الليلة الرابعة عشر من محرم الحرام 1441هـ

الحوار المفتوح حول محاضرات موسم عاشوراء 1441هـ | ج1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدم إياد الجشي: إيمانا منا بدور المنبر الحسيني العاشورائي وأهميته في بناء وتشكيل الثقافة الدينية والفكرية والاجتماعية لدى الأجيال، وانطلاقاً من أهمية تقليل الفواصل وردم الحواجز بين المستمعين والخطباء تُعقد هذه الندوة الحوارية مع سماحة آية الله العلامة السيد منير الخباز حفظه الله تعالى لتناول الموضوعات هذا الموسم العاشورائي، وما حملته المحاضرات من أطروحات ومضامين متنوعة، وسنتعرض للموضوعات بمشيئة الله بحسب التسلسل الزمني الذي عرضه سماحة السيد وسيكون الحوار تفاعلياً.

في الليلة الأولى تطرق سماحة السيد إلى البعد الاجتماعي في الشخصية المحمدية، والسؤال يقول: بالنسبة لمحاضرة الرحمة، نجد في سياق الآية أن الرحمة المقصودة مرتبطة بالرسالة، وبملاحظة المفردة الأولى من الآية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ [الأنبياء: 107] فيكون المعنى المقصود أن الرسول كان رحمة على العالمين برسالته وبعثته ووجوده بغض النظر عن حيثية الرحمة، والتي اختلف فيها المفسرون فقال الطبرسي مثلاً أن النبي رحمة على الكافر لأنه عوفي مما أصاب الأمم الأخرى من الخسف والمسخ، وقال صاحب الميزان بأنه رحمة من حيث الآثار الحسنة التي سرت في قيام دعوته الحقة في مجتمعاته، ومن جهة إتيانه بدين الأخذ فيه به سعادة الدنيا والآخرة، بينما المعنى الذي ذهبتم له في تفسير الرحمة مرتبط بشخصية النبي وأفعاله فهو غير متناسب مع سياق الآية، وتشهد بذلك آراء المفسرين المختلفة كلياً عنكم فما تعليكم؟

سماحة السيد منير الخباز: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، الجواب عن هذا السؤال يشتمل على مقدمتين:

المقدمة الأولى:

إن الهدف من الرسالة هو الرحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ومن الواضح أن مجرد القوانين الإسلامية ليست كافية في تحقيق الرحمة فوجود دين فيه قوانين ليس كافياً لتحقيق الرحمة، وإنما المحقق للرحمة هو التطبيق العملي لتلك القوانين وإلا فمجرد وجود رسالة ووجود دين فيه قوانين تنفع في الرحمة ليس محققاً للهدف، المحقق للهدف هو تطبيق العمل من قائد الرسالة نفسه، لأنه الأعرف والأخبر بالرسالة، فالتطبيق العملي من قبل صاحب الرسالة هو المحقق للرحمة لا مجرد وجود القوانين ولا مجرد العلم بالقوانين.

المقدمة الثانية:

بما أن المحقق للرحمة هو التطبيق العملي من قائد الرسالة فلا يُعقل ولا يُتصور أن يكون تطبيق الرسول للقوانين المحققة للرحمة ما لم يكن في حد ذاته رحمة، ما لم يكن نفسه الشخص رحمة في حد ذاته لا يعقل أن يصدر منه تطبيق محقق للرحمة، فصدور التطبيق المحقق للرحمة فرع كون الشخص في حد ذاته رحمة، ومؤهلاً لمؤهلات الرحمة، وممتلكاً لقابلية الرحمة، فإذا كان الشخص ذاته رحمة كان تطبيقه للقوانين محققاً للرحمة، وكان ذلك محققاً للهدف من الرسالة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لذلك نقول مع احترامنا لكثير من المفسرين أن إرسال النبي رحمة للعالمين هو مستلزم لكون النبي في حد ذاته رحمة، حيث ما لم يكن النبي في حد ذاته رحمة لن يكون إرساله محققاً للهدف من رسالته ألا وهو تحقيق الرحمة.

لذلك نجد القرآن الكريم ينص على ضرورة القدوة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157]، بل في بعض الآيات تعبر عن الرسول أنه رحمة كما في هذه ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [التوبة: 61] فهو نفسه أذن خير وهو نفسه رحمة للذين آمنوا، وقد تعرض لهذا المعنى سيد الميزان قدس سره[1] ، وورد هذا المعنى عن الرسول نفسه فقد ورد عنه: أنا الرحمة المهداة. فهو لأنه رحمة صار إرساله طريقاً لتحقيق الرحمة.

المقدم إياد الجشي: الليلة الثانية تعرضتم فيها إلى تجليات الحكمة في الشخصية النبوية مما قد يثار بين يدي هذه المحاضرة تساؤل: هل الحكمة العملية المتجسدة في التشريعات والأفعال التي سنها الرسول الأعظم هي انعكاس لكمالاته الذاتية وما توافر عليه من خصائص نفسية وعقلية، أم أن ما صدر منه في ذلك ما هو إلا أوامر إلهية، وهو مجرد مبلغ لها، وحينئذ ستكون الحكمة المفاضة هي من لدن الحكيم الخبير ولا مزية لرسولنا الأعظم في إبرازها خارجاً ولذا يحسن معالجة هذه الإثارة من المحاضرة.

سماحة السيد منير الخباز: ذكرنا بأن الشخصية الذاتية للنبي هي شخصية الحكمة، فهو حكيم في حد ذاته لدليل عقلي ودليل نقلي، أما الدليل العقلي فكل رسول أُرْسل للبشرية أُرْسل لهدف معين، نوح أُرْسل لهدف، وإبراهيم لهدف، وموسى لهدف، وعيسى لهدف، ومحمد أيضاً لهدف، وقد عبَّر عن هذا الهدف قوله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] فبما أن لكل إرسال رسول هدفاً فلابد أن يكون الرسول نفسه ممتلكاً لمقومات ذلك الهدف، فلابد أن تنسجم شخصية عيسى من الهدف من بعثته، ولابد أن تنسجم شخصية موسى مع الهدف من بعثته، فإذا لم يكن هناك انسجام بين المؤهلات التي يمتلكها النبي وبين الهدف من بعثته يلزم من ذلك كما يُقال نقض الغرض، ونقض الغرض قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم، إذن في رتبة سابقة لابد أن يمتلك الرسول المؤهلات والمقومات التي تمكنه من تحقيق ذلك الهدف ثم يُبْعث لأجل ذلك الهدف، فلولا أن الرسول الأعظم محمداً هو حكيم في حد ذاته ما جُعل الهدف من بعثته تعليم الحكمة.

والدليل النقلي ذكرناه في نفس الليلة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] التعليم يشمل التعليم القولي والتعليم والعملي؛ أي هو بسلوكه يعلم الحكمة، وهو بمواقفه يعلم الحكمة، وبما أن عنوان التعليم يشمل التعليم اللفظي والتعليم العملي، فإذن التعليم العملي للحكمة لا يتأتى إلا من الحكيم في حد ذاته، وإلا لا يُتصور صدور تعليم عملي للحكمة من قبله .

المقدم إياد الجشي: قد عرفنا الحكمة في الليلة الأولى على أنها الخروج من الأنا الفردية إلى الأنا الجمعية فهل هذا ينطبق أيضاً على حكمة الله جل جلاله؟

سماحة السيد منير الخباز:

أولاً: هذا التعريف نحن ذكرناه للحكمة العملية على رأي وعلى مبدأ، وذكرنا ثلاثة مدارس مدرسة صدر المتألهين، ومدرسة كانت، والمدرسة التي اخترنا على أساسها ما هو المناط في الحكمة العملية وهو تحقيق الأثر الاجتماعي، فهذا الرأي في تعريف الحكمة العملية هو مبني على إحدى المدارس لا على جميعها.

وثانياً: كان تعريفاً لمناط الحكمة العملية في الإنسان، وإلا ذكرنا في بداية المحاضرة وقلنا أن الحكمة كمفهوم عام هي وضع الشيء في موضعه، غاية ما في الباب أن وضع الشيء في موضعه يختلف مصداقه، مصداقه من الله غير مصداقه من الإنسان، ومصداقه من اللا محدود غير مصداقه من المحدود، وإلا الحكمة بالمعنى العام هو وضع الشيء في موضعه، أما معيار الحكمة في شخصية الإنسان فهو عدة مدارس، ومنها هذه المدرسة التي أشرنا إليها.

