الدرس 2 | النظرية العقلية بين ديكارت وكانت

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]

صدق الله العلي العظيم.

نتعرض لمحاور أربعة تتعلق بشرح هاتين النظريتين عند هذين الفيلسوفين:

المحور الأول: ما هي المعرفة؟

هنا نطرح هذا التعريف من كتاب «الفلسفة الحديثة» لكريم متّى ص23، حيث يذكر أن الفيلسوف النمساوي «مينونيك» عرف المعرفة بأنها ”الإدراك المتقوم بثلاثة عناصر، فعل الفكر، والمحتوى للفكر، والموضوع“. فالعنصر الأول أن يقوم الذهن برسم صورة. أما العنصر الثاني، ما هو محتوى الصورة؟ ما هي صفات الصورة؟ وهذا عنصر ثانٍ دخيل في تكون المعرفة، وقد تتضح الصفات تفصيلا وقد لا تتضح إلا إجمالا، فقد يتصور الإنسان كتاباً أو مقالاً بشكل تفصيلي وقد يتصوره بشكل إجمالي، فالعنصر الثاني قد ينكشف إجمالاً، وقد ينكشف تفصيلاً. أما العنصر الثالث - الموضوع - مُطَابَق هذا الفكر، وهل أن وراء هذه الصورة التي ارتسمت في ذهن الإنسان شيء في الخارج أم لا؟

مثلا: قد يتنبأ الإنسان بشيء يحدث بعد سنة، بعد شهر، وقد لا يكون تنبؤه مصيبا، فهو قد حصل العنصرين الأولين - فعل الفكر والمحتوى - ولكن العنصر الثالث - الموضوع - لم يحصل لأنه تبين أن الصورة لا وجود لها، وأن ما تنبأ به لم يتطابق مع عالم الواقع الخارجي.

إذن، إذا اجتمعت العناصر الثلاثة - فعل الفكر، والمحتوى للفكر، والموضوع الخارجي - تكونت ما نُعبر عنه بالمعرفة.

المحور الثاني: ما هي أقسام المعرفة؟

هناك موقع عنوانه «الباحثون المصريون» يقومون بترجمة مقالات وكتب فلسفية من خلاله، وفي هذا المقال تُقسّم المعرفة إلى ثلاثة أقسام:

المعرفة الشخصية: هي المعرفة الناشئة عن الاطلاع المباشر، كمعرفتي بالقطيف؛ لأني على اطلاع مباشر بالمدينة، معرفتي بنفسي وأفكاري؛ لأني على اطلاع مباشر على نفسي وأفكاري وخواطري، هذه هي المعرفة الشخصية الناشئة عن الاطلاع المباشر.

المعرفة الإجرائية: هي معرفة كيفيّة الممارسة، مثلا: معرفتي لقيادة السيارة، فهذه المعرفة هي عبارة على أنني أمتلك مهارة قيادة السيارة، معرفتي للعب الكرة، فهذه المعرفة أيضا عبارة على أنني أمتلك مهارة لعب الكرة، فهذه معرفة إجرائية بمعنى «كيفيّة الممارسة».

المعرفة الافتراضية: هي عبارة عن أفكار ومفاهيم يبحث الفلاسفة عن قيمتها ومدى اعتبارها، فعندما نقول مثلا: «زوايا المثلث تساوي قائمتين «180°»، فهذا مفهوم رياضي، وهذا يُعبر عنه ب «المعرفة الافتراضية»، فلا هو ناشئ عن اطلاع شخصي على الخارج، ولا هو عبارة عن مهارة أمارسها، فهو مفهوم من المفاهيم، فهل لهذا المفهوم قيمة معرفية أم لا؟! وهذا الذي يهم الفلاسفة، وهو مَحِّل البحث والتدقيق عندهم، فعندما نقول مثلا: «الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث»، فإن هذا مفهوم من المفاهيم، ويهم الفلاسفة، وأن هذا المفهوم له قيمة معرفة أم لا.

نحن عندما سنبحث حول «نظرية المعرفة»، سنبحث الأقسام الثلاثة، لكن ما هو محل البحث والتدقيق حول القيمة المنطلقة للمعلومة؟ فإنه يتمركز في القسم الثالث.

المحور الثالث: أنواع الإدراك.

