الحلقة 5 | هل المعجزة دليل على النبوة؟

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

كان البحث في أن أحكام العقل العملي - كحكم العقل بحسن الصدق وقبح الكذب - هل يمكن الاعتماد عليها في اكتشاف الحكم الشرعي أم لا؟ كما إذا فرضنا أن العقل العملي يحكم بقبح مخالفة النظام، فهل يمكن أن نستكشف من هذا الحكم العقلي حكم الشارع بحرمة مخالفة النظام أم لا؟ وذكرنا فيما سبق أن بعض المحدثين أنكروا حجية العقل العملي ببيان تقدم في الجلسة السابقة، وناقشناهم بمناقشتين.

المناقشة الثالثة: ذكرنا أنه قد يُسجل نقض على ذلك بأنه إذا لم يكن حكم العقل العملي موجبا لاكتشاف الحكم الشرعي فلا يمكن التعويل على العقل العملي حتى في اكتشاف المعتقدات، ما دام العقل العملي لا يصلح أن يكون كاشفاً عن الواقع، كاشفاً عن الحكم الشرعي، إذاً لا يمكن التعويل على العقل العملي في إثبات المعتقدات، والحال أنه لا إشكال ولا ريب لدى علماء علم الكلام في الاعتماد على العقل العملي في إثبات المعتقدات، ومنها مسألة إثبات النبوة، حيث اعتمد علماء الكلام في إثبات النبوة على حكم العقل العملي.

فقالوا: الدليل على صدق النبي في نبوته إجراء المعجزة على يديه؛ لأنه لو كان كاذباً لكان إجراء المعجزة على يديه قبيحاً، والقبيح لا يصدر من الحق تبارك وتعالى.

لذلك وقعت هذه المسألة محل البحث، حيث إن السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في بحوثه الفقهية أنكر هذا الاستدلال وقال إن هذا الاستدلال المذكور في علم الكلام على صدق النبوة استدلال غير صحيح ولابد من إبداله بدليل آخر.

لذلك نحن نبحث عن هذه النقطة بحثاً مفصلاً، وهو أن دلالة إعطاء المعجزة على صدق النبوة هل هي دلالة عقلية أم هي دلالة وضعية أم هي دلالة استقرائية؟

فالبحث في المقام في ثلاثة أنواع من الاستدلال:

النوع الأول: أن دلالة إعطاء المعجزة على صدق النبوة دلالة عقلية، وهذا ما نُقل عن علماء الكلام.

ما هو وجه هذه الدلالة؟

بيان وجه الدلالة: عن طريق مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن كل نبي عندما يدعي النبوة ويقول إنه نبي مرسل من قِبل الله تبارك وتعالى يقدم معجزة يستدل بها على صدق نبوته، والمعجزة هي عبارة عن الفعل الخارق لنواميس الطبيعة بدون مقدمات علمية، أي أن النبي عندما يبدع هذا الفعل الخارق لنواميس الطبيعة يبدعه دفعة واحدة دون إعداد مقدمات، فهو لا يستفيد من علم معين في الوصول إلى هذه المعجزة، ولا يعتمد على قوانين كونية في إعداد هذه المعجزة، كما لو فرضنا مثلاً أن الحصاة تسبّح على يد النبي محمد ، فإن إقامة النبي لهذا العمل الخارق لنواميس الطبيعة ليس مستنداً إلى علم اتبعه فوصل إلى هذا العمل ولا إلى قوانين كونية طبقها فوصل إلى هذا العمل.

لأجل ذلك يقال: النبي ادعى النبوة وأقام معجزة لا اعتماداً على مقدمات علمية ولا على قوانين كونية.

المقدمة الثانية: بما أن الباري تبارك وتعالى - وهو الحكيم - ملتفت إلى أن هذا العبد ادعى النبوة، فإذا كان ملتفتا إلى أنه يدعي النبوة فإعطاؤه المعجزة - التي أتى بها من دون علم ولا قوانين كونية - تصديق له؛ لأنه لو لم يكن إعطاء المعجزة تصديقاً له لكان هذا الإعطاء بنفسه كذباً، إعطاء المعجزة بيد الكاذب كذب على الناس، لأنه سيصدقه الناس على أنه صادق في دعواه، صادق في نبوته، إعطاء المعجزة بيد شخص تصديق له، فإذا كان في الواقع كاذباً كان إعطاء المعجزة على يده تكذيباً للواقع، والكذب قبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى.