المقدم إياد الجشي: في الليلة الثالثة تعرضتم لركائز القيادة الناجحة في الشخصية المحمدية، ووردت على هذه المحاضرة عدة أسئلة:

السؤال الأول: تطرقت إلى الفرق بين المدير والقائد، وأن القائد يُصْنع وليس يولد، وأول نظرية في الإدارة هي كريث ناديري أو نظرية الرجل العظيم والتي تفرض أن القائد يولد، فعلى أي أساس بنيتم على أن القائد يُصْنع؟

سماحة السيد منير الخباز: أنا لم أقل أن القائد يُصْنع ولا يولد، وإنما ذكرت في ضمن الموارد أو ضمن الفروق بين القائد والمدير أن القيادة هي كفاءة، وهي عبارة عن كفاءة ممتزجة بالخبرة وممتزجة بالتجربة والموقف، ومن الطبيعي طبعاً أن هناك إنسان يولد ولديه موهبة القيادة، ولكن حتى تتفعل هذه الموهبة يحتاج إلى الخبرة والتجربة، وهناك من يولد وليس لديه موهبة القيادة لكنها تُصْنع فيه من خلال الخبرة والتجربة، إذن نحن نحتاج إلى الخبرة والتجربة على كل حال، إما لتفعيل الموهبة أو لولادة الموهبة، فإذا كان هذا التعبير يصنع وليس يولد  وإن كان أني لم أقل هذا الكلام  هو الوارد، فهذا التعبير المقصود منه أننا نحتاج إلى التجربة والخبرة إما لتفعيل الموهبة أو لولادة الموهبة.

 السؤال الثاني: على أي أساس بنيتم على أن المدير لا يمكن أن يكون قائداً، أو أن المدير إنسان روتيني ولن يكون فعال في أي منظمة ولا في أي مؤسسة؟

سماحة السيد منير الخباز: بل يمكن أن يكون المدير قائد، قلنا أن كل قائد مدير، وليس كل مدير قائد، مما يعني أن المدير يمكن أن يصبح قائداً، إنما الذي أردنا بيانه أن المدير الحرفي  أي الفرق بين المدير القيادي والمدير الحرفي  هو الذي يطبق اللائحة الرسمية سواء من قبل الشركة أو المؤسسة أو غيرها فيطبقها، وأما القائد فهو الذي يفهم أسرار اللائحة وأهدافها وما وراء السطور، ويسعى لتحقيق ذلك من خلال خبرته وتجربته.

 السؤال الثالث: ذكرتم في الليلة الثالثة أن الرسول هو الوحيد الذي جمع بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بحكم كونه هو الأكفأ، ولكنكم ما تطرقتم لشرح المقصود بالأكفأ.

 السؤال الرابع: إذا تأملنا في قيادة النبي لدولته نجد أنه قام بمهام القوى الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن يستفرد بهذه الحقائب الثلاث يُعَد دكتاتورياً في العرف القانوني المعاصر فما هو تعليقكم؟

سماحة السيد منير الخباز: كما أننا نقرأ القانون فلابد أيضاً أن نقرأ فلسفة القانون، ما هي فلسفة القانون الذي فرض توزيع السلطات الثلاث وعدم اجتماعها في شخص واحد، سنجد أن فلسفة القانون تعتمد على نقطتين: منع الديكتاتورية واحتكار القرار، وضمان عدالة النظام وتكامله، ومن أجل تحقيق هذين الهدفين قالوا لابد من توزيع السلطات الثلاث بين الأشخاص، فإذا افترضنا أن هناك شخصاً نتيجة عصمته  كما نحن نعتقد أنه معصوم  أو نتيجة لخبرته في الواقع الإداري والواقع العملي نجده قد تمثل وتوفر على الأقوائية والأكفائية من تمام الجهات الثلاث، فهو من حيث التنظير أقوى من غيره، وهو من حيث التنفيذ أدق وأكثر إتقاناً من غيره، وهو من حيث القضاء أكثر براعة وحذاقة من غيره، فإذا افترضنا أن شخصاً جمع المواهب والملكات التي تؤهله للأدوار الثلاثة في وقت واحد حينئذ فهو يحقق فلسفة القانون، فمن جهة لن تكون هناك دكتاتورية واحتكار للقرار لأن القرار هو الأصوب والأضمن، ومن جهة أخرى لن يمنع ذلك من عدالة التطبيق وتكامله ما دام الذي تجسد في المواقع الثلاثة هو الأكثر خبرة والأكثر فهماً للواقع، والأكثر دقة في تطبيق القانون.

 السؤال الخامس: في موضوع قيادة النبي تكلمتم عن تقبل النبي واستيعابه للمختلف وهذا شيء نحتاجه كثيراً في هذه الأيام، فكيف نتقبل المختلف وما هي الطريقة؟

سماحة السيد منير الخباز: الاختلاف بين الناس أمر واقع لا مفر منه ولا يمكن توحيد الناس، فالاختلاف بين البشر أمر واقع فرضه الاختلاف في المستوى الذهني، وفرضه الاختلاف في المستوى الثقافي، وفرضه الاختلاف في المستوى الاجتماعي، فهذا أمر طبيعي جداً، فبما أن الاختلاف واقع لا محالة ولا يمكن لنا أن نوحد الناس لا على مرجعية، ولا على فكر معين، ولا على نطاق معين، أي شيء خارج عن قدرتنا فالاعتراف أفضل من المكابرة، لأجل ذلك نقول هناك فرق بين أن نختلف مع الآخر في ضروريات الدين وفي ضروريات المذهب، وبين أن نختلف مع الآخر في أمور نظرية الفقهاء نفسهم يختلفون فيها، ففي الوصايا التي ذكرتها المرجعية العليا في النجف الأشرف دامت ظلالها الوارفة للخطباء والمبلغين والرواديد والشعراء قبل شهر محرم الحرام ذكرت من جملة الأمور هذا الأمر: هناك أمور نظرية يختلف الفقهاء فيها كتفاصيل بعض العقائد وتفاصيل بعض الشعائر وتفاصيل بعض الأمور التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب ولا من مسلمات المذهب، فما دامت أمور يختلف فيها الفقهاء فلماذا أفرض رأيي على غيري! وإذا لم يقبل بما أرى اعتبره ضالاً ومنحرفاً، أو اعتبره قد خرج عن الملة أو خرج عن المذهب أو خرج عن الدين لماذا؟ ما هو المبرر الشرعي فهو أمر يختلف فيه المجتهدون والفقهاء وليس من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب ولا من مسلمات المذهب! فالخلاف ليس في أمر ضروري، بل في أمور نظرية تقبل الاختلاف كما اختلف فيها الفقهاء والمجتهدون، لذلك قلنا عن هذه النقطة بأنه يمكن للإنسان أن يوضح وجهة نظره ليس فيها مشكلة لو كان يعتقد بنظرية معينة في المذهب وفي الدين ولم تكن من الضروريات وهو يعتقد بها ويشرح ما يعتقده بأدلة علمية هذا أمر لا مانع فيه، فالإنسان من حقه أن يمارس ذلك، ولكن مطالبة الآخرين أن يكونوا مثله وإلا... هو أمر غير مقبول.

عندما ننظر إلى قيادة سيدنا السيد السيستاني دام ظله في العراق بلد الخلافات، فهو قد استطاع بحكمته أن يستوعب الجميع ويحتضن الجميع، ويستقبل الجميع، ويتحدث مع الجميع، وينصح الجميع، ويرشد الجميع، يختلفون معه هو نفسه ومع ذلك يستقبلهم ويحتضنهم وينصحهم ويرشدهم، إذن من حكمة القيادة استيعاب المختلف ما دام الاختلاف في أمر نظري يمكن البحث فيه، ولعل الحديث معه واستيعابه واحتضانه يحوله إلى ما هو الأفضل والأكمل.

 السؤال السادس: ذكرتم أن الإمام الحسين «» عندما ذهب لتوديع جده رسول الله غفت عينه ورأى الرسول في المنام فقال له: إن لك درجة في الجنة لن تنالها إلا بالشهادة، أليس أهل البيت لهم مقامات ومكانة في الجنة سابقة لهذه الأحداث، أي أن الإمام الحسين عندما خرج لهذه الثورة المباركة خرج بسبب العشق إلى الله سبحانه وتعالى وليس لمكانة يطمح لها أليس كذلك؟

سماحة السيد منير الخباز: فرق بين الهدف وبين العاقبة كما يقال، فلم يكن الهدف من خروجه أن ينال ذلك المقام الذي في الجنة، ولكن عاقبة خروجه هو الحصول على ذلك المقام، ففرق بين أن يكون المقام غاية له، وبين أن يكون المقام عاقبة له، كما أن أهل البيت لهم مقامات مسبقة ولهم أيضاً مقامات أخرى حصلوا عليها نتيجة بعض أعمالهم وإنجازاتهم التي قاموا بها على مستوى الحياة الدنيا.