لكي نعبر إلى صلب البحث فإنه لابد أن ندخل في أنواع الإدراك، ومن هناك نذهب إلى ما ذكره السيد محمد باقر الصدر في كتاب «فلسفتنا» [1]  بعنوان «المصدر الأساسي للمعرفة»، فقد ذكر السيد الشهيد السعيد «قدس» أمورا في هذا المحور:

الأمر الأول: لا يمكن لأيِّ مفكر ولأيِّ جهة فكرية أن تضع فلسفة للكون أو فلسفة للحياة قبل تحديد مصادر الفكر، فأول كلمة هي تحديد مصادر الفكر، من أين يكتسب الفكر مصادره؟

الأمر الثاني: عندما نبحث عن مصادر الفكر، أي مصادر المعرفة، أي هذه المادة - مادة الكيان الفكري الذي يملأ أذهاننا وعقولنا - فإن أول سؤال نطرحه: كيف نشأت المعرفة؟ ما هي بذرتها لدى الإنسان؟

الأمر الثالث: الإنسان له ألوان من التفكير - قلنا سابقا أن هناك حقائقَ واعتباريات وانتزاعيات ووهميات ومخترعات - وبعضها ينتج بعضا، لكن حتى نصل إلى الجواب عن السؤال «كيف نشأت المعرفة؟» لابد أن نرجع إلى الخيوط الأولية للفكر - لأول المعارف - لدى الإنسان ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]، والمنطق الأرسطي الذي تسير عليه الفلسفة الإسلامية وذكره السيد الصدر هنا: ”أن الخيوط الأولية - البذرة - تنشأ من تقسيم الفكر والإدراك إلى التصور والتصديق“.

فهناك قسمان:

التصور: وهو الصورة الساذجة التي ليس معها موقف، فليس عندي موقف من صورة ارتسمت في ذهني - لإنسان أو بلد أو أي شيء آخر - وليس عندي أي موقف تجاهها. وأما

التصديق: الصورة التي يكون معها حكم - نفي أو إثبات أو ترجيح أو شك - كما يقال «النفس وجود مادي» فإن موقفي من هذه الفكرة «نفي، إثبات، ترجيح، تشكيك»، فعندما تكون الصورة موضوعا لموقف نسمي ذلك بعملية التصديق.

الآن فعلا - ربما في محاضرتين أو ثلاث - نتكلم عن القسم الأول «التصور»، كيف تنشأ التصورات وتتكون التي لا تستتبع موقفا لدى الإنسان في الذهن؟ سواء كان التصور لمفرد كتصور الضوء أو الحرارة، أو التصور لمركب مثل ظاهرة الاحتباس الحراري، فأنا سمعت هذه الكلمة فتصورت ظاهرة الاحتباس الحراري من دون أن يكون لي موقف منها، إذن، سواءً كان التصور لمفرد أو لقضية تركيبية فهو بالنتيجة يدخل تحت القسم الأول «قسم التصور».

هناك كتاب في الفلسفة وهو «منظومة السبزواري في الفلسفة» للملا هادي السبزواري، وهو أيضا يطرح هذا التقسيم، فيقول:

الارْتِسامِيُّ  مِنَ ادْراكِ iiالْحِجى   إِمّا   تَصوّرٌ   يَكونُ   ساذِجا
أَوْ هُوَ تَصْدِيقٌ هُو الحُكْمُ فَقَط   وَمَنَ   يُرَكِّبْهُ  فَيَرْكِبْ  الشَطَط

أي من يتصور أن التصديق مركب من جزئين «صورة وحكم» فهو مشتبه، فالتصديق هو نفس الحكم وليس شيئا آخر «ومن يركبه فيركب الشطط»، وهذا رأيه في تحديد معنى التصديق.

تداعي المعاني.

السيد الصدر في كتابه «فلسفتنا» [2]  يتعرّض إلى «ستيوارت مل» فيقول أن هذا الفيلسوف عنده نظرية خاصة في معنى التصديق تختلف عمّا يطرحه المنطق الأرسطي كما شرحناه، فإن هذا الفيلسوف - ستيوارت مل - يرى أن التصديق يندرج تحت باب تداعي المعاني، تداعي المعاني قانون مذكور في «علم النفس» والفلاسفة يُقرّونه من قديم الزمان، وهو - تداعي المعاني - كيف أن صورة تستتبع صورة، صورة في ذهني تستتبع صورة أخرى. تداعي المعاني ينشأ عن:

التشابه: فأتصور صورة «الفهد» فتأتي صورة «الأسد» لوجود تشابه بين الصورتين.

التضاد: فأتصور «التواضع» فيستدعي تصور «التكبر»، فهذا التداعي نتيجة التضاد بين المفهومين.

الاقتران الشرطي: وهذه نظرية «بافلوف» وهي نظرية معروفة، والتجربة التي أُقيمت على الكلب عندما قاموا بالقرن بين دق الجرس وتقديم الطعام له، تكررت عدة مرات فكلما رن الجرس قُدِّمَ الطعام، فأصبح الكلب بمجرد أن يُطرق الجرس يَسيلُ لعابه لأنه ينتقل من صورة الجرس إلى صورة الطعام، هذا التداعي - تداعي المعاني - نشأ عن الاقتران الشرطي، وهو القرن بين دق الجرس وتقديم الطعام. ولذلك السيد الصدر نفسه في كتبه الأصولية أدخل عملية اللغة في الاقتران الشرطي، فقال أن اللغة هي عملية من مصاديق الاقتران الشرطي، يعني الواضع الأول للغة العربية أو الفرنسية أو غيرهما قام بعملية اقتران شرطي، فربط بين اللفظ والمعنى، فقال «كتاب» «كتاب» إلى أن حصل اقتران بين لفظ الكتاب وبين المعنى، فكلما أُطلِق اللفظ انطلق الذهن إلى المعنى، فعملية الوضع اللغوي من أمثلة الاقتران الشرطي.

