معالم الروح الأبوية في القيادة الحسنية

1442-02-07

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].

صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

  • المحور الأول: في الشخصية العقلانية والانفعالية في أدب الإمام الحسن الزكي .
  • المحور الثاني: في معالجة إعصار العقل الجمعي في تاريخ الإمام الحسن .
  • المحور الأول: في الشخصية العقلانية والانفعالية في أدب الإمام الحسن الزكي .
المحور الأول: في الشخصية العقلانية والانفعالية في أدب الإمام الحسن الزكي .

في مقام المقارنة بين الشخصية العقلانية والشخصية الانفعالية نذكر هنا عدّة نقاط في المقارنة بين الشخصيتين:

النقطة الأولى: ما هو الأصل النفسي للسلوك؟

هنا اتفقت المدرستان - مدرسة الفكر الديني ومدرسة علم النفس الحديث - على الأصل النفسي للسلوك، والأصل النفسي للسلوك هو غريزة جلب اللذة ودفع الألم، فكل سلوك يصدر من الإنسان ينطلق من غريزة جلب اللذة ودفع الألم، الإنسان عندما يعرض عليه مثير يمر بثلاث مراحل:

  • مرحلة إدراك المثير.
  • مرحلة التفاعل مع المثير.
  • مرحلة البحث عن ما يدفع الألم الذي أثاره هذا المثير.

مثلا: الإنسان إذا شاهد لقطات إباحية جنسية من خلال الشاشة فهو يمر بالمراحل الثلاث، فالمرحلة الأولى «أدرك المثير»، والمرحلة الثانية صار لديه غليان جنسي نتيجة مشاهدة المثير، والمرحلة الثالثة البحث عمّا يشبع لذته ويدفع عنه ألم الإحساس بالجنس، إذن الذي يدفعه للبحث هو غريزة جلب اللذة ودفع الألم.

النقطة الثانية: في النظريات الحديثة لعلم النفس استبدل التعبير بالدوافع بدل التعبير بالغرائز، فقد كان التعريف المعروف «غرائز» وأما التعريف الحديث «دوافع»، والدوافع على قسمين:

القسم الأول: دوافع بايلوجية: وهو الدافع الذي لا يمكن تعديله، فأنت لا تستطيع أن تُعدّل الجوع مثلا، فالجوع هو تقلص عضلات المعدة، وهذا دافع عضوي ولا طريق لإشباعه إلا الأكل.

القسم الثاني: دوافع سايكلوجية: أي دافع نفسي، وهذا يمكن تعديله وتهذيبه، مثلا: إذا تعرض الإنسان إلى إهانة أو سباب أو شتم، فكيف يتعمال مع هذا المثير؟ فهو هنا أمامه خيارات ثلاثة: إما أن يسكت، أو أن يرد الإساءة بالإساءة، أو أن يرد الإساءة بالخلق الجميل والحسن، فإذا اختار الطريق الثالث وهو أن يواجه الإساءة بالسمة والخلق الحسن ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72]، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، فإذا تعامل بالخيار الثالث فهنا يكون قد هذب الدافع السايكلوجي، وهذا الدافع النفسي تعامل معه بتهذيب، وتعامل بعه بتعديل وبصياغة حسنة، إذن الدافع السايكلوجي يمكن تعديله.

النقطة الثالثة: المدرستان - مدرسة الفكري الديني ومدرسة علم النفس - تتفع على الدوافع، وإنما تختلف في كيفية تهذيب الدوافع، وكيفية معالجة الدوافع، فهنا أمامنا مدرستان ورأيان:

المدرسة الأولى: مدرسة علم النفس.