المقدم إياد الجشي: ننتقل إلى الليلة الرابعة التي تعرضتم فيها إلى القانون الجزائي في القرآن وسنة النبي الأكرم والأسئلة الواردة تقول:

 السؤال الأول: هل في التراث الإسلامي ما يفيد ضرورة تأهيل المجرم وإعادته إلى الحياة الاجتماعية كعضو فاعل أم يقتصر الجزاء على العقوبة؟

سماحة السيد منير الخباز: هنا لن أفصل وبإمكانكم الرجوع إلى كتاب المرحوم الشيخ الوائلي «أحكام السجون بين الشريعة والقانون» فقد تعرض في هذا الكتاب للتعاليم العلوية الصادرة من الإمام علي في كيفية التعامل مع السجين بما تشمل تأهيله وتعليمه وإخراجه من الوضع الذي هو فيه، ويمكن مراجعة كتاب «حقوق السجين في الفكر القانوني للإمام علي للدكتور علي سعد العمران، وقد شرح في هذا الكتاب كثيراً من التفاصيل والتعاليم العلوية التي صدرت من الإمام علي  في حق السجناء، فهناك عدة روايات منها أمر الإمام علي  بتعليم السجين القرآن، وتعليمه الكتابة، وتعليمه القراءة، وهذه كلها بحسب ذلك الوقت هي خروج بالسجين من عالم إلى عالم آخر إطلاقاً، ويكفينا التوصيات العامة المذكورة في القرآن الكريم، فمثلاً عندما نقرأ قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ «1» إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ «2» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ «3» [العصر: 1 - 3]، التواصي لا يختص بمن هو خارج السجن فقط، فهذه الآية مطلقة ترشدنا إلى أن من حق المؤمن على المؤمن، ومن حق المسلم على المسلم عملية التواصي، التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في كل شخص بحسبه، بالنسبة للسجين التواصي بالحق والتواصي بالصبر هو عبارة عن تأهيله لأن يعود عضواً فاعلاً في المجتمع ومنتجاً من جديد، وهذا بنفسه امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104] وأي خير أعظم من تأهيل السجين ورعايته.

 السؤال الثاني: في هذه المحاضرة القيمة دفعتم فيها شبهة دموية الدين، وأن النبي كان دموياً، قد يقال بأن بعض المستشرقين وبعض الباحثين والكتاب يتفق مع المسلمين بأن حكم النبي بقتل بني ضبة يناسب الموضوع موضوع الخيانة والإخلال بالمجتمع، وقد يتماشى مع بعض موازين القوانين الوضعية وبعض قوانين الدول المدنية ولكن المشكلة ليست هنا، المشكلة تقع فيما بعد القتل، الصلب، قطع الأرجل، قطع الأيدي كل هذه تدل على دموية الدين ودموية النبي فكيف ندفع هذه الشبهة؟

سماحة السيد منير الخباز: عندما نقرأ الآية في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33]، قلنا أن هذه الآية فيها خلاف بين المفسرين، فبعضهم يقول أنها تدل على التخيير، أي مخير بين أن يمارس أي عقوبة منها، والبعض يقول غير ذلك  وهو التفسير المطابق للروايات  أن كل فقرة من هذه الفقرات تناسب جريمة معينة، بمعنى بما أن الهدف من هذه العقوبات الأربع هو الردع العام؛ أي ردع من تسول له نفسه أن يرتكب نفس الجريمة، وبما أن الهدف من هذه العقوبات الردع العام فلأجل ذلك كل جريمة يناسبها نوع من الردع، فبعض الجرائم لا يتحقق الردع بمجرد القتل، وبعض الجرائم لا يتحقق الردع بالقتل أصلاً بل بالقطع، وبعض الجرائم لا يتحقق الردع إلا بنفيه من المكان، فبما أن الهدف من كل فقرة من هذه الفقرات تحقيق نوع من الردع للمجتمع فلابد أن يكون الردع مناسباً مع تمثيله وتجسيده، لأجل ذلك الكل مصداق للرحمة، والكل مصداق للعدالة، فكما أن القتل رحمة وعدالة لأنه يحقق الأمن الاجتماعي ويردع من تسول له نفسه ارتكاب نفس الجريمة، كذلك الصلب الذي يتناسب مع جريمة بشعة معينة، وكذلك النفي من الأرض الذي يتناسب مع جريمة معينة، وكذلك كل نوع من العقوبة فهو يحقق نوعاً من الردع، وهو بالنتيجة مصداق للعدالة ومصداق للرحمة.

 السؤال الثالث: هل أحكام الحدود التي صدرت من النبي صدرت منه بما هو رسول مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أو بما هو ولي وحاكم على الأمة بحيث أنها تكون أحكام مؤقتة وخاضعة لعاملي الزمان والمكان؟

سماحة السيد منير الخباز: نعم يقول العلماء بأن القرآن وضع خطوطاً عامة، أما التفاصيل متى يكون الرجم ومتى يكون الصلب ومتى يكون القطع، وما هي حدوده وما هي شروطه، وما هي موارده، فكلها تُرِكت للحكم الولايتي الصادر من النبي الأعظم محمد .

المقدم إياد الجشي: في الليلة الخامسة تعرضتم إلى الروح الوحدوية في الشخصية المحمدية وهنا وردت عدة أسئلة:

 السؤال الأول: في قصة قتل كعب بن الأشرف يظهر نوع من الغدر من قبل أخيه في الرضاعة وأبو نائلة فهل يجيز الإسلام الغدر بالمعارض مع أن الغدر قبيح، وقد ورد في الحديث: ”الإسلام قيد الفتك ولا يفتك مؤمن“ مضافاً إلى أنه هل انحصرت وسائل دفع خطر ابن الأشرف في قتله؟ ألم يكن بالإمكان سجنه أو نفيه من المدينة؟

سماحة السيد منير الخباز: إلى الآن في الأدبيات الإسرائيلية يوجد نعي على قضية كعب بن الأشرف، ونحن في تعليقنا على قضية أمر النبي بقتل كعب بن الأشرف فقُتل من قبل أبي نائلة ومساعده بطريقة غادره، وهذا كما رواه المؤرخون، نذكر:

أولاً: أن النبي أمر بالقتل ولكنه لم يأمر بكيفية القتل، وليس لدينا أي دليل على أن النبي الأعظم أقر الكيفية التي قام بها الرجلان.

ثانياً: الغدر في القانون الإسلامي أو القانون الآخر هو أنه قبيح حرام مع من هو أمين، أما إذا كان هو في نفسه غادر كما كان كعب، فهو قد نقض العهد مع النبي وغدر بالمسلمين وألب المشركين عليهم، واتفق مع قريش على محاربة النبي ، فالغدر مع الأمين قبيح، أما الغدر مع من هو غادر فإن هذا هو جزاء فعله، لذلك القرآن الكريم يقول: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]، وهذه المقابلة بالمثل موجودة حتى في القوانين الوضعية وليس شيئاً معيباً.

ثالثاً: عن سبب أمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بدل نفيه إلى اليمن مثلاً أو سجنه، أو بأي حل آخر، فنحن نقول بالنتيجة كما ذكرنا في المحاضرة دار الأمر بين الحق العام والحق الخاص، فالحق العام حق المجتمع الإسلامي في حياة آمنة، وهو كان يهدد الأمن ويألب المشركين على محاربة المسلمين، فبما أن هناك دوران بين حق المجتمع في الأمن، وحق كعب بن الأشرف في أن يبقى حياً إذا كان له حق في ذلك، وحيث أن حق المجتمع في الأمن لن يتحقق إلا بقتله، فبنفيه لن يتحقق الامن لأنه كان وجيهاً وشيخ عشيرة، يمتلك أنصار وامتدادات تجارية في اليمن والشام، وسيرجع مرة أخرى بمكيدة وقوة أكبر، وسجنه لن يحقق شيء لأن اليهود كانت لديهم القدرة آنذاك أن يعملوا أي عمل في المدينة، فقد كانت المدينة وطنهم ويعرفونها شبراً شبراً، فإذن بما أن للمجتمع حق الأمن، وتوفير الأمن للمجتمع لا يتحقق إلا بالردع وأن لا تسول لأحد نفسه في أن يرتكب نفس الجريمة التي ارتكبها كعب بن الأشرف، فما كان بالإمكان تحقيق هذا الردع إلا بالقتل، وإلا بالنفي والسجن لن يحقق الردع المطلوب من أجل توفير الأمن الاجتماعي والحق العام للمجتمع نفسه.

 السؤال الثاني: بالنسبة إلى استيفاء النبي إلى شروط السلطات الثلاث هل ينطبق على الرسول فقط أم ينطبق على الأئمة المعصومين أيضاً، بعكس ما قد تبادر إلى ذهن الكثير من أن الأئمة غير مستوفين لهذه الشروط؟

سماحة السيد منير الخباز: كل من ملك العصمة ملك الأكفائية والأقوائية في تجسيد وتمثيل السلطات الثلاث.