أو فقل: إعطاء المعجزة بيد الكاذب تضليل للناس وإغراء بالجهل، والتضليل والإغراء بالجهل قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم تعالى.

إذاً بالنتيجة: بما أن القبيح لا يصدر منه تعالى، وقد أعطى المعجزة بيد شخص فهذا يدل على أن هذا الشخص صادق في نبوته.

هكذا نُسب لعلماء الكلام أنهم استدلوا على صدق النبوة بإعطاء المعجزة.

الملاحظة على هذا الاستدلال: السيد الصدر قدس سره في بحوثه الأصولية في كتاب بحوث في علم الأصول الجزء الرابع وفي كتاب مباحث علم الأصول، في كلا الكتابين والتقريرين ناقش علماء الكلام في هذا الاستدلال وقال هذا الاستدلال دوري، فلا يمكن الاتكاء عليه في إثبات صدق النبوة.

بيان ذلك: أن المعجزة في حد ذاتها هل هي دليل على صدق هذا الإنسان؟ مع غمض النظر عن قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب أو أي مقدمة عقلية أخرى، هل أن إقامة المعجزة في نفسها دليل على صدق هذا الإنسان أم لا؟

إذا كانت إقامة المعجزة دليلا على صدق الدعوى في نفسه، فنفس إقامة المعجزة دليل على أن من أقام المعجزة نبي، وإذا كان دليلاً بنفسه لا نحتاج أن نضم إليه مقدمة عقلية، وهي قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب، لا نحتاج إلى ضميمة وهي توسيط قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب لأن القبيح لا يصدر من الباري تبارك وتعالى، ضم هذه الضميمة من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان.

وإن قلنا بأن ظهور المعجزة على يد شخص لا يدل في نفسه على شيء، لا يدل على أنه نبي أو صادق في دعواه للنبوة، إذا كان لا يدل على شيء فتوسيط المقدمة العقلية لن يقدم أو يؤخر شيئاً، إذ ما دامت المعجزة لا تدل على الصدق فإعطاؤها لشخص لا يدل على صدقه، مادام ظهور المعجزة لا يدل على الصدق في نفسه فأي مشكلة في أن الله تبارك وتعالى يعطي المعجزة بيد إنسان كاذب؟!

فلو اعتُرض على الله تبارك وتعالى على إعطائه المعجزة بيد كاذب يقول ما المشكلة في إعطاء المعجزة بيد الكاذب إذ الإعجاز في نفسه لا يدل على الصدق والنبوة؟

ولا يعد إعطاؤه بيد الكاذب قبيحاً ولا مستنكراً ولا مخالفاً للكمال ما دامت المعجزة في حد نفسها لا تدل على الصدق، هذا نظير أن الله تبارك وتعالى يعطي إنساناً كل النعم، الثروة والملك والسلطان والأولاد وهو كافر، فما هي المشكلة في ذلك؟ وكذلك لو أعطى كل النعم إنساناً كاذباً فلا مشكلة في ذلك ولا يعد قبيحاً؛ لأن وجود هذه النعم لا يدل على الصدق.

إذاً بالنتيجة: يقول السيد الصدر هذا الاستدلال دوري لا محالة.

بيان الدور: دلالة المعجزة على أن من أُعطي المعجزة صادق، هذه الدلالة متفرعة على أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيح.

لولا هذه المقدمة، وهي أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيح لما دل إعطاء المعجزة بيد شخص على أنه صادق.

إذاً: دلالة المعجزة على صدق الدعوى تتوقف على هذه الكبرى العملية وهي أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيح.

نأتي إلى هذه الكبرى نفسها:

من يقول بأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب كذب؟ ما هو الدليل على ذلك؟

الدليل على ذلك أن المعجزة تدل على صدق النبوة، فصار الاستدلال دورياً؛ دلالة العجزة على صدق النبوة متفرع على أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيح، وهذه الكبرى وهي أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيح فرع دلالة المعجزة في نفسها على صدق النبوة، فصار كل منهما متوقف على الآخر، فيكون الاستدلال دورياً.