كيف تهذب الدافع وكيف تعالجه؟ المعالجة للدوافع بالاستجابة للعامل الخارجي، ما معنى الاستجابة للعامل الخارجي؟ فرويد - مدرسة متأصلة وهي المدرسة التحليلة في علم النفس، وتطورت نظرياتها وإبداعاتها - يقول هناك جامح وكابحان، الجامح هو الغريزة والدوافع، فمثلا الإنسان يصبح عنده غليان جنسي فهذا جامع، إنسان تصبح عنده حالة من الغضب وإرادة الإنتقام من أشخاص معينين فهذا دافع، إنسان يشعر بالإحباط واليأس فيكاد أن ينفجر فهذا دافع، هذا الدافع يُسمى جامح، والجامح لا يمكن تعديله إلا بكابحين:

الأول: الأنا. يعني أرض الواقع، مثلا افترض إنسانا عنده - لا سمح الله - اشتداد في الغريزة الجنسية، والواقع لا يسمح له بأن يُشبع غريزته، فالواقع الخارجي يكبح غريزته، ويضع له حدودا وجدرانا أمام إشباع غريزته وهذا ما يُعبر عنه بالأنا، فالأنا أرض الواقع وهو الكابح الأول.

الثاني: الأنا الأعلى. وهو الكابح الثاني، وهو عبارة عن قيم موروثة، سواء كانت قيما دينية أو قيما اجتماعية، فالقيم تقف كابحا أمام إشباع الغريزة، فالإنسان - حتى في الغرب إلا ما شد - لا يُشبع غريزته مع المحارم «الأم، الأخوات»، فهناك موروثات دينية واجتماعية يعبّر عنها بالأنا الأعلى تقف أما الجامح تُعدُّ كابحا أمام الجامع الذي يعيشه الإنسان، إذن تهذيب الجامح وتهذيب الغريزة بالاستجابة لعامل خارجي، وذلك العامل الخارجي هو القيم الموروثة.

المدرسة الثانية: مدرسة الفكر الديني.

مدرسة الفكر الديني ترى أن تهذيب الدوافع ومعالجة الغرائز من الداخل لا من الخارج، أي عن طريق الاستجاب لعامل داخلي لا من عامل خارجي، وأبين هذه النقطة، نحن لما نرجع إلى الفكر الديني نرى أن له تصنيفا لمحتوى الإنسان وكيان الإنسان، فيصنف الإنسان على عنصرين «عقل ونفس»، وأن الإنسان يعيش صراعا ما بقي حيّا بين العقل والنفس، الإمام أمير المؤمنين علي يقول: «إن الله خلق الملائكة عقلا بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركب في الإنسان عقلا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو أدنى من البهائم»، فصراع يعيشه الإنسان بين العقل وبين النفس. في منطق علم العرفان هناك تعبير جميل عن هذا الصراع «الإنسان يعيش صراعا داخليا بين لذتين، لذة عقلية ولذة حسية» فاللذات التي يمر بها الإنسان على أقسام ثلاثة، لذة جسدية عندما يأكل الطعام اللذيذ، لذة نفسية عندما يُمدح ويُثنى على إنجازاته ومشاريعه، لذة عقلية وهي أسمى اللذات فمثلا عندما يقوم إنسان بحل معادلات رياضية أو تحليل معلومات دسمة تعرض عليها فإنه تعرض عليه لذة تُسمى باللذة العقلية. الإنسان عندما تشتعل غريزته يعيش صراع بين لذتين، اللذة العقلية أو اللذة الحسية، هل يحتفظ باللذة العقلية أم يحتفظ باللذة الحسية؟! فهو يعيش صراعا داخليا بين عاملين وحينئذ إذا رأى نفسه يعيش غضبا وحالة من الانتقام لكنه ضبط انفعالاته ومشاعره واستولى عقله على نفسه حينئذ انتصرت اللذة العقلية على اللذة الحسية، فإذا انتقم وشفى غليله ممن أساء إليه سوف يتحصل على لذة حسيّة مؤقته كما نعبر «أسكته، رددت عليه» هذه لذة مؤقته ولا تزيل التوتر من النفس، فترجع كل مرة تتذكر الحالة وتصيبك حالة من التوتر، أما اللذة العقلية فعندما تسمو بنفسك عن الانفعالات وتترفع عنها وتترقى عن عالم الانفعالات والحزازات والعالم المشحون بالحزازة والحزن تحصل على لذة عقلية دائمة تُزيل التوتر والاطراب من داخلك ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، إذن تعديل الغريزة بالاستجاب لعامل داخلي وهو انتصار اللذة العقلية على اللذة النفسية.