 السؤال الثالث: ذكرتم أن إهانة الرمز المقدس لدى الدين الآخر جريمة عند المجتمع العقلائي، فهل هذا يشمل الديانات الوثنية أو من يعبدون الحيوانات مثلاً، وما هو موقف الإسلام من ذلك؟

سماحة السيد منير الخباز: أذكر هنا أمرين أولاً:

الأمر الأول:

اهتم الإسلام فعلاً باحترام المقدسات، ففي الآية المباركة: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج: 40]؛ في كل مجتمع لابد من إعداد فريق يتولى حماية المقدسات وهذا معنى ﴿دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، ولولا ذلك لهدمت صوامع وبيع ومساجد... إلخ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251]، إذن نفس هذا التعبير من الآية ﴿وَلَوْلَا تدل على التحضيض والحث، ونفس الآية تدل على أنه من الضروري لاستقرار كل مجتمع إعداد فريق لحماية المقدسات وأماكن العبادة، فهذا ضروري لكل مجتمع؛ لأجل استقرار الحماية الاجتماعية، لأجل ذلك نقول أن الإسلام احترم المقدسات، الإمام أمير المؤمنين علي في رجوعه من صفين مر بصومعة فقال له أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين هذا مكان طالما عُصي فيه الله. فقال: مه، قل هذا مكان طالما عُبد الله فيه. احترام للآخر واحترام لعبادته ومقدساته.

الامر الثاني:

إذا دار الأمر بين احترام الرمز أو كرامة الإنسان فأيهما أهم؟ من الطبيعي أن العقل البديهي يقول أن كرامة الإنسان أهم، وعبادة الوثن هي امتهان لكرامة الإنسان، صحيح هو يقول هذه قناعتي أن أعبد وثن، لكن قناعتك تحتقر كرامتك وتهينها، فإذا كان في إكرام الرمز المقدس وهو الوثن إهدار لكرامة الإنسان يدور الامر بين احترام الرمز المقدس أو المحافظة على كرامة الإنسان، والمحافظة على كرامة الإنسان أهم، ولأجل ذلك الرسول أزال الأصنام والأوثان، نعم إذا اُتخذ التمثال كتراث حضاري مثل تمثال بوذا في الصين وفي أفغانستان فهو خرج من كونه إله معبود إلى كونه تراث حضاري، فإذا تحول إلى تراث حضاري حينئذ لا مانع من بقائه، وبما أنه تراث حضاري يبقى ولعل في قوله تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111] فيها نوع من الندب لبقاء الآثار التاريخية لكل مجتمع حيث إن في بقاء هذه الآثار التاريخية وحي وإرشاد لقصصهم وتاريخهم لأخذ العبرة من ذلك.

المقدم إياد الجشي: في الليلة السادسة تعرضتم فيها إلى نبضات القلب المحمدي في لحظات العروج إلى الله، قد يثار تساؤل حول ما تفضلتم به من كون أن العبادة المطلوبة منا هي العبادة الاستغراقية التي تضمحل فيها النيات والكثرات، وتتمخض في وجود حقيقي واحد ألا وهو وجود الباري جل شأنه، والتساؤل هنا أليست العبادة الاستغراقية على هذا النحو تصطدم مع الوعي وتصبح فيها الحركة والسير نحو الله تعالى حركة قسرية أفرزها الانغماس في هذه الحالة العبادية والتساؤل هنا منشأه نسبية الوعي فما يعيه ألف من الناس من مقاصد العبادات غير ما يعيه باء من مقاصدها، وما ينكشف عند الأول قد لا ينكشف عند الثاني، فهل هذه الحالة الاستغراقية التي لا يشعر فيها الفرد بوجوده الاستقلالي وينكفئ فيها على نفسه مشدوداً لعالم الغيب الذي يدركه من هم حولهم تُحْسب من الوعي الانفصالي أم الوعي الاتصالي؟

سماحة السيد منير الخباز: الاستغراق في الله وفي العبادة لا يوجب قسرية الوعي، إذا راجعنا علم التربية سنجد أن علماء التربية يذكرون أن التلقين النفسي وسيلة لبرمجة الوعي، وبرمجة الوعي هي طريق إلى سمو النفس أو انحدارها، وبرمجة الوعي شيء وقسرية الوعي شيء آخر، ما تُلقن به نفسك يتبرمج به وعيك، فهذه ليست قسرية بل باختيارك، إذا لقنت نفسك أنك ناجح سيتبرمج وعيك على النجاح، إذا لقنت نفسك أنك فاشل سيتبرمج وعيك على الفشل، التلقين النفسي وسيلة لبرمجة الوعي لا لقسرية الوعي، ولأجل ذلك نقول إذا لقن نفسه بضرورة الاتجاه إلى الله في كل أعماله وفي كل حركاته وسكناته كان ذلك موجباً لبرمجة الوعي على الاتجاه إلى الله بشكل تلقائي عندما يقوم من يقظته، وعندما يلتفت إلى نفسه فهو بشكل تلقائي يتجه إلى الله، برمج وعيه على ذلك لأنه لقن نفسه ذلك، وهذا ليس من قسرية الوعي بل من برمجة الوعي وهو طبعاً من الوعي الاتصالي إلى الانفصالي لأنه يخرج بالنفس متصلة بخالقها، ومتصلة ببارئها تبارك وتعالى.

 السؤال الثاني: إذا تأملنا في كيفية الصلاة وأذكارها وغيرها من العبادات وفي الأدعية الواردة عن أهل البيت لا نلاحظ أنها تسعى لتخليص الإنسان من الأنا وإعطائه شعوراً بوحدة الوجود، بل نرى الطابع العام لها الاستغفار والاعتراف بالذنب وطلب العفو والمغفرة والتذلل والخشوع فهذا لا يتلاءم مع ما ذكرتموه في المحاضرة من أن العبادة تؤثر عن طريق تخليص الإنسان من الأنا، وبعبارة موجزة المتأمل في العبادات في الإسلام لا يجد أنها تجعل تخليص الأنا طريقاً للاتصال بالله تعالى، بل تجعل التذلل والخشوع والاستغفار وطلب التوبة هو طريق ذلك، فما تعليكم؟

سماحة السيد منير الخباز: نحن ذكرنا أن في العبادة تحقيقٌ لثلاثة آثار، هذه الآثار تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف طريقة العبادة وباختلاف المستويات، لا نقول أن هذه الآثار لكل عبادة ولكل شخص، فهي تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف أنواع العبادة وتختلف باختلاف المستويات، والأثر الأول هو التحرر من الأنا، لم نقل بأن التحرر من الأنا يؤدي إلى العبادة، بل قلنا أن العبادة نفسها هي أوتوماتيكياً تحرر الإنسان من الأنا؛ لأن العبادة هي في حد ذاتها معناها التحرر من الأنا، العبادة معناها أنك تتجاوز ذاتك لإلهك.

فالفائدة الأولى للعبادة التي تتأتى من كل الناس هي التحرر من الأنا، فنفس الاستغفار والتوبة والإنابة، والخضوع، والخشوع، كلها مظاهر للاتجاه إلى الله لا إلى الأنا، وكلها مظاهر تعبر عن التحرر من الأنا، وهذه الفائدة هي فائدة أولى للعبادة.

الفائدة الثانية التي عبرنا عنها بوحدة الوجود، وهذه تناسب مستوى أكبر من العبادة، فإذا اتجه الإنسان إلى الله وهو يدرك أن جميع ما في الكون مثله متجه إلى الله ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [النحل: 49]، وأنه ليس الوحيد وليس متميزاً أصلا، فهو ذرة في هذا التراب، وهو قطرة في هذا البحر، والبحر كله متجه إلى الله، وهو ليس متميزاً عليهم في شيء، فهذا الإدراك نفسه هو عبارة عن إدراك وحده الوجود، وهذه فائدة عظمى من فوائد العبادة تجعل الإنسان متفاعلاً مع ما حوله من الأشياء، لأنه لا يرى نفسه متميزاً عليها.

والفائدة الثالثة التي ذكرناها أنها طريق للوحدانية، وهذه أرقى وتحتاج إلى عبادة خاصة، وهي أن يدرك أن هذا الكون كله خيط واحد وطاقة واحدة، وأن هذه الطاقة حيث أنها لا تفنى بل تعتمد على مدد أزلي، فإذا أدرك ذلك ذهناً وعاشه شعوراً بمعنى تطابق الذهن مع الشعور، فهو بذهنه يدرك أن الكون كله طاقة واحدة مستندة إلى معين واحد، ويعيش هذا المعنى في شعوره فسوف تكون عبادته طريقاً لحق اليقين من الوحدانية، الوحدانية بمعنى الواقع، فيصل إلى واقع الوحدانية وحق اليقين من الوحدانية، وهذا ما نقلناه عن أمير المؤمنين علي والحسين بن علي «عليهما السلام»: ”أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك“. وكما عن الإمام علي «»: ”ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته ومعه وفيه“.

 السؤال الثالث: دعوتم في محاضرة العبادة إلى الاقتداء بكثرة العبادة التي كان يمارسها النبي ولكن قد يوجه إشكالان عام وخاص، فأما العام فهو أن بعض ممارسات النبي لا تعدو عن كونها تكاليف خاصة به، فكيف نُحرز أن كثرة العبادة ليست تكليفاً خاصاً، خصوصاً مع ضميمة كون قيام الليل واجباً على النبي بالخصوص، وأما الخاص فهو أن هناك روايات لا تحبذ كثرة العبادة، فقد ورد في الكافي عن أبي الحسن الرضا يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنما العبادة التفكر في أمر الله عزوجل؟

سماحة السيد منير الخباز: الجواب عن هذا السؤال بأمرين:

  • الأمر الأول: ما ذكرناه في المحاضرة هو الدعوة إلى الاستغراق الكيفي لا الاستغراق الكمي، ومعنى الاستغراق الكيفي هو أن تستوعب كل أعمالك لله، أن تجعل كل أعمالك عبادة، صدقتك عبادة، خروجك للعمل عبادة، لقاؤك بالصديق عبادة، جلوسك مع أسرتك عبادة، فإذا استطعت أن تجعل العبادة مستوعبة لكل حركاتك وسكناتك حصلت على الاستغراق الكيفي الذي كان الرسول الأعظم محمد يقوم به، وهذا الاستغراق الكيفي هو الذي ذكره القرآن ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9]، وهو الذي يقود الإنسان بشكل عفوي إلى العبادة، بمعنى أن إذا استغرقت العبادة كل جوارحي وكل جوانحي فبشكل تلقائي وعفوي ألتذ بالصلاة وألتذ بالنافلة وبقراءة القرآن، لأنني أعيش الاتصال بالله في كل أنحاء كياني، وفي كل أعماق قلبي.
     
  • الأمر الثاني: النبي نفسه كما ذكرنا في شهر رمضان يربط الحزام ويطوي الفراش، ويتوجه إلى الله تبارك وتعالى ويصلي ألف ركعة وإلى غير ذلك، فهو لم يعلل ذلك بأنه واجب عليه، بل علل ذلك ب «أفلا أكون عبداً شكوراً» إذن هو علل لنا الاستغراق في العبادة بأنه شكر وبأنه طريقٌ لتوفية النعمة ولم يعلل ذلك بأنه تكليف، ولذلك بما أن المنطلق  وهو منطلق الشكر  مما يمكن لنا تحقيقه، فدورنا هو تحقيقه أسوة بالنبي .

المقدم إياد الجشي: ننتقل إلى الليلة السابعة التي تطرقتم فيها حول السمات الملكوتية في الشخصية المحمدية وهنا وردت عدة أسئلة:

 السؤال الأول: تقريب العصمة بمعنى سيطرة العقل الواعي على اللاواعي يعني أن مصادر الخطأ والنقص تكون حال عمل العقل بشكل لا واعي أو حال التفكير الآلي، إلا أن هذا لا يعدو عن كونه أحد مناشيء الخطأ والنقص خصوصاً فيما يتعلق بالسلوكيات والانفعالات النفسية، ولكنه ليس المنشأ الوحيد، فالطالب وقت الاختبار يفكر بعقله الواعي في الإجابة ولكنه يخطئ، والقائد حينما تمر عليه معضلة يفكر بعقله الواعي ولكنه قد لا يختار الخيار الصائب، والمُبَلِّغ قد يخطئ في تبليغ الرسالة حتى لو كان مسيطراً على عقله الواعي فما هو تعليكم؟

سماحة السيد منير الخباز: هنا أمور ثلاثة أذكرها:

  • الأمر الأول: العصمة عرفها علماؤنا باللطف الخفي؛ الذي به يمتنع المعصوم عن المعصية ويسد باب الخطأ والسهو والنسيان، ونحن عندما عرفنا العصمة بأنها السيطرة عرفناها بالأثر، فالعصمة هي ذاك اللطف الخفي وأثره سيطرة العقل الواعي على اللاواعي أو كما قلنا التفكير الآلي، ويختلف علماؤنا بتصنيف ذاك اللطف الخفي هل هو من قسم الشعور أو ذاك اللطف الخفي من قسم العلم كما يراه صاحب الميزان، أو ذاك اللطف الخفي من قسم التأييد بروح القدس، فهذا مورد اختلاف في تفسيرهم للطف الخفي، وأثر من آثاره هو سيطرة العقل الواعي على اللاواعي.
     
  • الأمر الثاني: عندما نرجع إلى تعريف العقل اللاواعي نجد أنه يرجع للكل وهو وعاء الطاقات، طاقة الكتابة، طاقة الخطابة، طاقة الفن، فالطاقات كلها مكتنزة في اللاواعي، والعقل اللاواعي هو وعاء الميول، أميل للطعام الفلاني، أميل للشخص الفلاني، أميل للرائحة الفلانية، فوعاء الميول هو العقل اللاواعي، والعقل اللاواعي هو وعاء الغرائز والشهوات.

    فإذن سيطرة العقل الواعي على العقل اللاواعي بمعنى السيطرة على الطاقة والميول وعلى الغريزة، وبالتالي سيطرة الإنسان على كل منابع الفشل وعلى كل منابع الخطأ وعلى كل منابع الغفلة.
     
  • الأمر الثالث: عندما عرفنا العصمة بأنها سيطرة العقل الواعي على اللاواعي، فإذا استطعت أن تسيطر على اللاواعي فمن باب أولى أن تسيطر على الوعي نفسه، إذا استطعت أن تسيطر على اللاوعي فمن باب أولى وأهون أن تسيطر على ما يحتاج إلى وعي، لأنك حتى مرحلة اللاوعي هي تحت يدك وبسطتك وتحت قدرتك، فمن باب أولى أن تسيطر على الأمور الأخرى.

الملا صدره والسيد صاحب الميزان يذكران هذه النقطة لماذا يغفل الإنسان وما هو منشأ الغفلة والخطأ؟ منشأ الغفلة والخطأ هو الخيال، فلديك قوتان تتحاربان الذاكرة والخيال، متى ما قوي الخيال على الذاكرة يحصل النسيان لأن الخيال جنح، ومتى ما حكمت الذاكرة أصبح الذهن صافياً، فأنت بين قوتين قوة الذاكرة التي تجعل الذهن مرآة صافية والمعلومات واضحة تؤديها بإتقان، وبمجرد ما تجنح قوة الخيال ولو لثانية واحدة يحصل عندك نوع من النسيان أو نوع من الغفلة أو نوع من الخطأ، لذلك هنا تبين ضرورة العصمة وفاعلية العصمة، فاعلية العصمة أن ذلك اللطف الخفي من آثاره سيطرة الوعي؛ أي سيطرة الذاكرة وصفاء الذهن على كل القوى الجوانحية الأخرى التي يعيشها الإنسان.

 السؤال الثاني: ما هي الآليات المتاحة لإخراج العادات السيئة من اللاوعي إلى الوعي للتمكن من التخلص منها خصوصاً العادات السيئة مثل عدم احترام الشخص الذي تصدر منه المعاصي من الكبائر؟

سماحة السيد منير الخباز: نحن ذكرنا طريقة سهلة يسيرة وهي بالكتابة أو الكلام، وتسجيل كل ما يطرأ في العقل خصوصاً إذا كان وقت النعاس، ويذكر علماء النفس في المدرسة التحليلية شيء من هذا القبيل أن العقل اللاواعي يظهر أثره حال النوم، فالشيء الذي لا يمارسه الإنسان في الوعي فهو يمارسه في الأحلام حال النوم لأنه لا وعي، وما يخشى أن يمارسه حالة الوعي أو يستحي أن يمارسه حالة الوعي أو حتى يستحي أن يتكلم به في حالة الوعي، ففي حالة النوم يصدر منه ذلك، فالنوم هو ترجمان للعقل اللاواعي لمرحلة اللاوعي، لأجل ذلك نرى عند العلماء دعاء  وهو مذكور في كتاب الإقبال لابن طاووس  والمواظبة على هذا الدعاء يعطي التفاتاً إلى أنك في الحلم، أن تحلم وأنت تدري أنك في حلم وليس واقع، وهذا يجعل حتى أحلامك تكون تحت السيطرة، حتى عالم الرؤيا تجعله تحت السيطرة، وإن لم تكن هذه الرؤيا تحت السيطرة فعلى الأقل قراءتك لنفسك تكون تحت السيطرة لأن أحلامك لا تغيب عن ذهنك، فإذا أدركت في الحلم أنك في حلم فأحلامك لا تغيب عن ذهنك وتبقى، وستكتشف ذاتك إما من أحلامك أو تكتشف ذاتك مما تقوله وقت النعاس، أو من الكتابة التي تكتبها باسترسال وبدون قيود، فلأجل ذلك بعد أن تجمع هذا الركام كله تقوم بقراءته وفرزه والتفكير فيه، وحتماً ستصل إلى محاسبة نفسك للأفعال السيئة لأنك عرفت ما هو منشأ الدواعي السيئة نحو الأفعال السيئة، >حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا<.

 السؤال الثالث: لماذا كان الخطاب مغلظاً في بعض الآيات تجاه النبي كما في قوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» [الحاقة: 44 - 45]، وقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]؟

سماحة السيد منير الخباز: هذه الأقوال لبيان أن النبي لا يصدر منه الانحراف كما يقول المشركون لأنهم كانوا يشككون الناس، شككوا في أصل نبوته، ومن ثم قالوا وعلى فرض أنه نبي من يضمن أنه يُبَلِّغ كما أوحي إليه! من يضمن أنه لا يخطئ! ومن يضمن أنه لا يعصي! فجاءت كل هذه الآيات في مواجهة هذا الإعلام من قبل المشركين ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» [الجن: 26 - 28].

وجاءت هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» [الحاقة: 44 - 45]، وقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65].

 السؤال الرابع: فسرتم أن المراد بالآية: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]؛ أي كل شيء بما يتعلق بإقامة دولة عادلة، مع أن سياق الآية يتحدث عن الشهادة حيث قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]

سماحة السيد منير الخباز: هنا ذكرنا في المحاضرة ثلاثة قرائن بالنسبة إلى دلالة الآية على أن المقصود بتبيان كل شيء هو كل ما يرتبط بالدولة العادلة:

  1. القرينة الأولى: موثقة عبد الأعلى مولى آل سام، لأن الرواية قرينة على الآية، فالروايات الشريفة الواردة في تفسير الآيات تعد قرائن على مداليل الآيات، موثقة عبد الأعلى مولى آل سام عن الإمام الصادق في هذه الآية قال: فيه  في الكتاب  خبر ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. فالمسألة لا تتعلق فقط بالدين، بل فيه خبر ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.
     
  2. القرينة الثانية: هو السياق القرآني، قالت الآية الكريمة: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [النحل: 89] السيد صاحب الميزان أعلى الله مقامه ذكر في تفسير هذه الآية قال أن هذه العبارة ليست استئناف، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ليست فقرة مستأنفه بل هي متعلقة بما قبلها، ولأنها متعلقة بما قبلها معناه ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ في كل شيء يتعلق بالشهادة لأنها في مقام الشهادة، ومن الواضح أن الشهادة لا تختص بالشهادة في الآخرة بل تشمل الشهادة في الدنيا كذلك، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] فهو شاهد في الدنيا وشاهد في الآخرة، وتتحقق شهادته في الدنيا بممارسة السلطة الرقابية، والسلطة الرقابية من شؤون إقامة الدولة العادلة، فالشهادة بمعنى السلطة الرقابية على المجتمع الإسلامي، والسلطة الرقابية على المجتمع الإسلامي هي من شؤون ووظائف إقامة الدولة العادلة، إذن الآية لم تخرج عن أجواء الهدف العام ألا وهو إقامة الدولة العادلة.
     
  3. القرينة الثالثة: السياق العام، قلنا مقتضى الجمع بين هذه الآية: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وبين الآية التي ذكرت الهدف من الرسالة حيث قالت: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]، فبما أن الهدف من البعثة هو إقامة القسط إذن إنزال الكتاب لأجل إقامة القسط، وبما أن إنزال الكتاب لأجل إقامة القسط إذن الكتاب تبيان لكل شيء مما يتعلق بإقامة القسط، وهذا ما ذكرناه في المحاضرة.

المقدم إياد الجشي: ننتقل إلى الليلة الثامنة التي تعرضتم فيها إلى مساحة العنصر البشري في الشخصية المحمدية وهنا وردت عدة أسئلة:

 السؤال الأول: ذكرتم أن هناك مجموعة من الشواهد قد يُستدل بها على حصول الاجتهاد القابل للخطأ من النبي من القرآن أو السنة ولم تتعرضوا لها؟

سماحة السيد منير الخباز: نتعرض مختصراً إلى هذه الشواهد:

الشاهد الأول:

قوله تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 67]

قالوا هذه دليل على أن النبي اتخذ قرار الأسر قبل الحرب وجاء القرآن يوبخه ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ونحن قلنا في الجواب أن الآية لم تتحدث عن الواقع بل تحدثت عن حكم شرعي، تتحدث عن قانون وهو ليس للنبي فقط بل أي نبي كان، ليس للنبي أن يأسر إلا بعد الحرب أي حتى يثخن في الأرض، فلا يحق الأسر قبل قيام القتال، إذا انتهى القتال أسر من وقعوا في اليد، فهي تتحدث عن قانون ولا تتحدث عن واقع خارجي.

﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذكر الروايات وحتى في صحيح مسلم أن المسلمين اقترحوا على النبي بالأسر قبل القتال، اقتراح المسلمين على الرسول أن يقوم بالأسر هو الذي تعرضت له هذه الفقرة من الآية: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.

ومما يكشف أن الأسرى الذين أسرهم النبي كان أسراً في محله لأن الآية التي بعدها قالت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال: 70] فهذا إمضاء لما فعله النبي من الأسر وبيان لكيفية التعامل مع الأسرى، ولو كان قد ارتكب أسراً من دون حق أو خروجاً عن القانون الشرعي لما أُقِرَّ على ما فعل في الآية التي بعدها.

الشاهد الثاني:

قال تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] قالوا عن هذه الآية أن النبي اجتهد فأخطأ فلامه الله بقوله سامحك الله لماذا ارتكبت هذا ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ قلنا هذا الاستدلال غير صحيح لقرينتين:

  • القرينة الأولى: أن النبي أذن لهم لأن الله أذن له في ذلك ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور: 62]؛ أي أن النبي له أن يأذن لمن يستأذنه، ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فإذا كان النبي قد أَذِن لبعض من معه بأن يخرجوا ويرجعوا إلى المدينة ويتركوا القتال في المعركة فهو استجابة لترخيص إلهي فكيف يلام على استجابته لترخيص إلهي!
     
  • القرينة الثانية: خمس آيات كلها تتعرض للمشكلة أن الرسول أذن لبعض المنافقين فخرجوا ورجعوا إلى المدينة، فلما تقرأ هذه الآيات ترى أن الآيات نفسها تؤيد الرسول فيما فعل ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «47» لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ «48» [التوبة: 47 - 48]

    فالآية تقول أنه لو بقي المنافقون معكم وخرجوا معكم إلى القتال لترتب على ذلك مشكلة وهو حدوث الفتنة، أي أن قرار الرسول بالأذن لهم أن يرجعوا كان في محله.

فمما يتبين لنا من القرينتين أن معنى عفا الله عنك أنه شفقة على سبيل الإرشاد، ولبيان معنى ذلك مَثَّلْنا له في المحاضرة: لديك ابن وصل إلى الجامعة فكان له إما أن يدرس في جامعة البترول أو يختار الابتعاث، فتنبهه لمنفعة كلا الطريقين، فاختياره وقع على جامعة البترول، فتقول له: سامحك الله لو ذهبت الابتعاث لتوسع أفق ثقافتك، ولو بقيت في البترول لحافظت على الأجواء الدينية والعلاقات الاجتماعية كما أنت معتاد عليها، أي أن لكل طريق فائدة وأنت اخترت هذا الطريق، فالتعبير عفا الله عنك إنما هو شفقة من أب على ولده على سبيل الإرشاد إلى أن لكل طريق فائدة فهو يقول له: إن لم تأذن لهم سيتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، وإن أذنت لهم ستقي جيشك من الفتنة ومن وجود الخبال، فالقضية هي قضية إرشاد وليست قضية لائمة.

الشاهد الثالث:

قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]

قالوا شاورهم في الأمر أي أن الرسول يشاورهم فيجتهد على أثر كلامهم، وهذا ليس مناسباً لسياق الآية، لأن سياق الآية في بيان لطف الرسول لأصحابه، فكان من لطفه بهم ورأفته بهم أنه يعفو عنهم وأنه يستغفر لهم وأنه يشاورهم، فمشورته لهم في سياق لطفه ورحمته، وفرق بين المشورة على سبيل اللطف، وبين المشورة على سبيل الاكتساب والاستفادة.

ولذلك ذكر الشيخ المفيد رحمه الله وقال: مما يدل على أن المشورة هنا مجرد خلق وليست اجتهاد التفريع: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فلو كانت المشورة على سبيل الاستفادة لقال وشاورهم في الأمر فإذا أشاروا عليك فخذ بمشورتهم، ولكن القرار للنبي ويترتب على عزم النبي ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ

وأما بالنسبة للروايات الشريفة نذكر الأحاديث المعتبرة:

الحديث الأول: أن النبي محمد حج في حجة الوداع حج القران وليس حج تمتع، ساق الهدي وبعد أن ساق الهدي لا يحل من إحرامه حتى يبلغ الهدي محله فنزلت آية حج التمتع ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة: 196] نزلت الآية بعد أن ساق النبي الهدي فقال النبي للناس تمتعوا، أي أحرموا لعمرة التمتع ثم أحلوا من العمرة بالتقصير ثم أحرموا للحج، فهنا امتنع كثير من الناس، إما لأنهم يريدون الاقتداء بالرسول، وإما لأن الجاهلية كانت تعيب إدخال العمرة في الحج، فأهل الجاهلية يفصلون بين العمرة والحج، فالعمرة في شهر رجب والحج في شهر ذي الحجة فلا يُدْخلون العمرة في الحج، لكن لما نزلت آية التمتع دخلت العمرة في الحج، فيُحْرِم للعمرة ويحل منها ويحرم للحج، لذلك أبى كثير من المسلمين أن يُحْرموا لحج التمتع لأنه سيعيبهم أهل مكة أنكم أدخلتم العمرة في الحج.

والنبي من أجل أن يطيب خواطرهم قال لهم: لو ما نزلت هذه الآية لكنتم مثلي ولو نزلت هذه الآية قبل أن أسوق الهدي لأيضاً تمتعت مثلكم، فالنبي عندما قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي. وليس معنى هذه العبارة أنني أخطأت ونادم، وإنما أتى بها النبي لتطيب خواطرهم ولتهدأ انفعالاتهم ولئلا يعترضوا كيف هو يحج حج القران وهو يحجون حج التمتع! فهو يريد أن يقول لهم لو أن هذه الآية نزلت قبل أن أسوق الهدي لكنت مثلكم، ولو لم تنزل الآية لكنتم مثلي، وهذا معنى العبارة لا أكثر من ذلك.

الحديث الثاني: رواه الشيخ الكليني بسند صحيح عن حريز عن الصادق : لما حج الرسول وفتح باب الكعبة ووقف يتكلم عن مكة المكرمة قال: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فلما وصل النبي إلى هذا الكلام قام عمه العباس وقال له: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت، فقال رسول الله: إلا الإذخر.

فقالوا لو لا العباس لما علم النبي وجعلها مطلقة والعباس نبهه وقال له إلا الإذخر، فلما انتبه قال إلا الإذخر، فهذه ليس فيها دليل، لأن الرسول كان يتكلم وهو يفرغ عن الوحي فلعله لو أن العباس سكت لكان النبي سيقول أيضاً إلا الإذخر لكنه العباس سبقه، أولعل العباس كان قد سمع من النبي هذا الحكم قبل ذلك، فلا دليل على أن النبي ما كان يعلم فأعلمه العباس.

الحديث الثالث: وأما حديث تأبير النخل الذي اعتمدوا عليه لم يرد من طرقنا بل ورد من طرق إخواننا أهل السنة ونحن حيث لم يرد من طرقنا بطريق صحيح لا نعتمد عليه، مضافاً إلى أن الحديث غير قابل للتصديق لنفترض أن النبي لم تكن لديه هذه الثقافة ثقافة الفلاحين ولا يعلم أن النخل يحتاج إلى تلقيح، لكن نهيه عن ذلك وأن يقول للناس: لا تؤبروا النخل في عامكم هذا، فلم يأبروا فخرج شيصاً ففزعوا إلى رسول الله وقالوا: نهيتنا عن تأبيره والآن النخل ما أثمر، فقال: أنتم أعرف بدنياكم. لنفترض أن الرسول ليست لديه هذه الثقافة لكن تدخله فيما لا يعلم لا يتناسب مع شخصيته ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «45» وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا «46» [الأحزاب: 45 - 46] فلا يتناسب مع شخصيته أن يوقع الناس في هذا الخطأ الفاحش.

المقدم إياد الجشي: في الليلة التاسعة تعرضتم إلى ما هو الجديد في الرسالة المحمدية، وهنا سؤال: نفيتم وجود الأحكام الإسلامية قبل البعثة مع أن كثير من الروايات في باب الحج تنص على وجود هذه المناسك في الجاهلية، فما تقولون في ذلك؟

سماحة السيد منير الخباز:

أولاً: كان الكلام على جميع الأحكام لا على خصوص مناسك الحج، وما ادعاه سام شمعون أن شريعة النبي شريعة وثنية أي أن كل الأحكام التي أتى بها النبي لها أصل وثني، فنحن في مقام الرد قلنا هو كلام غير صحيح، لا نقول أنه لا توجد مناسك قبل البعثة بل على العكس توجد مناسك وتوجد أحكام أقرها النبي وكانت قبل البعثة، ولكن دعوى أن كل الشريعة هي وثنية فهذا الذي كنا في مقام نفيه.

ثانياً: نحن لم نناقش في وجود المناسك وعدم وجودها وما أنكرنا وجودها، وإنما ناقشنا هل هي وثنية أم هي إبراهيمية، نحن نسلم أن هذه المناسك كانت موجودة كالطواف والسعي والوقوف فقد كانت العرب تقف في عرفات وقريش في مزدلفة، فهذه المناسك موجود قبل البعثة والنبي أمضى ذلك، ولكن هل هذه المناسك كانت وثنية أم كانت إبراهيمية؟ نحن نقول لا يوجد دليل على أنها وثنية، ولا يوجد أي شاهد تاريخي على ذلك، وإنما الشواهد على أنها إبراهيمية، رواية الفضيل بن عياض يقول الإمام الصادق : وكان خرج على العرب خروج العرب الأول، لأن العرب كانت لا تعرف إلا الحج وهو في ذلك ينتظر أمر الله تبارك وتعالى وهو يقول الناس على أمر جاهليتهم إلا ما غيره الإسلام.... إن أهل الجاهلية ضيعوا كل شيء من دين إبراهيم إلا الختان والتزويج والحج، فإنهم تمسكوا بها ولم يضيعوها.

المقدم إياد الجشي: في الليلة الثانية عشر حول الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية، عندما نفرض أن ما يتوصل له العقل من قوانين ليس حجة مالم يكن عقلاً قطعياً جمعياً في الكبرى والصغرى وأن إدراك العقل للصغرى صعب لاحتمال أن للدين حيثيات لم يكتشفها العقل، وكما ذكرتم أن تغير بعض خصوصيات الموضوع لا يكفي في تغير الحكم كما في مسألة شهادة المرأة ما لم يحصل تغير في الموضوع بحكم العقل القطعي الجمعي، فالمحصلة من كلامكم سد الباب على العقل في الوصول للحكم الشرعي إذ لا يمكن تحصيل هذا النوع من العقل، والنتيجة تجميد العقل ونقص الشريعة عن مواكبة المتغيرات الثقافية والاجتماعية.

سماحة السيد منير الخباز:

الأمر الأول: الشريعة الإسلامية لم تجمد العقل ولم تسد الباب عليه لأن الأصوليين من علمائنا ذكروا في بحث حجية القطع في علم الأصول أن ما هو حجة هو العقل القطعي وليس العقل الظني ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: 36] وإن اختلفوا كالسيد الخوئي مثلاً يرى أن كل عقل قطعي حجة، والسيد الصدر والسيد السيستاني يرون أن العقل القطعي الناشئ عن مناشئ عقلائية وليس أي عقل قطعي، فلو افترضنا أن هذا العقل القطعي كان ناشئ عن مرض أو وسوسة أو أوهام أو أحلام أو ما أشبه ذلك فهذا لا حجية فيه، ما له الحجية وما له القيمة في الاستدلال العقل القطعي الناشئ عن مناشيء عقلائية، أي أنه تعضده قرائن علمية موضوعية، فإذا كان الحكم العقلي القطعي تعضده قرائن علمية موضوعية، فهذا العقل القطعي هو الحجة، لا كل عقل قطعي.

الأمر الثاني: كيف نحصل على هذا القطع، عقل قطعي له قرائن علمية موضوعية؟ يكون ذلك بالاستقراء، فإذا استقرأنا القوانين العقلائية واستقرأنا المجتمعات العقلائية ووجدنا أنها اتفقت على هذا الحكم، فإن اتفاقها يكشف لنا عن أن هذا العقل القطعي له قرائن علمية وله قرائن موضوعية، ولذلك اتفق العقلاء عليه، نحن لا ندعي أن الاجماع حجة، الحجة هو العقل القطعي الناشئ عن قرائن والذي نصل له بالاستقراء، فإذا استقرأنا المجتمعات والقوانين ورأيناها تتفق على هذا الحكم كشف لنا هذا الاتفاق على أن هذا الحكم العقلي له قرائن علمية وموضوعية، ونحن عندما نقول العقل القطعي الجمعي، فالجمعية ليس لها موضوعية وإنما هي كاشفة عن وجود قرائن علمية موضوعية تدعم هذا الحكم العقلي.

الأمر الثالث: توجد أحكام كثيرة استندت على العقل ومنها:

المثال الأول بحث اجتماع الأمر والنهي وهو بحث طويل في علم الأصول وكله يعتمد على العقل محضاً، ويفتي به الفقهاء اعتماداً على العقل محضاً، كالسجود على المسجد المغصوب، يقول عنه الفقهاء لا تصح الصلاة، فلا في آية ولا في رواية وليس لها ربط بدليل لفظي إطلاقاً فقط بالعقل، وضع الجبهة على المكان المغصوب هو سجود، والسجود مأمور به، وفي نفس الوقت هذا الوضع استخدام للمغصوب في غير أن يأذن به المالك فهو غصب، هو غصب وهو سجود، من حيث أنه سجود مأمور به، ومن حيث أنه غصب منهي عنه، فاجتمع الأمر والنهي في فعل واحد، فنفس هذا الفعل وهو وضع الجبهة على المكان المغصوب هو مأمور به لأنه سجود، هو منهي عنه لأنه غصب، فإذا اجتمع الأمر والنهي في متعلق واحد حيث لا يعقل أن يكون الشيء الواحد مأمور به ومنهي عنه في آن واحد وفي فعلية واحدة لأن الانبعاث والانزجار متضادان، ولا يعقل الانبعاث والانزجار نحو فعل واحد إذن لا محالة يقدم أحدهما على الآخر، حيث إن النهي شمولي  كما يعبر الأصوليين  والأمر بدلي، قُدم النهي على الأمر فصار هذا السجود محظوراً، ولا تصح الصلاة في المكان المغصوب إذا كان السجود على المسجد المغصوب، وكل هذه الفتوى معتمدة على مسألة عقلية محضة.

المثال الثاني: وهو ما ذكرته في المحاضرة، ضرورة حفظ النظام، فهذه مسألة عقلية، والبعض لم يفهم المقصود بالنظام، ظنوا أن المقصود بالنظام يعني القانون الحكومي، العقلاء بمنطقهم العقلي يرون ضرورة حفظ الحياة الاجتماعية هذا هو معنى النظام وهو ما عبرنا عنه بالنظام الاجتماعي، أي نفس الحياة الاجتماعية، يقرر العقل ضرورة حفظ الحياة الاجتماعية وهذا مقصدنا بحفظ النظام، فضرورة حفظ النظام حكم عقلي بديهي لأن معنى حفظ النظام يعني حفظ الحياة الاجتماعية، وحفظ الحياة الاجتماعية حكم ضروري من أجل حماية الأنفس، وحماية الأعراض، وحماية الأموال، وحماية الحقوق، وحماية الحريات، وحفظ الحياة الاجتماعية بحفظ هذه الأمور الخمسة وحمايتها ضرورة، والوسيلة لحفظها وحمايتها هو وجود القانون، فالقانون إما أن يتشكل بعقد اجتماعي مثل ما قال روسو، أو القانون يتشكل بوجود سلطة مستقرة، فإذا وجدت سلطة قوية مستقرة استطاعت بقوانينها أن تحقق هذا الحكم العقلي وهو ضرورة حفظ الحياة الاجتماعية، من خلال سنها قوانين تحمي الأنفس والأعراض والأموال والحقوق والحريات وتعاقب على من يتخلف عنها.

إذن بالنتيجة ما يحكم به العقل هو ضرورة حفظ الحياة الاجتماعية والقانون هو وسيلة لتحقيق هذا الحكم العقلي، لذلك يفتي فقهاؤنا اعتماداً على هذا الحكم العقلي على أنه لابد من تطبيق القوانين الدخيلة في حفظ الحياة الاجتماعية وفي حفظ النظام، مثل قوانين الصحة وقوانين الطرقات والمرور، وقوانين البلديات، وكل القوانين التي تصب في حماية الأنفس والأموال والأعراض والحقوق والحريات، فكل القوانين التي تصب في ذلك يجب تطبيقها تجسيداً للحكم العقلي ألا وهو ضرورة حفظ النظام.

 السؤال الثاني: عن احتواء القرآن تبيان كل شيء فهل يتحمل نص القرآن من حيث عدد الجمل أن يحمل رموزاً منها تبيان كل شيء؟ لأنه ربما يستخدم شخص الرياضيات لحساب عدد المعاني التي يُحتمل أن يدل عليها القرآن ويتثبت أنها محدودة ولا تصل إلى درجة تبيان كل شيء، مثلاً نحسب عدد جمل القرآن ونفترض أن كل جملة تؤدي إلى عشرة معانٍ، ثم نحسب احتمالات وجود معاني لإعادة ترتيب الجمل، لنجد أن العدد محدود ولا يصل إلى العدد المتوقع لتبيان كل شيء، إلا إذا قلنا أن الكتاب هو أمر آخر غير القرآن الموجود المكتوب المادي؟

سماحة السيد منير الخباز: بالنسبة إلى جواب هذا السؤال

أولاً: أرشد إلى شيء في الموضوع، أن عنوان الكتاب في القرآن لا يعني القرآن دائماً، وقد ذكر السيد صاحب الميزان كلام مهم جداً، أن كلمة الكتاب في القرآن جاءت بعدة معاني، جاء الكتاب في القرآن بمعنى كتاب الأعمال ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف: 49]، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14].

والمعنى الثاني كتاب التقدير أي ما يُقَدَّر في حياة الإنسان ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد: 22]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]

والمعنى الثالث: كتاب التشريع، وكتاب التشريع أعم من القرآن لذلك اُعتبر أن القرآن جزء من الكتاب ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78» لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79» [الواقعة: 77 - 79].

والمعنى الرابع: كتاب الكون والقرآن نفسه عبر عنه بأنه كتاب في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38]، ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل: 40] ويقصد به آصف وكان ذلك قبل القرآن فلا معنى له أن نفسر الكتاب هنا بالقرآن، إذن المراد بالكتاب الذي اطلع عليه آصف بن برخيا هو أسرار علمية، ومن خلال هذه الأسرار استطاع أن يحضر عرش بلقيس إلى بيت المقدس.

فعندما نقول أن الكتاب يشمل هذه المعاني بإطلاقه لأن القرآن ذكر للكتاب عدة معاني.

ثانياً: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] هل هو تبيان لكل شيء بوجوده اللفظي أو هو تبيان لكل شيء بوجوده المعنوي؟ طبعاً تبيان لكل شيء بوجوده المعنوي، ونحن ذكرنا وقلنا أنه عندما يقول القرآن الكريم ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] ويُقْصد القرآن بوجوده المعنوي لا بوجود اللفظي، وأن القرآن بوجوده المعنوي نور يخشع له الجبل، فعندما يقول القرآن: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ فالقرآن تبيان لكل شيء على نحو الشفرات أو الرموز بلحاظ وجوده المعنوي لا بلحاظ وجوده اللفظي، مضافاً لما ذُكر في الروايات الشريفة أن للقرآن ظهراً وبطناً، فهو بلحاظ ظهره ليس تبياناً لكل شي،، وبلحاظ بطونه فهو تبيان لكل شيء.

 السؤال الثالث: ذكرتم أن العقل لا يُجَوِّز مخالفة أنظمة الدول التي تهدف لحفظ النظام، فهل يَحْرُم مخالفة القانون في فرنسا مثلاً بمنع الحجاب؟

سماحة السيد منير الخباز: هو أمر لم أقله، وإنما قلت يحرم مخالفة القانون الدخيل في حفظ النظام والمقصود بالقانون الدخيل في حفظ النظام هي القوانين الدخيلة في حفظ الأنفس والأعراض، وذكرته على المنبر بشكل واضح.

 السؤال الرابع: بالنسبة للأحكام العقلائية في تفسير العياشي في سورة الإسراء، عن جابر بن عبد الله عن أبي عبد الله في تفسير الآية ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] قال أما إنهم لم يتخذوهم آلهة إلا أنهم أحلوا حراماً فأخذوا به، وحرموا حلال فأخذوا به فكانوا أربابهم من دون الله، فكيف نعرف واقعية الأحكام بالنسبة للأحكام العقلائية هل هي صحيحة ومناسبة مع الدين الإسلامي أو لا، وأيضاً في الأحكام الولائية؟

سماحة السيد منير الخباز: هذه الأمور كلها تحتاج إلى مؤسسات تكون وظيفتها الاستقراء، أي نحن لا نستطيع أن نحدد أن هذا الحكم عقلائي أو ليس بعقلائي إلا من خلال مؤسسات تقوم بعملية استقراء للقوانين العقلائية وللمجتمعات العقلائية لنعرف هل أن هذا عقلائي أم لا، كذلك لا يمكن أن نعرف أن هذا الحكم العقلائي أو هذا الحكم المذكور موافق للشريعة ولآيات والروايات إلا من خلال مؤسسات تقوم بالمقارنة والفرز حتى يُعْرف ذلك، أما بمجرد البحث الشخصي، فهذا البحث الشخصي ليس كافياً ومقنعاً في هذا الأمر.

والحكم الولايتي عندما يصدر من الفقيه لابد أن يصدر من الفقيه عن استشارة وخبرة وتداول للأمر فإذا وصل إلى هذا الحد وهو تشخيص أن هذا الحكم الولايتي ينسجم مع الظروف الموضوعية التي هو فيها حينئذ يصدر هذا الحكم الولايتي.

المقدم إياد الجشي:

ختاماً نستميحكم العذر للأخوة الأعزاء المؤمنين والمؤمنات فنحن لم نستطع استيعاب جميع الأسئلة الواردة لأنها كثيرة، ونشكركم جميعا على هذا الحضور وعلى هذا التفاعل الجميل، ونشكر سماحة السيد على هذه الأمسية الثرية والإضاءات التي قدمها.

والحمدلله رب العالمين

[1]  في الجزء التاسع ص316