وبعبارة أخرى: يقولون الدليل الإنّي دلالة المعلول على العلة، دلالة اللازم على الملزوم، دلالة الدخان على النار دلالة إنّية، لأن الدخان معلول ولازم للنار، فدلالة الدخان على النار من باب الدليل الإنّي، دلالة المعلول على العلة ودلالة اللازم على الملزوم.

لو توقفت دلالة الدخان على النار على كون النار مدخنة يكون الاستدلال دورياً، لا يدل الدخان على وجود النار إلا إذا ثبت لنا أن النار ذات دخان، إذا لم يثبت لنا أن النار ذات دخان كيف نستدل بالدخان على النار؟

ومن جهة أخرى: من أين ثبت لكم أن النار ذات دخان؟ نقول لدلالة الدخان على النار، فيصير الاستدلال دورياً؛ لا يمكن اكتشاف النار إلا بوجود الدخان ولا تتم هذه الكاشفية إلا إذا ثبت لنا في رتبة سابقة أن النار ذات دخان؛ إذ لو لم تكن هذه النار ذات دخان ما دل الدخان على وجودها، فمن أين نثبت أن النار ذات دخان؟ تقولون: من دلالة الدخان على النار، فصار الاستدلال دورياً، كل من الطرفين متوقف على الآخر، والدور باطل.

لذلك السيد الصدر قال: هذا الاستدلال المنسوب إلى علماء الكلام، وهو الاستدلال على صدق النبوة بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب استدلال دوري لا ينبغي التعويل عليه.

النوع الثاني: أن يدعى أن الدلالة وضعية.

بيانه: أن دلالة المعجزة على صدق النبي في نبوته هي في حد ذاتها تامة وهي دلالة وضعية، كدلالة اللفظ على معناه، كما أن دلالة اللفظ على معناه دلالة وضعية، إما وضعاً شخصياً أو وضعاً نوعياً، مثلاً وضع زيد على فلان دلالة وضعية من باب الوضع الشخصي، أو وضع كلمة يشمي على هذه الحركة دلالة وضعية بالوضع الشخصي، لكن دلالة كلمة الأسد على الشجاعة دلالة وضعية، لكن بوضع نوعي، تعارف لدى العرب الكناية عن الشجاعة بالأسد، أو كلمة حمار مثلاً تدل على الغباوة مثلا، فبالنتيجة دلالة اللفظ على المعنى لابد أن تستند إلى وضع إما وضع شخصي أو نوعي.

فحينئذ يقال: بما أن دلالة اللفظ على المعنى هي دلالة وضعية، مع غمض النظر عن أي شيء فإن المعجزة تدل على أن من أقام المعجزة نبي، بالدلالة الوضعية كدلالة اللفظ على معناه.

باعتبار أن الارتكاز العقلائي قائم على ذلك، وأن من أتى بعمل خارق لنواميس الطبيعة - من دون مقدمات علمية ولا استفادة من قوانين كونية - العقلاء يرونه صادقاً، نتيجة وجود هذا الارتكاز العقلائي «وهو أن من أقام معجزة فهو صادق» كان إعطاء المعجزة بيد أي شخص تصديقا له، هذه الدلالة وضعية، كدلالة اللفظ على معناه، نشأت من قِبَل هذا الارتكاز العقلائي، فإذا كانت هذه الدلالة وضعية، الله تبارك وتعالى مع أنه ملتفت إلى أن العقلاء في مرتكزهم أن أي شخص يُعطى المعجزة فهو صادق، مع التفاته تبارك وتعالى لهذا، مع ذلك قام وأعطى المعجزة بيد عيسى أو موسى أو إبراهيم أو النبي ، أعطاه المعجزة.

إعطاؤه تعالى المعجزة بيد شخص مع أن المعجزة دالة على الصدق بدلالة وضعية مستندة إلى الارتكاز العقلائي، نقول هذا الإعطاء إمضاء.

