الإحساس الاختياري والوصول القهري للأشياء.

ومن هنا نعلّق ونقول: لو كان وجود الأشياء هو بإدراكنا لها، بحيث لا وجود لها وراء الإدراك، لما أمكن لهذه الأشياء أن تصل وصولًا قهريًا للإنسان، وإلا بماذا نفسر الوصول القهري؟! فلو كان وجود الأشياء فقط بوصول إدراكنا، وليس للأشياء واقع وراء إدراكنا لها، لكان بالإمكان أن أعطل حاسة البصر أو حاسة الشم أو حاسة اللمس فأقول ليس هناك أشياء؛ لأن وجودها بوجود إدراكي لها!

فالوصول القهري لهذه الأشياء يكشف عن أن هناك وجودًا واقعيًا وراء إدراكك، إذ لو كان الأمر يدور وراء إدراكك لكان الأمر باختيارك أن توجد أو لا توجد، فأنا مثلًا باختياري أن أوجد الشمس أو لا أوجدها، فإن نظرت وُجدت الشمس، وإن لم أنظر لم توجد، وإن لمست وُجدت الطاولة، وإن لم ألمس لم توجد.

ولذلك يقولون: لا نستطيع أن نثبت أنّ للأشياء وراء بعدنا عنها واقعًا، ولكن بما أننا نرى بالوجدان أن هناك وصولًا قهريًا للأشياء نحو ذهن الإنسان، حيث ترتسم صور قهرية في ذهنه شاء أم لم يشأ، وحتى لو أراد أن لا تكون فإنها تكون، فهذا دليل على أن وراء الإنسان ووراء ذاته ووراء إدراكه يوجد واقع موضوعي.

وما ذكرناه إنما هو من باب المنبّه ليس إلّا، وإلا فإدراك الواقع الموضوعي بديهي، والبديهي لا يصح الاستدلال عليه.

المحور الثاني: مطابقة الحس لهذا الواقع الموضوعي.

ذكر زكي نجيب محمود - الذي يتبنى «الفلسفة الوضعية المنطقية» التي تنحدر عن الاتجاه المثالي وتتفرّع عنه - في كتابه «نحو فلسفة علمية» أنَّ الدافع الذي جعل الفلاسفة المثاليين ينكرون الواقع الموضوعي أو يشكّكون في وجوده - أو على الأقل يقولون إننا لا نستطيع أن نثبت وجوده - هو الخطأ في الحواس، إذ إنّنا في الصحراء مثلًا نرى سرابًا فنحسبه ماء، فإذا وصلنا إليه لم نجده شيئًا، وإذا وضعنا العصا في الماء المتموج نراها منكسرة كأنها حية، بينما هي عصا ثابتة.

وإذا كانت الحواس تخطئ، فما الذي يضمن لنا في سائر ما نسمّيه واقعًا موضوعيًا أنه كما أدركته؟ وبعبارة أخرى: ما الذي يضمن لنا مطابقة الحواس لهذا الواقع حتى نعتبر أن الواقع تجلى لنا من خلال الحواس تجليًا واقعيًا؟ لا شيء يثبت ذلك، إذ لعل الحواس أخطأت وصوّرت لنا أن هناك واقعًا موضوعيًا، مع أنه لا يوجد شيء في الواقع.

بل حتى لو سلّمنا بأن هناك واقعًا موضوعيًا، فنحن لا يمكن أن نصل إليه، ولذلك يقول زكي نجيب محمود - تأثرًا بنفس كلمات «باركلي» في هذا الباب: أنا عندما أجلس وأمامي الطاولة، وأقوم مثلًا بالكتابة عليها، فينبغي أن نميّز بين الكيف والكمّ، فإنّنا ندرك الأشياء إدراكًا كيفيًا، بينما هي قد تكون في الواقع كمًّا وليست كيفًا.

فمثلًا: نحن نعتبر الحرارة كيفًا، فنقول: الماء حارٌّ، فالحرارة صفة من صفات الماء وكيفية من كيفياته، وهكذا ينقل الإحساس لنا أن الحرارة من مقولة الكيف، بينما المقياس العلمي يثبت لنا أنَّ الحرارة عبارة عن درجات تقاس مقياسًا كميًا وليست مقياسًا كيفيًا.

فنحن نقول للواقع كله الذي ندركه إدراكًا كيفيًا: هذا لون «كيف»، هذا طعم «كيف»، هذه رائحة «كيف»، هذا شكل «كيف»، هذا امتداد «كيف»... إلخ، والحال أنَّ هذا كلّه قد يكون بحسب الواقع كمًّا وليس كيفًا.

ولذلك يقول: ينبغي لنا أن نقيس الشجاعة والصدق ونحوهما بمقياس كمي، كما تقاس درجات الذكاء الآن بمقياس كمي، إذ جميع ما ندركه ونعبّر عنه بأنه كيف هو في الواقع خاضع للمقياس الكمي، وهذا يعني أنَّ المباينة والمغايرة بين الحس والواقع حاجز يمنعنا عن أن نضمن أنَّ لنا معرفة بواقع موضوعي يتطابق مع ما نحسّه ونلمسه.