من هنا تتجلى شخصية الإمام الحسن الزكي ، فالإمام شخصية كلُّها انتصار للذلة العقلية على اللذة الحسيّة، فأنت تقرأ في سيرة الإمام الحسن أنه كان كريما فلقب ب «كريم أهل البيت»، حليما فلقبا «حليم أهل البيت»، صبورا ومتواضعا، فهذه كلها ليست صفات وإنما مظاهر لصفة واحدة تجمع هذه المظاهر كلها ألا وهي سيطرة العقل على الانفعالات، صفة واحدة ألا وهي انتصار اللذة العقلية على اللذة الحسيّة، «كريم» يعني يُضحي بأمواله، فالمال لا قيمة له عنده، فهو لو كان يعيش اللذة الحسيّة لتشبث بالمال فإن المال أشهى الملذات، لكنه لأنه يعيش اللذة العقلية وهي السمو بالنفس عن هذه الإحساسات والانفعالات والمادية تجده كان يُضحي بأمواله، ولقد تصدق بأمواله ثلاث مرات في حياته، حتى أنه كان يُمسك نعلا ويتصدق بالنعل الآخر، ويأيته الفقراء والمحتاجون، فيأتي المحتاج يقف على بابه ويطرق الباب:

لَمْ يَخِبِ الْآنَ مَنْ رَجَاكَ وَ مَنْ

أَنْتَ   جَوَادٌ   وَ  أَنْتَ  iiمُعْتَمَدٌ

لَوْ  لَا  الَّذِي  كَانَ مِنْ أَوَائِلِكُمْ



 
حَرَّكَ  مِنْ  دُونِ  بَابِكَ iiالْحَلَقَةَ

أَبُوكَ  قَدْ  كَانَ  قَاتِلَ  iiالْفَسَقَة

كَانَتْ  عَلَيْنَا  الْجَحِيمُ iiمُنْطَبِقَة

الإمام يُخرج صرة الدراهم والدنانير ويقول:

خُذْهَا    فَإِنِّي   إِلَيْكَ   iiمُعْتَذِر

لَوْ كَانَ فِي سَيْرِنَا الْغَدَاةَ عَصًا

لَكِنَّ   رَيْبَ  الزَّمَانِ  ذُو  iiغِيَر



 
وَ  اعْلَمْ بِأَنِّي عَلَيْكَ ذُو iiشَفَقَة

أَمْسَتْ  سَمَانَا  عَلَيْكَ  مُنْدَفِقَة

وَ  الْكَفُّ  مِنِّي  قَلِيلَةُ  iiالنَّفَقَة

جاءه إنسان قبل أن يتكلم أعطاه الإمام صرّة الدراهم، فقال: يا أبا محمد، هلّا انتظرت مسألتي وعرفت حاجتي، قال:

نَحْنُ   أُنَاسٌ   نَوَالُنَا   خُضْلٌ

تَجُودُ   قَبْلَ   السُّؤَالِ  أَنْفُسُنَا

لَوْ  عَلِمَ  الْبَحْرُ  فَضْلَ  نَائِلِنَا



 
يَرْتَعُ  فِيهِ  الرَّجَاءُ  وَ  iiالْأَمَلُ‏

خَوْفاً عَلَى مَاءِ وَجْهِ مَنْ يَسَلُ‏

لَغَاضَ  مِنْ  بَعْدِ فَيْضِهِ iiخَجِل‏

هذا كرمه، وتعالى إلى حلمه، فالحلم ضبط الأعصاب، فالحلم أن تُسيطر على انفعالاتك، الحلم أن تنتصر اللذة العقلية على اللذة النفسية، رأى رجل من أهل الشام الإمام الحسن - والإمام الحسن كان جميل الصورة وجذابا يُلفت النظر، فكان إذا جلس على قارعة الطريق امتنعت الناس عن المرور - فقال الشامي: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فشتمه وشتم أباه، فالفت إليه الإمام الحسن ببسمته وقال: يا هذا، أظنك غريبا، ولعلك اشتبهت فينا، فإنك لو استرشدتنا لأرشدناك ولو استعتبنا أعتبناك، فإن كنت طريدا آويناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، فهلا حولت رحلك إلينا وزلت ضيفا علينا، فإن لنا منزلا رحبا وجاها عريضا، ومالا وفيرا، فما تمالك الرجل حتى انكب عليه يقبله، الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

الإمام الحسن جاريته تصب الإبريق على يديه فيسقط الإبريق فيشج رأسه فيرفع عينه وتقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قال: كظمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، قال عفوت عنك، قالت: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: أنت حرة لوجه الله.