ولبيان المطلب بشكل أوضح نعطي مثالاً: إذا قال ولدي نجحت في الامتحان، فقلت له صدقت، فدلالة كلمة صدقت على تصديقي له دلالة وضعية لا تحتاج إلى مقدمات، لكن هل هو فعلاً ناجح في الامتحان أم لا؟ نحتاج إلى مقدمات أخرى، نحن الآن فقط نريد أن نثبت أن كلمة صدقت تدل على تصديقي إياه، لكن هل هو في الواقع نجح في الامتحان؟ يعني هل خبره في الواقع مطابق أم لا؟ نحتاج إلى مقدمة أخرى، وهي أن من قال له صدقت، وهو أبوه، لا يكذب ولا يخطئ، إذا أحرزنا أن أباه الذي قال له صدقت لا يكذب ولا يخطئ نثبت بهذه المقدمة أنه فعلاً ناجح، وأن خبره مطابق للواقع؛ لأن أباه عندما قال «صدقت» كان تصديقاً له، وهذا التصديق إما صادر من كاذب والمفروض أنه لا يكذب وإما صادر من مخطئ والمفروض أنه لا يخطئ، وإذا أحرزنا أنه لا يكذب ولا يخطئ أحرزنا من خلال هذه المقدمة أن قوله نجحت في الامتحان مطابق للواقع.

نطبق نفس هذا الاستدلال على إقامة المعجزة:

جاء النبي وقال أنا نبي من قِبل الله، والدليل على أني نبي من قبل الله أنني أقيم معجزة، وبعد دعواه أعطاه الله المعجزة، إعطاء المعجزة له تصديق له، ودلالة المعجزة على التصديق له بالدلالة الوضعية الناشئة عن الارتكاز العقلائي.

الآن غاية ما ثبت لنا أن الله صدّقه في دعواه، لكن هل تصديق الله له يدل على أنه نبي فعلاً؟ أم أن الله صدقه تصديقاً صورياً؟

نقول: بما أن تصديق الله صادر من جهة لا تكذب ولا تخطئ؛ لأن الكذب والخطأ نقص، وهو كمال محض، والكمال المحض لا يصدر عنه النقص، إذاً بالاستعانة بهذه المقدمة الخارجية، وهي أن المصدر لا يكذب ولا يخطئ نثبت أن هذا الشخص صادق في نبوته، فهذا الاستدلال، أي الاستدلال بالمعجزة على صدق النبوة يبتني على دلالة وضعية، وهي أن إعطاء المعجزة تصديق.

الملاحظة على هذا الاستدلال: هذا الاستدلال أيضاً محل مناقشة. لماذا؟

هذا الاستدلال كله يرتكز على هذه الدلالة الوضعية: إعطاء المعجزة بيد شخص تصديق له بالدلالة الوضعية.

ما هو منشأ هذه الدلالة الوضعية؟ تماماً كدلالة أي لفظ على معنى تحتاج إلى منشأ، عندما نقول لفظ المشي يدل على الحركة الفلانية، عندما نقول كلمة الأسد تدل على الشجاعة، عندما نقول أبو صابر يدل على الغباوة، وأشباه ذلك، هذه الدلالة لابد لها من منشأ، إعطاء المعجزة بيد شخص تصديق له، ما هو منشأ هذه الدلالة وهذه الملازمة بين إعطاء المعجزة والتصديق، تقولون هذه دلالة وضعية كدلالة اللفظ على المعنى، فما هو منشؤها؟

تقولون الارتكاز العقلائي، نقول الارتكاز العقلائي: إما اعتباطي أو أنه مستند إلى نكتة معينة.

إذا كان هذا الارتكاز العقلائي اعتباطياً: الارتكاز العقلائي يرى أن إعطاء المعجزة تصديق، من دون منشأ، اعتباطاً، إذا كان الارتكاز العقلائي اعتباطاً فلا قيمة له في مقام الاستدلال، يقولون: النتيجة تتبع أخس المقدمات، أضعف المقدمات، إذ نحتمل أن الارتكاز العقلائي قائم على أن إعطاء المعجزة تصديق ومع ذلك الله تبارك وتعالى لا يمضي هذا الارتكاز العقلائي ويعطي المعجزة بيد الكاذب، كما أن الله تبارك وتعالى غيّب عنا إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه - مع حاجتنا المسيسة إليه - امتحاناً لنا وابتلاء لإيماننا، نحتمل أن الله قد يعطي المعجزة بيد الكاذب امتحاناً للناس وابتلاءً لهم، ما الذي يدفع هذا الاحتمال ما دامت المسألة مجرد دلالة وضعية وليس دلالة عقلية، ليست من باب الدليل الإنّي وهو دلالة المعلول على العلة، بل هي من باب الدلالة الوضعية، وهذه الدلالة الوضعية منشؤها الارتكاز العقلائي، وهذا الارتكاز العقلائي اعتباطي.

إذاً نحتمل أن الله تبارك وتعالى لا يمضي هذا الارتكاز العقلائي، فنحتمل أن الله يعطي المعجزة بيد كاذب؛ ابتلاءً للناس، كما أظهر السامري في زمان موسى ابتلاءً للناس الله قد يعطي المعجزة بيد الكاذب ابتلاءً وامتحاناً، فما الذي يدفع هذا الاحتمال حتى نستدل بإعطاء المعجزة على الصدق؟!

وإن قيل إن هذا الارتكاز العقلائي ليس اعتباطياً: بل هو ناشئ عن منشأ وهو المنهج الإلهي.

جرى المنهج الإلهي منذ يوم آدم إلى يوم محمد على أن الله لا يعطي المعجزة إلا لشخص صادق.

لأننا علمنا بوجود منهج إلهي وديدن إلهي أنه لم يعط المعجزة إلا لشخص تبين أنه صادق، نتيجة وجود هذا المنهج وُجد ارتكاز عقلائي يقول: إعطاء المعجزة تصديق.

يعني نشأت هذه الدلالة الوضعية عن ارتكاز عقلائي، وذلك الارتكاز العقلائي نشأ عن منهج إلهي وديدن إلهي أنه ما أعطى المعجزة إلا وتبين أن المعطى للمعجزة صادق.

نرجع إلى أول معجزة وأول نبوة وأول دعوة، قبل تحقق المنهج الإلهي، فإن المنهج الإلهي حصل بالتكرار، فنرجع إلى أبانا آدم مثلاً فنقول: يا أبانا آدم ما هو الدليل على نبوتك؟ فيقول الدليل هو أن الله أعطاني المعجزة.

فنقول له: ما هو الدليل على أن إعطاء المعجزة تصديق؟ لعله يعطي المعجزة بيد الكاذب؛ ابتلاءً وامتحاناً؟

في أول مرة لأول نبوة لا يوجد ارتكاز عقلائي؛ إذ لم يوجد المنشأ لهذا الارتكاز العقلائي، ألا وهو المنهج الإلهي، بعدُ لم يستمر هذا المنهج حتى يكون منشأ لارتكاز عقلائي، فما هو الدليل حينئذ هناك؟!

وإذا لم يتم في الأول لم يتم في الثاني ولا في الثالث وهكذا، حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

إذاً بالنتيجة: لو أننا استندنا في إثبات صدق النبوة إلى أن إعطاء المعجزة بيد شخص تصديق له وأن هذه الدلالة التصديقية دلالة وضعية كدلالة اللفظ على المعنى مستندة إلى ارتكاز عرفي أو ارتكاز عقلائي فإن هذا الاستدلال أيضا لا يتم.

النوع الثالث: الاستدلال الاستقرائي.

وهو الذي أصر السيد الصدر قدس سره على تماميته، وقال لا دليل على إثبات النبوة إلا دليل حساب الاحتمالات، ما لم نقم بدليل حساب الاحتمالات لا يمكن إثبات نبوة النبي، كما أننا لو لم نقم بدليل حساب الاحتمالات لا يمكن إثبات أن الباري تبارك وتعالى حكيم.

يعني لو لم نستخدم دليل الإتقان وأن الباري تبارك وتعالى أوجد كوناً متقناً بنظمه وقوانينه ودساتيره لما أمكن إثبات أنه حكيم، ودلالة النظام المتقن على أن الخالق عقل مدبر حكيم إنما هو بدليل حساب الاحتمالات.

لو لم يكن لدينا دليل حساب الاحتمالات لم يمكن لنا إثبات صدق دعوى النبوة.

كيف نوسّط دليل حساب الاحتمالات لإثبات صدق النبوة؟

هذا ما نتكلم عنه - إن شاء الله - في الجلسة القادمة.

والحمد لله رب العالمين