ويضيفون قائلين: إنّنا إذا تأملنا في هذه الطاولة ببصرنا ولمسنا نجد أن هناك سطحًا صلبًا متماسكًا نعبر عنه بسطح الطاولة، بينما لو نظرنا إلى هذا السطح نفسه نظرًا مجهريًا ميكروسكوبيًا - لا نظرًا بصريًا - لوجدنا أن هذا السطح ليس صلبًا، بل هو عبارة عن جسيمات، وعن مجموعة كهارب سالبة وموجبة، وعن ذرات موجية متحركة وغير ثابتة.

فما نراه بنظرنا يختلف عن الواقع الذي كشفه الميكروسكوب لنا، إذ إنَّ الواقع مجرد ذرات موجية غير ثابتة، بينما هو بنظرنا وبلمسنا عبارة عن جسم صلب، وهذا الاختلاف بين الواقع وما ندركه بحواسنا يشكّل حاجزًا أمام الإقرار بوجود معرفة بالواقع الموضوعي للأشياء.

وفي مقام مناقشة هذا الاستدلال، نذكر هنا مناقشتين:

المناقشة الأولى: إنَّ النسبة بين الصورة الطبيعية والصورة العلمية ليست نسبة التباين، بل هي كما يعبّر الأصوليون نسبة الأقل والأكثر، فبينهما اشتداد لا تباين.

وبيان ذلك: نحن عندما نأتي للصورة العلمية نفسها نجدها متفاوتة، فرؤية الأشياء رؤية ميكروسكوبية أقل من رؤيتها رؤية تلسكوبية، إذ الثاني أدق من الأول، ويكشف لنا ما لم يكشفه الأول، ولو تطور العلم في مقاييسه لربما وصلنا إلى الجزيئات تحت الذرية واكتشفناها، ولكن ليست الصورة الأولى مغايرة للصورة الثانية، بل الصورة الأولى حكت مقدارًا من الواقع، والصورة الثانية حكت مقدارًا أدق من الواقع، والصورة الثالثة حكت مقدارًا أكثر دقة للواقع، فالنسبة بين الصور نسبة اشتداد، وليست نسبة التباين.

وكما يُرى هذا في الصور العلمية، قكذلك هي النسبة بين الصورة الطبيعية التي هي بالباصرة وبين الصورة العلمية، فالصورة الطبيعية هي مثل الصورة الفوتوغرافية، إذ لو أخذت صورة فوتوغرافية عبر الكاميرا للخارج لعكست لك ما يعكسه البصر تمامًا، وهذه الصورة الفوتوغرافية ليست مخطئة للواقع ولا مغايرة له، بل هي تنقل درجة من درجاته، والصورة العلمية التي هي عبر المجهر تنقل صورة أدق للواقع، لا أنَّ بينهما مغايرة وتباينًا.

وبناءً على ذلك، لا معنى للقول: إننا عندما نرى الطاولة نراها سطحًا صلبًا، وعندما نستخدم المقياس المجهري نرى أن هناك ذرات موجية غير ثابتة، فهذا دليل على أنَّ الحس لا ينقل الواقع! بل الحس ينقل درجة من درجات الواقع، والمقاييس الأخرى تنقل درجات أدق وأعمق، فليس بينهما تغاير كي يكون هذا حاجزًا عن وصولنا لمعرفة الواقع.

وهذا الأمر ينطبق حتى على المعرفة الوجدانية، كما لو أراد الإنسان أن يتعرّف على نفسه مثلًا، فإنَّ هذه ليست معرفة حسية، وإنما هي معرفة وجدانية يسلّم بها «باركلي» و«كانت» وزكي نجيب محمود، فمعرفة النفس معرفة واقعية وجدانية، مع أنها معرفة ذات درجات ومراتب، فقد يتعرف الإنسان على نفسه بمقدار أنَّ له عقلًا وعواطف، ثم يتعمق فيرى أن للنفس عقلًا ظاهرًا وعقلًا باطنًا، ثم يتعمق فيرى أن العقل الباطن هو مكمن شخصيته، وهو سرّ ميوله واتجاهاته، فاختلاف درجات معرفة النفس لا يعني أن المعرفة الأولى كانت خطأ، وإنما هي انتقال من الأضعف إلى الأقوى، ومن الأخف إلى الأشد.

المناقشة الثانية: هناك ثلاثة أسباب تتدخل في الحكم على الصورة المنطبعة في الذهن نتيجة الاتصال الحسّي بالخارج:

السبب الأول: الخطأ في حكم العقل لا في الحس.

عندما نضع هذه العصا داخل الماء المتموج، فإننا نراها وكأنها منكسرة، وهذه الصورة التي نقلها البصر لنا ليس فيها خطأ، بل الخطأ في حكم العقل على الصورة أنها انكسار أو تلوّن، إذ حاسة البصر لا تقول لك إنَّ العصا منكسرة، وإنّما هي تنقل ما انعكس عليها كما انعكس تمامًا، ولكن العقل عندما يأتي ويريد أن يحكم هل هذه العصا ثابتة أم منكسرة، فإنه يخطئ في معطياته.