تداعي المعاني نظرية لها أسباب كما أشرنا، وعلاقتها ببحثنا أن الفيلسوف «ستيوارت مل» قال أن التصديق هو نفس عملية تداعي المعاني، فالتصديق هو عبارة عن عملية استتباع صورة لصورة أخرى، أما السيد الصدر يناقشه ويقول أن تداعي المعاني ليس له علاقة بالتصديق، فتداعي المعاني قد لا يكون معه موقف فيدخل في قسم التصور، وقد يكون معه موقف فيدخل في قسم التصديق، وليس تداعي المعاني هو عبارة عن التصديق، وهذا اختلاف في الاصطلاح لا يهمنا الدخول في نقاشه.

المحور الرابع: عرض نظريتي «ديكارت» و«كانت» في نشأة المعرفة «في نشأة الصورة في الذهن».

قبل أن نتعرض إلى شرح النظريتين نقرأ كلام السيد الصدر في كتابه «فلسفتنا» [3]  تحت عنوان «النظرية العقلية»، والتي تجمع النظريتين معاً، فقال: «أن «ديكارت» - الفيلسوف الفرنسي بين السادس عشر والسابع عشر - و«كانت» - الفيلسوف الألماني في القرن الثامن عشر - تتلخّص نظريتهما بالاعتقاد بوجود منبعين للتصورات، أحدهما «الإحساس» كتصور الحرارة والصوت والطعم، والآخر «الفطرة» بمعنى أن الذهن البشري يملك معانٍ لم تنبثق من الإحساس وإنما هي ثابتة في صميم الفطرة"

ما معنى ذلك؟ النفس تستنبط من ذاتها، يعني أن النفس تستنبط هذه المعاني من داخلها، من وجدانها، لا أن النفس تسترفدها من الخارج، فالنفس تستنبط من ذاتها، ثم يقول: ”وهذه التصورات الفطرية عند «ديكارت» هي فكرة «الله والنفس والامتداد - سواء في الزمن أو في المكان - والحركة»“، فهذه كلها أفكار ليس مصدرها الحس فهي من داخل النفس وُجدت، ثم يقول: ”وأما عند «كانت» فالجانب الصوري للإدراكات والعلوم الإنسانية كلُّه فطري“، وهذا يعني أن «كانت» يختلف عن «ديكارت»، فديكارت يقول أن هناك منبعين «إحساس وفطرة» و«كانت» يرى أن الجانب الصوري للإدراكات والعلوم الإنسانية كلّه فطري - أي أنه كله من داخل النفس -، ثم يقول: ”بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان والمقولات الاثني عشر، فالحس على أساس هذه النظرية مصدر فهم للتصورات والأفكار البسيطة؛ لكنه ليس السبب الوحيد بل هناك الفطرة التي تبعث في الذهن طائفة من التصورات“.

ثم يأتي السيد الصدر يبرر، لماذا هؤلاء ذهبوا إلى أن قسما كبيرا من المعاني والأفكار مصدرها النفس؟ النفس تأخذها من ذاتها؟ ليس لها مصدر من الخارج؟ لماذا ذهبوا إلى هذه الفكرة؟ فقال: ”والذي اضطرّ العقليين إلى اتخاذ هذه النظرية في تعليل التصورات البشرية هو أنهم لم يجدوا لطائفة من المعاني والتصورات مبرّرا لانبثاقها عن الحس“، هم وجدوا مجموعة من الأفكار لا يمكن أن تنبثق من الحس، «الله»، «النفس»، «الحركة»، فهذه لم يجدوا لها مصدرا من الحس لأجل ذلك قالوا أنها ”معاني غير محسوسة ولذا يجب أن تكون مستنبطة للنفس استنباطا ذاتيا“، ويتضح من هذا أن الدافع الفلسفي إلى وضع النظرية العقلية هو دافع اضطراري، لذلك السيد الصدر يقول: ”لو أمكن لنا أن نصوغ نظرية متماسكة بحيث من خلالها نستطيع أن نثبت أن هناك مصدرا لهذه المعاني من دون أن يرجع إلى النفس لاستغنينا عن هذه النظرية العقلية“.

هذا ما ذكره السيد الصدر «قدس»، نحن الآن نرجع إلى كتابي «ديكارت» و«كانت»، السيد لم يذكر هاهنا المصدر، نعم ذكره في بحث آخر وهو بحث «التصديق»، أما الآن نرجع إلى ما ذكره «ديكارت» و«كانت» لنبحث نقطتين:

النقطة الأولى: هل أن ما شرحه السيد عن النظرية مطابق لهما؟

النقطة الثانية: ما هو الفرق الجوهري بين نظرية «كانت» ونظرية «ديكارت» في مجال نشأة التصورات؟

شرح نظرية ديكارت.

إذا نراجع كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» لراسل الجزء الثالث ص115، أيضا نرجع لمقال «المذهب العقلي والمذهب التجريبي وجها لوجه» موسوعة «ستانفورد الفلسفية» وقامت بترجمة هذا المقال «مجلة حكمة»، أيضا كتاب ديكارت نفسه «التأملات في الفلسفة الأولى» ترجمة عثمان أمين وتعليقه أيضا، نرجع لها لنحدد نظرية «ديكارت».

نجد أن هذه النظرية تضمنت أمورا:

الأمر الأول: قال ديكارت: ”الصور أفكار وإرادات وأهواء وأحكام“، فالأفكار مجرد صور ترتسم في الذهن، إرادات أتصور مثلا السفر إلى مكة فأريده، أما الأهواء كما أتصور طعاما لذيذا لا وجود له أرغب فيه، أما الأحكام كما أتصور مفهوما معينا وأحكم عليه بالنفي أو الإثبات «النفس موجودة، النفس مادية، النفس مجردة»، فهذا مفهوم أحكم عليه بالنفي أو الإثبات، يقول المهم عندنا هو القسم الرابع وهو «الأحكام» هذا هو المهم.

”ولكن من الحذر أن تُذعن أن الحكم مطابق للواقع“ يعني أن تحذر أن تصل إلى نقطة أن الحكم مطابق للواقع؛ لماذا؟ ديكارت يقول: الأفكار على ثلاثة أنواع، النوع الأول: الأفكار الفطرية، النوع الثاني: الأفكار الأجنبية - أي الوافدة من خارج الإنسان - النوع الثالث: الأفكار المبتكرة، وهذا لا يتنافى مع تقسيم السيد الصدر، فالسيد الصدر قال: «منبعان: إحساس، وفطرة»، ديكارت قال: «أفكار فطرية، أفكار أجنبية وافدة، أفكار مبتكرة»، فمن من حيث تقسيم الأفكار فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، إنما منبع هذه الأفكار الثلاثة منبعان فقط وهما «الحس والفطرة»، فلا منافاة بين التقسيم والمنبع، فهذا ناظر إلى جهة وهذا ناظر إلى جهة أخرى.

القسم الأول: الأفكار الفطرية.

«ديكارت» في كتابه «التأملات» قال: ”لدينا أفكار هي من جبلتنا، والتجربة أيقظتها، ونقلتها إلى حلبة الشعور“ فهي كامنة في أنفسنا، إنما التجربة أثارتها وجعلتنا نشعر بها شعورا مباشرا، وإلا هي موجودة كامنة في ذواتنا وفي صميم ذواتنا، من هذه الأفكار «الإله، الامتداد، الجوهر»، نحن نتعرض إلى فكرة «الإله»، هذه الفكرة عند ديكارت لها عدّة عناصر:

العنصر الأول: أن الفكرة ليست عدمية - مثل السكون أو الظلام - بل هي فكرة وجودية مشعة.

العنصر الثاني: لا يمكن الوصول إلى فكرة الإله بالتجربة، فإن التجربة تجعلنا نتصور الكامل المحدود، يعني حتى لو تصورنا شيئا كاملا، بالعلم، بالقوة، بالحسن، بجميع الصفات، تصورنا شيئا كاملا مع ذلك سوف يكون محدودا؛ لأن نطاق العقل محدود والكائن اللانهائي - المعبر عنه بالإله - لا محدود، فلا يمكن أن نصل إليه عبر التجربة لأنها غاية ما توصلنا إلى تصور محدود.

العنصر الثالث: يقول: ”فكرتي عن الإله سبقت فكرتي عن نفسي في بعض الوجوه“، فهو يقول عندما أتصور نفسي - وهي أقرب شيء إلي - أتطلع إلى شيء - وهو الكمال فأنا أتصور الضعف والنقص والحاجة فحينئذ أنزع وأرغب في أن أحصل على كمال، نفس هذا التصور دليل على أن هناك كمالا لا محدود لولا أن في داخلي فكرة سبقت فكرتي عن نفسي - فكرة أن هناك كمال لا محدود - لما كنت إذا تصورت نفسي أنني أرغب وأحتاج وأتطلع إلى كمال أستمده من مصدر آخر.

القسم الثاني: الأفكار المستوردة.

وهذا هو المهم الذي نريد أن نفهمه، يقول: " عندما تتفاعل حواسنا الخمس بالخارج رأينا نارا تفاعلنا معها، وجاءتنا صورة الحرارة إلى أذهاننا وجاءتنا صورة الضوء إلى أذهاننا، صورة عن الضوء، صورة عن الحرارة نتيجة رؤيتنا عن النار، هذه الصورة الموجودة مطابقة للواقع؟ هل نصدق أن الصورة المرتسمة في أذهاننا عن الضوء والحرارة متطابقة مع الواقع؟ مع هذه النار التي أمامنا أم لا؟ يقول عندما نفكر نبحث عن سببين، إما خارجي أو داخلي، فإما أن هناك سببا خارجيا رسم الصورة في أذهاننا - شئنا أم أبينا - فارتسمت عندنا صورة للضوء وصورة للحرارة، أم أنه سبب داخلي من داخل النفس؟ من داخل أنفسنا صيغت هذه الصورة ألا وهي صورة الضوء والحرارة؟ يقول نحن عادة نميل إلى الأول، يقول هناك سبب، لأننا رأينا النار جاءت الصورة وإلا لم تكن موجودة، فهناك سبب خارجي رسم الصورة في أذهاننا فهي صورة مطابقة للواقع رسمها السبب الخارجي، وذلك لأسباب:

أولا: لأنه لولا التفاعل مع الخارج لما ارتسمت الصورة، فلولا الرؤية لما ارتسمت الصورة.

ثانيا: أن الصورة عبرت إلى أذهاننا خارجا عن إرادتنا واختيارنا، فهي عبرت إلى الذهن واستقرت فيه.

هذا كله يكشف على أن السبب خارجي، لولا أن السبب الذي رسم الصورة خارجي لما توقف ارتسامها على التفاعل مع الخارج، ولما عبرت الصورة إلى أذهاننا بدون إرادة وبدون اختيار.

بعد هذا يقول: ”ليس معلوما، وهذا لا يقنعنا أن الذي رسم الصورة وصنعها هو سبب خارجي وهو تفاعل الإحساس مع هذا المرئي ألا وهو النار،“ وذلك لأن الوجه الأول أننا لما رأينا النار حصل عندنا هذا التفاعل، فنقول هذا غاية ما يسببه الميل، فنحن يصبح عندنا ميل إلى أن السبب ليس منّا بل من الخارج، لكن ما أكثر الميول المخطئة، فالنفس إذا أرادت أن تميز بين الخير والشر تميل إلى الشر مع أن هذا ميل خاطئ - وهو يذكر هذا المثال - وليس موضوعيا، فليس كل ميل للنفس ميلا صادقا صحيحا، فميل النفس إلى أن هذه الصورة نشأت عن طريق سبب خارجي لا يعني أنه ميل صحيح، وأما أن الصورة جاءت بدون إرادتنا فإن هذا لا يعني أن السبب خارجي، ويمثل بالأحلام فيقول: «هل الأحلام بإرادتنا؟»، فنحن نرى الأحلام في المنام بدون إرادتنا ومع ذلك سبب الأحلام ليس سببا خارجيا وإنما سبب داخلي، فليس كل ما يعبر إلى الذهن من دون إرادة منا يُعتبر سببه خارجي، فالأحلام تأتي إلى أذهاننا مع أن سببها داخلي.

لذلك يقول: ”هناك أسلوبان في الحكم“ الأسلوب الأول: أسلوب الفطرة، وهذا الأسلوب لا يخطئ، حيث استدللنا على وجودنا بشكنا في أنفسنا «أنا أفكر إذن أنا موجود»، نعم هذا أسلوب فطري، «رأيت نفسي أشك في نفسي فعلمت أنني موجود» يعني الشك قادني بالإيمان بوجود نفسي، أنا أفكر، أنا أشك، أنا أتوهم إذن أنا موجود، وهذا الأسلوب أسلوب فطري لا يخطئ ولا يتردد، أما الأسلوب الثاني: الأسلوب الحسي، فأنني لما رأيت النار ارتسمت الصورة في ذهني فصار عندي ميل إلى أن السبب خارجي فإن هذا لا يعني أن السبب فعلا خارجي، بل لعل السبب داخلي، فلعل النفس هي التي صنعت الصورة، وليس لهذه الصورة مطابق في الخارج يتلاءم ويتوافق معها، ولأجل ذلك يصل ديكارت إلى أن المنبع الصادق المضمون هو المنبع الفطري «ما تستنبطه النفس من صميم ذاتها» أما المنبع الثاني فهو منبع موهوم متخيل لا نستطيع أن نجزم بأن الحس منبع آخر وإنما التفاعل مع الخارج أثار شيئا، أما الذي أثاره هذا التفاعل هو فعلا صورة متطابقة مع الخارج أم لا فإننا لا نستطيع أن نحكم به ونؤمن به.

اتضح من هذا أن ديكارت لا يقول أن هناك منبعين، منبع الحس ومنبع الفطرة، وإنما يقول ديكارت أن المنبع المضمون هو المنبع الفطري، أما وجود منبع للصور خارجي يحصل الإنسان على التأثر به نتيجة التفاعل الإحساسي فإنه أمر غير مضمون، نعم التفاعل له مدخلية في الإثارة ولولا التفاعل لما أثيرت الصورة، أما ما هو المنبع للصورة لم يحدده ديكارت.

القسم الثالث: المبتكرات.

وهذا ليس له أهمية في بحثنا، وهو ما يخلقه الذهن ولا أساس له، الذهن يخلق «جنة» فوق سطح القمر مثلا، إنسان مكون من خمسين رأسا وهو ليس له وجود.

فلذلك نقول أن ما شرحه السيد الصدر «طاب ثراه» من أن ديكارت يرى منبعين، فإذا كان مقصود السيد الصدر أن ديكارت يرى منبعين في عرض واحد فإن هذا لا يتطابق مع كلام ديكارت، أما إذا كان مقصود السيد الصدر أن الحس له مدخلية ولو على نحو الإثارة والإيقاظ ولو لم يثبت أنه منبع للصورة فإن هذا يتلاءم مع كلام ديكارت الذي تعرضنا له.

شرح نظرية كانت.

«كانت» عنده كتاب اسمه «نقد العقل المحض» ترجمة «موسى وهبة»، وأيضا هناك كتاب «التعددية الدينية» ل «جون هيك» ص183 تعرض لنظرية «كانت»، وأيضا هناك كتاب «موسوعة الفلسفة» للدكتور عبد الرحمن بدوي ج2 ص270 - 290 أيضا شرح «نظرية كانت».

«كانت» نظريته تتلخص في فصول:

الفصل الأول: «كانت» أول من أثار مشكلة المعرفة كموضوع للبحث، بغض النظر عن النتائج، فهل المعرفة في حد ذاتها ذات قيمة أم لا؟! فإن «كانت» قد انطلق في مشروعه المعرفي من «هيوم» الفيلسوف «الإسكوتلندي»، «هيوم» أيضا في القرن الثامن عشر، وكلامه هو الذي أثار المشروع المعرفي ل «كانت»، «هيوم» قال: ”من معارفنا السببية، والجوهر، وهذه نعتبرها مصدرا أولا للمعرفة «التجربة الحسية»“.

من أسس الفلسفة الدينية هي السببية، ومع ذلك يقول «هيوم»: لا السببية ولا الجوهر، هاتان فكرتان صادقتان وإنما هما وهم، فالسببية والجوهر وهم، مع أن هاتين الفكرتين هما مصدر المعرفة في مجال التجربة لكن مع ذلك هما وهم وليس لهما واقع، وذلك لأن المفروض أن التجربة غاية ما تُثبت وجود «أ» وأن وجود «أ» يتبع «ب»، فعندنا سبب ومسبب بحسب تصويرنا، فإذا بلغت درجة حرارة الماء «100» فإنه يغلي، نحن نتصور أن درجة الحرارة سبب والغليان مسبب، أما «هيوم» يقول أن الذي قامت عليه التجربة أنه إذا وُجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية، فغاية ما تُثبته التجربة أن هناك ظاهرتين فقط، وأما فكرة السببية التي تعني الضرورة والشمول أي كلما - على نحو الضرورة - كلما بلغت درجت حرارة الماء «100» فإنه يغلي، توجد بين الفكرتين ضرورة، ضرورة الثانية عند حصول الأولى، وأن هذه الضرورة شاملة أي لا تختلف باختلاف الأزمة ولا اختلاف الأمكنة، فكلمة «السببية» تعني الضرورة والشمول والاستمرار، فهذا لا يمكن إثباته بالتجربة، يمكن أن نثبت بالتجربة أن هذه الظاهرة مع هذه الظاهرة، أما أن الثانية مُسببةٌ عن الأولى وعلى نحو الشمول والاستمرار فهذا مما لا تُثبته التجربة وإنما هو يدخل في قانون تداعي المعاني؛ لأنه تكررت الظاهرتان، فصار كلما تصورنا الظاهرة الأولى تصورنا الظاهرة الثانية من باب قانون تداعي المعاني الذي مر شرحه.

كذلك بالنسبة إلى فكرة الجوهر، نحن الآن نأتي إلى الشجرة ونقول لها لون ولها رائحة، لها ثمر، لها نمو، لها ساق، لكن أيضا لها جوهر وراء كل هذه الصفات، فوراء كل هذه الصفات جوهر، ذلك الجوهر هو مصدر النمو والرائحة، وهو مصدر العطاء، فهناك جوهر وراء الصفات، يقول هذا وهم، فالتجربة لا تُثبت إلا هذه الصفات ولا تُثبت لنا وجود جوهر وراء هذه الصفات، وهذا كلام «هيوم».

الفصل الثاني: جاء «كانت» قال: إذا انهارت هاتان الفكرتان - السببية والجوهر - انهار المصدر الأساس للعلم والمعرفة، فإذا تبين أن السببية والجوهر وهم فلا يكون عندنا أي علم، ولا تستطيع أن تمتلك أي علم، فينهار أساس العلوم والمعرفة، فلا يكون عندنا معارف، فما الذي نصنعه؟

قال «كانت»: مصدر المعرفة هو الفكر، والإحساس يوفّر المادة الخام، فعندنا مادة وعندنا صورة، كيف أنا الخباز أحتاج إلى عجين، فآتي بالطحين - مادة خام - أقوم بعجنه وأضعه في التنور ويخرج خبزا فتخرج الصورة، فالمادة صنعها غيري، وأنا صنعت الصورة، فالإحساس يُوفر المادة فقط، أما الذي يقوم بالبلورة وصناعة الصورة هو الفكر وليس الإحساس.

إذن بين الإحساس والفكر - الذي يعبر عنه السيد الصدر بالفطرة - طولية وليسا في عرض واحد، فالإحساس يعطيك مادة، ثم يأتي دور الفكر الذي يحول المادة إلى صورة يبلورها.

الفصل الثالث: قال: ”موضوعات الإحساس لا يمكن أن تُدرك بدون زمان ومكان، فالموضوعات الخارجية تصل إلى الذهن عبْر الزمكان، والموضوعات الداخلية - كالوجدانات - تصل إلينا عبر الزمان بلا حاجة إلى المكان، وهذا يعني أن الزمكان الصورة العامة للمحسوسات والوجدانيات“

بيان كلامه: هل يمكن أن تتصور شيئا من دون مكان؟ أنت الآن تريد أن تتصور هذه الطاولة، فهل يمكن أن تتصورها من دون مكان؟ لا تستطيع، تتصور هذه القارورة بدون مكان؟ لا تستطيع، إذن جميع المحسوسات لا يمكن للذهن أن يتصورها إلا في إطار مكان وجهة معينة وظرف معين يتصور معه الشيء.

إذن هذا معناه أن المكان شرط أساسي في الإدراك، فلا تستطيع أن تدرك شيء من الأشياء المحسوسة إلا إذا أدركتها ضمن المكان، وكذلك لابد أن يكون ضمن الزمان، متى أدركت، الآن؟ أم قبل الآن؟ في أي زمن أدركت؟ فكما تُدرك الصور عِبر المكان، تدرك الصور عبر الزمان، فمستحيل أن تدرك شيئا من دون زمان، حتى الوجدانات الداخلية وإن كانت تتحرر من المكان لكنها لا تتحرر من الزمان، أنا أدرك الآن أنني أحب أمي وأبي فإن أدراكي لهذا الحب ليس في إطار مكان، لكن في إطار زمان، قبل الآن أم في سن كذا المهم أنه في إطار زمان، إذن المدركات - محسوسة أو وجدانية - عِبْر الزمكان أو عبر الزمان فإنه أمر لابد منه.

الزمكان، أهو داخلي أم خارجي؟ هل المكان نفسه موجود في الخارج، هناك مكان وفيه طاولة؟ أم الموجود في الخارج الطاولة فقط أما المكان جاء من الذهن؟ الزمان نفسه، فهل هناك في الخارج شيء اسمه زمان والأشياء ضمنه؟ أم أن الزمان جاء من الذهن - الفطرة بتعبير السيد الصدر -؟ يقول «كانت»: لا الزمن ولا المكان من الخارج بل كلّه من الذهن، فالزمان والمكان من الذهن ولم يأتيا من الخارج.

الفصل الرابع: ”الزمكان شرط للإدراك لكنه مقولة ذاتية، أما المكان فلأن المعرفة الهندسية ضرورية لا تحتاج لمعطى خارجي“ فالمكان من علم الهندسة وهو لا يحتاج إلى وجود في الخارج، علم الرياضيات عموما لا يحتاج إلى أمثله خارجية فهو شيء صنعته النفس، وهو مبرمج في صميم النفس تؤمن به النفس وإن لم يكن له وجود في الخارج.

ثم يقول: حتى نثبت أن المكان فعلا ليس مستوردا من الخارج لا يمكنك أن تتصور شيئا بدون مكان، لكن يمكن أن تتصور مكاناً بدون شيء، مما يدل على أن المكان سبق التصورات، لا أنه صورة مستوردة من الخارج، فهو شرط لإدراك الخارج لكنه ليس مأخوذاً وليس مستوردا من الخارج، فالمكان شرط للإدراك، والشرط سابق على المشروط، فكل المدركات تحتاج إلى المكان لكن المكان ليس مما استرفده الذهن من الخارج.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الزمان، فكل شيء يحتاج إلى الزمان لكن في الزمن نفسه، فيمكن أن تتصوره من دون أن يكون معه شيء، فالزمن لا يحتاج تصوره إلى شيء آخر، بخلاف الأشياء الأخرى التي يحتاج تصورها إلى الزمان، ولذلك يقول: ”نحن بالبداهة وبالفطرة نعتقد أنه لا يمكن أن تكون اللحظتان متأنيتين“ لحظة يعني أقل من 1/1000000000 ثانية، لا يمكن أن تكون اللحظتان متأنيتين، اللحظتان يعني دفعة واحدة، وهذا شيء نأخذه بالفطرة وبلا حاجة أن نأخذه من الخارج، وهذا مما يكشف لنا أن الزمن شيء كامن في أنفسنا، فمنذ أن جُبلت النفس جُبلت على مكان وزمان، فهي تُدرك الأشياء عِبْر الزمان والمكان، لكن الزمن والمكان لم تأخذهما النفس من الخارج.

"وكما أن الزمن والمكان ليسا مستوردين من الخارج وإنهما مقولة قبلية سابقة على الحس الخارجي والداخلي، فلأجل ذلك يكون الزمن والمكان ضروريين لكل إدراك، وشاملين لكل إدراك، فأسبقية المكان على الأشياء ليست أسبقية مكانية - وإلا احتاج المكان إلى مكان - وأسبقية الزمان على الأشياء ليست أسبقية زمانية - وإلا لاحتاج الزمن إلى زمان - بل أسبقية المكان على الأشياء أسبقية منطقية، وأسبقية الزمان على الأشياء أسبقية منطقية.

هل هذه الأشياء في الخارج ضمن زمن ومكان؟ لا، هي في الخارج في واقعها ليست في مكان، نحن لا نستطيع أن نتصورها إلا ضمن مكان، هذا الحدث - مرور سيارة - لا يمكن أن نتصوره إلا بزمن، لكن مرور السيارة في واقعه ليس داخلا ضمن زمن، نحن لا نستطيع أن نتصوره إلا ضمن الزمن، فالزمن والمكان صورة للإدراك وليست صورة للواقع الخارجي، فالواقع الخارجي في نفسه بمعزل عن الزمان والمكان، وإنما يتمظهر لنا عبر الزمان والمكان.

الفصل الخامس: كما أن الزمكان مقولة ذاتية قبلية كذلك هناك قوالب اثنا عشر هي قوالب ذاتية، مثلا: الكثرة والوحدة، فلا تستطيع أن تُدرك الأشياء إلا عبر كثرة أو عبر وحدة، لكن هذه الكثرة والوحدة قوالب ذهنية مثل الزمن والمكان، مثلا: الوجود، السلب، الحد، موجود، لا محدود، هذه قوالب لا يمكن أن تدرك الأشياء إلا عبرها، لكن هذا لا يعني أن هذه القوالب موجودة في عالم الواقع الخارجي.

مثلا: الجوهر، العرض، العلة، المعلول، التفاعل، الاحتمال، الاستحالة، الضرورة، الحدوث، فهذه كلها قوالب «اثنا عشر قالب» اعتبرها أطراً للفكر، أما الأشياء في الواقع الخارجي فليست ضمن هذه القوالب.

النتيجة: قال: ”لا يمكن لنا أن نتعرف على واقع الأشياء الخارجية في حد ذاتها، فلا نستطيع أن نتعرف عليها إلا عبر هذه القوالب التي صنعتها النفس والتي منها الزمن والمكان ومنها القوالب الاثنا عشر“.

إذن لا يمكننا أن نصل إلى الأشياء على واقعها، وهذا يعني أن جميع الأفكار مصدرها النفس، فالمنبع الوحيد هو النفس، أما الإحساس يُوفر مادة فقط، وأما الصورة التي هي قوام المعرفة فمصدرها النفس، فما يمكن معرفته صحيح ليس بوهم لكنه ظاهر وليس هو الواقع.

تم الكلام، فعرفنا من خلاله نقطتين:

النقطة الأولى: أن الحس والفكر ليسا منبعين في عرض واحد.

النقطة الثانية: أن ما يذكره «كانت» يختلف جوهريا عما يذكره «ديكارت»، فـ «كانت» يعترف أن الحس منبع لكنه منبع للمادة، أما الصورة فكل الصور منبعها الذهن، بينما «ديكارت» قسم الأفكار إلى أفكار «فطرية، ووافدة، ومبتكرة»، وقال أن الأفكار لا نستطيع أن نحكم عليها، حيث قال: ”الأشياء في واقعها لا نصل إليها وإنما نصل إليها عبر قوالب ذهنية، فلا نستطيع أن نصل إلى الأشياء“ فهو يُسلّم أن الحس يثير وأما الصور التي وصلت إلينا فهل أن السبب داخلي أم خارجي فإن هذا السبب لا نستطيع أن نحدده.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب فلسفتنا ص 55 «طبعة دار الفكر - الطبعة الخامسة» بعنوان «المصدر الأساسي للمعرفة».
[2]  كتاب فلسفتنا» ص 56.
[3]  كتاب فلسفتنا ص59 تحت عنوان «النظرية العقلية».