روح ملؤها الحكمة والعقل وضبط الانفاعلات وضبط المشاعر، فيتعامل بروح أبوية وبروح خافقة بالحنان والعطف والرأفة مجسدا لخلق جده رسول الله والذي أثنى عليه القرآن الكريم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].

المحور الثاني: معالجة إعصار العقل الجمعي في تاريخ الإمام الحسن .

حتى نشرح هذا المحور نتعرض إلى عدّة نقاط عابرة:

النقطة الأولى: هناك علمان كبيران اتفقا في فكرة واحدة وهما العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي «صاحب تفسير الميزان»، غوستاف ليبون عالم الاجتماع المعروف.

عندما نأتي إلى هذه الآية المباركة ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46]، ما معنى الآية؟ السيد صاحب الميزان «قده» عندما يأتي إلى الآية المباركة يقول: هذه الآية معناها أن النبي يعظم قومه فيقول لهم: أنصحكم بدلا من أن تنشروا دعايات وإشاعات عني «إنسان مجنون..» أنصحكم بنصيحة أن تقوموا لله بأن يكون قيامكم لأجل الله، أي بلا دوافع أنانية ولا عصبية ولا قبلية بل تقوموا لله، ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى أي اثنين اثنين، ﴿وَفُرَادَى أي واحدا واحدا، لأجل أي شيء؟ ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ كيف يتفكرون؟ يقول صاحب الميزان: إذا اجتمعت كلٌّ يحدث الآخر، هذا مجنون وهذا فيه ما فيه، وإذا افترقتم يصفوا فكركم ويستقيم رأيكم وتتجنب الغوغاء التي لا فكر لها ولا شعور لها وقد تُميت الحق وتحي الباطل، ماذا يقصد صاحب الميزان؟ فهو يقصد نظرية العقل الجمعي، وهي نظرية مذكور في علم الاجتماع، فأنتم حتى تتخلصوا من هذه الإشعات اتركوا هذه الغوغاء، كلٌّ يُفكر وحده، هل هذا النبي صادق أم لا؟ أنتم إذا تجنبتم الغوغاء أي خرجتم عن محيط العقل الجمعي وفكرتم سوف تصلون إلى الحقيقة ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فالغوغاء هي العقل الجمعي.

غوستاف ليبون يتحدث عن العقل الجمعي فيقول: إن للإجتماع روحا خاصة وصفات خاصة تجعل أفراده يعملون ويفكرون بكيفية تختلف عن كيفية تفكيرهم فرادى، أضرب لك مثالا تراه في حياتك، تعاشر إنسانا تجده رزينا وثقيلا، لكن بمجرد أن تذهب إلى الملعب تشاهد المباراة تجد ذاك الرزين بمجرد أن يُهزم فريقه تجده يخرج عن إطار الطبيعة والاعتدال وينزل للميدان يخرب ويواجه الناس لأجل أنّ فريقه انهزم، فذاك الرزين عندما يفكر وحده يكون رزينا ومعتدلا، لكن عندما يُفكر في محيط العقل الجمعي يسير بكيفية أخرى يتناغم مع محيط العقل الجمعي، فالعقل الجمعي يجعل أفراده يفكرون بكيفية تختلف عن كيفية تفكيرهم عندما يكونون فرادى، العقل الجمعي - كما يقول عنه ليبون - له صفات أربع:

  • الاندفاع في المشاعر.
  • عدم القدرة على التعقل.
  • فقدان ملكة النقد.
  • التطرف في الأحكام.

أنت ترى عندما تكون هناك شائعة - وخصوصا هذه الأيام على وسائل التواصل التي هي الحضن الدافئ لكل الإشاعات - أو إثارة معينة يتشكل عقل جمعي، وعندما يتشكل عقل جمعي يعني اندفاع في المشاعر فالتفكير ينتهي وفقدان الفكرة على التعقل، غياب ملكة النقد فإذا إثارة لا تستطيع أن تنتقدها لأنها عشرات المتكلمين، فلا تستطيع أن تنتقدها، فتفقد القدرة على النقد، التطرف فالأحكام، فالإشاعات تقود إلى التطرف في الأحكام على الناس وعدم مراعاة حرماتهم وكراماتهم. إذن العقل الجمعي قد - كما يقول السيد صاحب الميزان - يميت الحق ويحيي الباطل، فهو يعبر عنه بالغوغاء.

النقطة الثانية: ارجع إلى مقالة الدكتور حنان عطاالله «هل يكون التفكير الجمعي دائما على صواب؟»، ومقالة «سايكلوجية السلوك الجمعي» للدكتور عبدالكريم سليم علي، هؤلاء باحثون في علم الاجتماع، فيقلون: السلوك الجمعي له أركان ثلاثة:

الركن الأول: عقل جمعي.

وهي الفكرة التي تقود عقول مختلفة بآلية واحدة ونتائج متقاربة، تجده طبيبا ومهندسا وربما عالم دين وربما متخصص في عالم الفيزياء ومتخصص في الرياضيات وغيرهم تقودهم شائعة واحدة، إذن العقل الجمعي فكرة تقود عقولا مختلفة بآلية واحدة لنتائج متقاربة، فشائعة واحدة تقود مجتمعا فيه عقول وفيه مواهب وفيه أفكار ولكن تقودهم فكرة واحدة.

الركن الثاني: السلوك الجمعي.

إذا وُجد العقل الجمعي وُجد معه سلوك جمعي، والسلوك الجمعي يعني الاستجابة السريعة التلقائية بدون تفكير في العواقب للإيحاءات والإثارات والمحاكات والمسايرة، فالعادات سلوك جمعي فلربما تكون هي عادة سيئة لكنها عادة، والأعراف والتقاليد كلها سلوك جمعي، والشائعات والإثارات قد تُحدث سلوكا جمعيا.

الركن الثالث: الزعامة الجمعية.

وهذه هي الأخطر، فكثير من التجمهرات والاحتشادات والعقل الجمعي لربما يولد صدالإنفة نتيجة عدو يهدد الناس فتثور الناس، نتيجة إنسان يهاجم الناس في أعرافهم أو عاداتهم أو تقادليهم فتثور الناس ضده، ولربما تكون القضية عفوية اتفاقية، لكن كثيرا ما يكون وراء السلوك الجمعي زعامة جمعية، زعامة تنظم صفوفه وأفكاره، هذه الزعامة من أين تأتي فتؤثر على عقول مختلفة وقدرات وطاقات فتقودهم بكلمة وبإثارة وبشائعة؟ هنا يذكر علماء الاجتماع:

هناك بعض الناس يعيش معاناة مكبوتة لسنين طويلة، وهذه المعاناة المكبوتة هو إما يعيش عقدا في داخل شخصيته أو يعيش أحقادا في داخل شخصيته، أو يعيش أفكارا شاذة انفاعلية لا يستطيع إبرازها لخوفه من ردةّ الفعل الاجتماعي، فمجرد أن يجد لنفسه مخرجا في إطار اجتماعي معين يركب الموجة، فيستغل الغوغاء في إثارة أفكاره الشاذة والإنفعالية ويتحول ذاك المعقّد المنطوي على نفسه إلى زعيم جمعي يقود غوغاء أو تيارا جمعيا معينا نتيجة أساليب وآليات معينة وجد من خلالها التنفيس عما يعيشه من معاناة مكبوتة لسنين طويلة.

النقطة الثالثة: ما هي أسباب الاستسلام للعقل الجمعي؟

لماذا نستسلم للشائعات؟ هناك أسباب ثلاثة يذكرها علماء الاجتماع:

السبب الأول: هو الإنذار بالخطر، فإذا أردت أن تحرك الناس فأنذرهم بالخطر فهو يشكل عقلا جمعيا وسلوكا جمعيا وإثارات عارمة عند الناس، سواء كان الخطر خطرا جسديا أو دينيا، فيأتي أحدهم يقول: ”أين دينكم؟ فهذا يهدد دينكم“، أو خطرا اجتمايا فيقول: ”هذا يُكسّر عاداتكم وتقاليدكم وأعرافكم“، فتثور الناس، فالإنذار بالخطر سبب رئيس في تشكيل عقل جمعي وسلوك جمعي.

السبب الثاني: الإنسان بطبعه قلق، كل إنسان منّا قلق، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19]، فهناك من يعيش قلقا على حياته، وآخر على صحته، وآخر على وظيفته ورزقه، وآخر على أسرته وأولاده، وآخر على مجتمعه، فكل إنسان يعيش قلقا على مجتمعه، فالإنسان كائن قلق بنظر علماء الاجتماع، ولأجل أنه قلق يستسلم للعقل الجمعي؛ لأن أغلب الناس يُفضلون الأفكار التي يؤمن بها المجتمع على الأفكار التي يؤمنون بها؛ لأنه إذا آمن بها وسار مع الناس بها ضمن الأمن والحماية والمقبولية لدى الناس، أما إذا أصرّ على الأفكار التي يؤمن هو بها والقناعات التي هو يقتنع بها ولو كانت أفكارا صحيحة فسوف يخسر الأمن وسوف يخسر الحماية الاجتماعية والمقبولة الاجتماعية، فأغلب الناس انطلاقا من القلق يستسلم للعقل الجمعي.

السبب الثالث: الإنسان بطبعه حالم «طوباوي»، ونحن أحلامنا أكثر من إجازاتنا، تتسند وتحلم أحلاما وأمنيات ومشاريع وأما الإنجازات فنسبتها 2%؛ فلأن الإنسان بطبعه حالم وعنده أمنيات وأحلام لذلك تجده كثير التبرير والأعذار لأنه يريد أن يعيش على الأحلام، عائلته فيها أخطاء لكنه يبرر لها، فهو يبرر للجهة التي ينتمي إليها أنتمي إلى فلان فيبرر له، لأسرته لجماعته ولانتمائه فلا يريد أن يعيش الواقع كما هو، بل يريد أن يعيش عالم الاحلام والآمال والأمنيات، لذلك يستسلم للعقل الجمعي حتى لا يتفاجأ بالواقع الصريح.

من هنا ننطلق إلى الإمام الحسن الزكي ، فالإمام واجه عقلا جمعيا شرسا في حياته، فأنت لو أنك تقوم بمقارنة بين الأئمة من الإمام علي إلى الإمام العسكري تجد أن أكثر إمام تعرض لمواجهة هو الإمام الحسن ، فأكثر إمام تعرّض لمواجهة لاذعة من المجتمع الذي عاش فيه هو الإمام الحسن ، فالإمام الحسن واجه عقلا جمعيا شرسا مضاد لشخصيته ولقيادته ونهجه وسيرته.

كيف تعامل الإمام الحسن مع العقل الجمعي؟

هناك إعصاران واجههما الإمام الحسن أيام إمامته وهما:

الإعصار الأول: إعصار عام.

استطاع الإعلام الأموي أن يشكل عقلا جمعيا مضاد للإمام الحسن ، وهذا العقل الجمعي كان يثير التشكيك في قيادة الإمام الحسن ، فاستطاع أن يُعبئ الناس أن الحسن لا يقدر على القيادة ولا يصلح للإدارة ولا يصلح للخلافة بل هو إنسان عاجز، إنسان مزواج ومطلاق، يعيش وراء شهواته، فاستطاع الإعلام الأموي أن يُصور الحسن شخصية مضطربة لا تصلح للقيادة والإدارة، لذلك تشكل عقل جمعي مواجع للإمام الحسن .

من مظاهر هذا العقل الجمعي أن قبائل شريفة من أهل الكوفة ذهبت وبايعت معاوية والإمام الحسن كان لا يزال هو الخليفة الرسمي حتى صعد على المنبر وقال: ”يا أهل الكوفة لقد بلغني أن أهل الشرف منكم أتوا معاوية وبايعوه، فلا تغروني في نفسي وديني“، الإمام الحسن في المدائن في منطقة ساباط هجم عليه الناس وهو القائد الخليفة وطعنوه بنخجر في فخذه وقالوا: ”أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل“، لم يعش أحد هذه المواجهة الشرسة، فقد شكل الأمويون عقلا جمعيا يشكك في شخصيته وقيادته وواجهوه بذلك.

كيف عالج هذا العقل الجمعي؟ رأى الإمام الحسن أن أفضل وسيلة هي الصلح؛ لأن الناس إذا لم تؤمن بقيادتك فلتجرب قيادة أخرى وتكتشف أخطاءها وتكتشف مظالمها وتعود مرة أخرى لتؤمن بسلامة قيادتك ونزاهة شخصيتك، فالإمام الحسن أعطى الأمة فرصة لتجرب القيادة الاموية لتكتشف أخطاءها ومظالمها وجورها لتعود بعد ذلك إلى حضن القيادة العلوية الفاطمية، وهذا كان أحد أسباب صلحه لمعاوية لعلاج العقل الجمعي الذي واجهه بعد مقتل أبيه أمير المؤمنين .

الإعصار الثاني: إعصار خاص.

وهو أشد، فالإمام الحسن صالح معاوية بن أبي سفيان فتولد تيار داخل الشيعة ضده، فاستطاع الأموين مرّة أخرى أن يشكلوا عقلا جمعيا مضادا للصلح، كيف واجه الإمام الحسن هذا العقل الجمعي؟ أذكر لك مواقفا من شيعة الإمام الحسن ومن خلص أصحابه كيف أنهم استقبلوا صلحه مع معاوية.

الموقف الأول: ابن شهر آشوب في المناقب يروي أن حجر بن عدي الكندي - الثائر الشهيد، الرجل العظيم، من أصحاب الإمام علي - دخل على الإمام الحسن بعد صلحه مع معاوية وقال: ”ليتك مت يا حسن، ومتنا معك، ولم تُبايع معاوية، لقد رجعوا مسرورين بما أحبوا، ورجعنا راغمين بما كرهنا“، وهذا الكلام كان أمام الناس لكن الإمام الحسن أمسك بيده وذهب إلى زاوية من زوايا البيت وقال: ”يا حجر لقد سمعت كلامك بالمجلس، يا حجر ليس الناس مثلك، ولا رأيهم كرأيك، لا يحبون ما تحب، والله ما أردت بفعلي هذا إلا الإبقاء عليكم، والله كلّ يوم هو في شأن“، ولربما أحد يقول أن حجرا ما أساء وإنما هي مشاعر داخلية عبّر عنها بهذه الطريقة، فهو يتكلم بمشاعر.

الموقف الثاني: عدي بن حاتم من أصحاب أهل البيت قُتل في معركة التوابين التي قامت لطلب ثأر الحسين×، فدخل على الإمام الحسن وقال: يا أبا محمد لقد أخرجتنا من العدل إلى الجور، تركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا الباطل الذي كنا نهرب منه، أعطينا الدنية من أنفسنا، ورضينا بالخسيس من العيش الذي لم يلق بنا ”، كيف تعامل معه الحسن×؟ تعامل معه بكل هدوء، فأجلسه وقال:“ يا عدي، والله لو نازلت معاوية لم يكن معاوية بأصبر مني في اللقاء، ولا أثبت مني عند النزال ”والإمام الحسن يقول عن واقع، فمعاوية كتب إلى الإمام الحسن وقال:“ يا أبا محمد أنا خير منك، لأن الناس أجمعت علي ولم تُجمع عليك ”، فكتب له الإمام الحسن:“ إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاصٍ لله، وأنا لا أقول أنا خير منك لأنه لا خير فيك، فلقد برأك الله من الفضائل كما برأني من الرذائل ”، فالإمام يؤكد فيقول:“ لم يكن معاوية بأصبر مني في اللقاء، ولا أثبت مني عند النزال، ولكني أردت بفعلي هذا أن أدفع عنكم القتل وأن أكفّ بعضكم عن البعض الأخر".

الموقف الثالث: مالك بن ضمرة وهو من أصحاب أهل البيت، وقد كان رفيق أبي ذر الغفاري «رض»، دخل على الإمام الحسن بعد الصلح وقال: يا أبا محمد ما ينقضي تعجبي منك، كيف باعيت معاوية وعند 40 ألفا يدفعون بالسيف دونك قدما؟ فقال: يا مالك ما ترى؟ قال: أرى أن ترجع لما كنت عليه، فإنه نقض الذي بيننا وبينه، قال: يا مالك إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكراهتهم للحرب، فما أردت أن أحمل الناس على ما يكرهون، إني خشيت أن يجتثّ المسلمون عن وجه الأرض"، لا تتصور أن المعركة ستنتهي بقتل الحسن ومن معه، بل هذه المسألة أعظم من كربلاء، فكربلاء قتلوا الحسين ومن معه، قد قتال الحسن لا ينهتي بهذا بل ينتهي بالاجتثاث «إني خشيت أن يجتثّ المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للمسليمن ناعي»،

الموقف الرابع: أعظم موقف هو موقف سليمان بن صرد الخزاعي قائد حركة التوابين التي خرجت تطلب ثأر الإمام الحسين، وهذا أعظم موقف لاذع للإمام الحسن ، دخل عليه سليمان بن صرد وقال له: ”السلام عليكم يا مذلَّ المؤمنين“ - كلمة كبيرة، هذا إمام مفترض الطاعة قال فيه رسول الله : ”الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا“ - فقال له الإمام الحسن وقد كان معه جماعة، فقالوا: ”يا أبا محمد أنبئ عنك فلنخلع عامل معاوية ولنقاتله“، انظر إلى الإمام الحسن وإلى شخصيته الهادئة والمسالمة والضابطة للمشاعر والانفعالات، وهكذا تكون القيادة الحكيمة فهي لابد أن تتسم بالروح الأبوية وعدم الاستجابة للإثارات، وإذا الإمام الحسن يقول: ”مرحبا مرحبا، أنتم شيعتنا المخلصون لنا، المعرفون بالصحبة والنصيحة والاستقامة لنا - ثم يقول - ما أردت بفعلي هذا إلا حقن دمائكم وإصلاح ذات بينكم، وأن أكفّ بعضكم عن البعض الآخر، وأما قولك يا سليمان“ يا مذل المؤمنين ”فأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تقتلوا“.

هذه مواقف تشكل عقلا جمعيا ينتقد الصلح الذي أبرمه إمام مفترض الطاعة عالج الأمور بحكمة وروية، وهذه المواقف نستنتج منها:

أولا: لاحظوا كلمة تكررت في هذه المواقف من الإمام الحسن وهي: ”وأن أكف بعضكم عن البعض الآخر“، يعني المسألة ليست مسألة قتال بيني وبين معاوية، بل الحرب ستتحول إلى اقتتال داخلي بين المؤمنين أنفسهم؛ لأن الحرب إذا استمرت ستنقلب إلى ردة فعل وستتحول إلى اقتتال داخلي بين المؤمنين أنفسهم ”وأن أكف بعضكم عن البعض الآخر“.

ثانيا: نستنتج الروح العملاقة التي كان يمتلكها الإمام الحسن، روح كلها حنان ورأفة ورحمة، ولا يعرف الانفعال ولا يعرف الحدة، ولا يتعامل إلا بالهدوء والسكينة والبسمة والمسالمة والرحمة والعطف، أيُّ روح عملاقة ملكها الحسن الزكي .

ثالثا: نتسنتج درسا تربويا في كيفية التعامل مع العقل الجمعي، فإذا رأيت عقلا جمعيا سيئا، كيف تتعامل معه؟! لا تتعامل بالمواجهة، فإن العقل الجمعي يستدرجك لتنزل لمستواه، بل تعامل معه لا بالمواجهة، ولا بالسكوت؛ لأنك صاحب كلمة ورأي، فتعامل مع العقل الجمعي بلغة المنطق العلمي، بلغة البرهان والدليل كما صنع الإمام الحسن مع أصحابه، فأقنعهم بصلحه وذكر لهم الأسباب، وذكر لهم الدوافع والمبررات، فعالج ذالك العقل الجمعي المتوتر المحتقن تجاه صلحي مع لمعاوية بن أبي سفيان.

وعاش الإمام الحسن مظلوما مضطهدا، ومحاربا إلى أن قضى حياته مسموما شهيدا محتسبا، وساعد الله قلب أخيه الإمام الحسين عندما وقف على قبره ونشج نشيجا وبكى بكاء يُفطر القلوب:

أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي = ورأسك معفور وأنت سليب‏