وكذلك عندما يقول العقل مثلًا: هذا ماء وليس ضوءًا ولمعة، فإنَّ العقل هو الذي أخطأ هنا وليس الحس، إذ الحس قد أدرك الضوء واللمع كما هو، ولكن العقل حلّله أنه ماء، ثم لمّا وصل إليه لم يجده شيئًا، فالخطأ هنا راجع لحكم العقل وتحليله، وليس في المعطى الحسي، فالخلط بين خطأ الحس وخطأ العقل هو الذي أوجب أن يقال: إن المعرفة الحسية غير مضمونة في المقام.

السبب الثاني: اختلاف الواقع الموضوعي للمُدرَك.

عندما أنظر مثلًا من مسافة كيلو متر إلى هذه العمارة الشاهقة فإنني أراها صغيرة، وكلما تقدمت رأيتها بصورة أكبر، فإذا وصلت إليها رأيت العمارة ممتدة إلى عشرين طابقًا، ولكن ما الذي تغيّر هنا؟ هل كان الحس في البداية مخطئًا عندما رآها صغيرة؟

لا، بل الواقع الموضوعي للشيء المُدرَك هو الذي تغيّر، فقد كان بعيدًا ثم أصبح قريبًا، وكانت المسافة بينك وبينه كيلو متر فأصبحت المسافة بينك وبينه مترًا واحدًا، فالمعطى الحسّي لم يتغير، وإنّما الذي تغير هو الواقع الموضوعي للشيء المُدرَك، ولكن الخلط بين تغير الحس وتغير الواقع الموضوعي للمُدرك الحسي أوجب أن نقول إنَّ المُعطيات الحسية لا نضمن إيصالها للمعلومات الواقعية كما هو الواقع الموضوعي.

السبب الثالث: عدم سلامة الحواس.

فلا ينبغي أن يُعلَّل عدم الضمان لمعرفة الواقع الموضوعي بحواس مغتشة، أو بحواس ذات كفاءة ضئيلة، أو بحواس أصابها عطل، ولعلكم قرأتم في منظومة السبزواري: «النفس في وحدتها كل القوى»، فالنفس تُعمل جميع القوى في آن واحد، وتتناول كل الأشياء بجميع القوى، فعدما تدرك هذه البرتقالة مثلًا فلا تتصور أنك تدركها بحاسة البصر فقط، بل إنّك تُعمل سائر الحواس في إدراكها، بمعنى أن النفس إذا توجّهت إلى هذا الجوهر - وهو البرتقالة - فإنّها تتوجّه بإعمال سائر قواها لتصل إلى هذا الجوهر وإدراكه على ما هو واقعه الموضوعي.

إذن فإدراك الواقع الموضوعي يفتقر إلى إعمال النفس لمجموع قواها، لا إلى قوّة من القوى، ولا إلى حاسة من الحواس، وهذا يعني أنّنا نحتاج في الواقع الموضوعي إلى سلامة جميع القوى، ومنها الحواس الظاهرة، ولا يمكن أن نعلّل خطأ حاسة - كخطأ حاسة البصر - بأنه يمنع عن المعرفة بالواقع الموضوعي للأشياء.

وأما دعوى أننا ندرك الأشياء إدراكًا كيفيًا بينما هي في الواقع كم، فأيُّ تنافٍ بين أن يكون للأشياء جانبان: جانب كيفي، وجانب كمي؟! فبجانبها الكيفي تدركها الحواس، وبجانبها الكمي وصل إليها المقياس العلمي، وإلّا فمجرد أنَّ ما ندركه كيفًا قد ندركه بالمقياس العلمي كمًّا لا يعني خطأ الإدراك الحسي.

المحور الثالث: الإحساس بالواقع الموضوعي من القضايا الضرورية لا من القضايا الاستدلالية.

وهذا المحور عميق وطويل، خصوصًا وأنَّ السيد الشهيد قدّس سرّه قد وافق المدرسة الوضعية المنطقية في المدركات الحسية، وأنكر ضروريتها كما أنكرتها هذه المدرسة.

وقد قرأتم في علم المنطق في «منطق المظفر» أن الضرورات ست، ومنها القضايا الحسية، فالمنطق الأرسطي يرى أن القضايا الحسية من قسم الضروريات، وهذا يعني أن إدراكها لا يحتاج إلى دليل استنباطي ولا إلى دليل استقرائي، بينما المدرسة الوضعية المنطقية كما ذكر زكي نجيب محمود في كتابه «نظرية المعرفة» ترى أنَّ الحسيّات ليست من الضروريات وإنّما هي مما يدركه الإنسان بالدليل الاستقرائي، وقد وافق السيد الصدر المدرسة في هذه الجهة؛ ولذلك نحن نتعرض إلى هذا المحور بتفصيل وتعميق في الأسابيع الآتية إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين