الدرس 14 | نقد نظريات الفلسفة الشرقية - الصدرائية - حول حقيقة الروح وطريقة التفكير

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

المحاضرة بعنوان نقد نظرية الفلسفة الشرقية والصدرائية حول حقيقة الروح وطريقة التفكير، وهنا محاور ثلاثة [1] :

المحور الأول: في تجرد النفس.

وفي هذا المحور نقاط:

النقطة الأولى: منهجية البحث.

كانت البحوث الماضية تتركز في الفرق بين المجرد والمادي، وأن النفس البشرية من سنخ المجرد أم من سنخ المادي؟ وما هي خصائص الوجود المادي التي تتوفر في المادة ولا تتوفر في النفس ولأجلها اعتبرت النفس وجوداً مجرداً؟

ولكن منهج البحث المقترح هو هل أن النفس جسمانية أم لا؟ بغض النظر عن كونها مادية أم غير مادية، بمعنى أن محور البحث ينبغي أن يكون هل أن النفس هي الجسم أم غيره؟ وإذا كانت النفس غير الجسم فهل هي مستقلة في أفعالها عن هذا الجسم أم لا؟ أما ما هي خصائص المادي التي تنبع من كونه مادياً بحيث تميزه عن المجرد فهذه كما سيتبين من خلال البحث تكون مورداً لإشكالات كثيرة، فهل هذه من خصائص المادة أم لا؟ وما الدليل على أنها من خصائص المادة؟ إلى غير ذلك من الإشكالات التي مرت على الأدلة على أن النفس غير مادية ومجردة، فنحن لا نبحث عن الفرق بين المادي والمجرد والنفس مادية أو مجردة، بل نحن نبحث عن نقطة واحدة وهي أن هناك جسم والنفس محركةٌ لهذا الجسم، فهل أن النفس شيءٌ غير هذا الجسم؟ وإذا كانت غيره فهل هي مستقلةٌ عنه في التصرف أم لا؟ أما أن النفس في حقيقتها هي أمرٌ مادي أم أمرٌ مجرد فلعل النفس أمرٌ مادي ولكن بنوعٍ من المادة ومرتبة من المادة غير المادة التي بُني عليها الجسم، فمن أين لنا الدليل على أن المادة انحصرت في عالم الأجسام التي نراها ونلمسها ونتعامل معها؟ من أين لنا الدليل على أن المادة انحصرت بهذا العالم الذي نحن نتعامل به كي نقول إذا لم تكن النفس متوفرةً على صفات عالم المادة الذي نعيش فيه فهي إذن غير مادية؟ فلعلَّ - كما يذهب إليه جملة من العلماء - النفس جسمٌ شفافٌ كشفافية أجسام الجن والملائكة وأنها أمور مادية لكنها شفافة لا تُرى ولا تُلمس ولا يمكن أن تنالها الحواس الخمس، فبالنتيجة البحث هنا عقيم، فالبحث في «ما هي خصائص المادة وخصائص المجرد من المادة؟ وأن النفس ماديةٌ أم أن النفس مجردةٌ؟» فإن هذا المنهج عقيمٌ، والمنهج الذي يمكن أن ندخله ونخرج فيه بالنتيجة هو أن لدينا جسماً، فهل النفس هي من هذا الجسم أم من خارجه؟ وإذا لم تكن من هذا الجسم فهل هي مستقلةٌ عنه أم لا؟

النقطة الثانية: في دليل أن النفس غير الجسد. «كل نفسٍ هي غير الجسد»

مرت الاشارة إلى دليلين:

الدليل الأول: أن النفس هي المحرك لهذا الجسد بجميع قواه، وجميع طاقاته، فإذا كانت هي المحرك فلا يُعقل أن تكون هي المتحرك، وأهم قوتين في هذا الجسد هما الدماغ والقلب، وبواسطة الطاقة التي تبثُّها النفس يحصل التفاعل بين القلب والدماغ، فالدماغ يستقبل الدّمَ من القلب والقلب يستقبل الإشارة من الدماغ، فبين هاتين القوتين الرئيستين تفاعل محض، وهذا التفاعل فرع وجود طاقة، وهذه الطاقة فرع وجود مصدر، فهناك مصدرٌ محركٌ للجسد وهو مصدر الطاقة التي تُحدث التفاعل بين القلب والدماغ، فبما أن النفس هي المحرك إذن فهي غير الجسد الذي دوره استقبال الطاقة والحركة من خلالها.

الدليل الثاني: أن كل الجسد يتغير. حتى خلايا الدماغ في السبع السنوات الأولى، ففي السبع السنوات الاولى من مسيرة الإنسان حتى خلايا الدماغ تتغير، ومع أنَّ كل خلايا الجسم تتغير ومنها خلايا الدماغ فإنه مع ذلك يبقى يرى بوجدانه أن كلمة «أنا» هي ذات كلمة «أنا»، أي أن المحكي بكلمة «أنا» منذ أن كان يحبو على ركبتيه هو المحكي بكلمة «أنا» حتى بعد أن استقرت بنية جسمه، وأن معلوماته - خصوصا بعض الصور كصورة أمه وهو رضيع - هي نفس الصورة التي يتذكرها بعد أن صار شاباً، والمتغير غير المتغير، فبما أن البدن كلّه يتغير والمحكي بكلمة «أنا» لم يتغير فإن هذا شاهد على أن النفس غير الجسد.

النقطة الثالثة: استقلالية النفس بأفعالها.

مُحصّل هذا المطلب نقول «هل أن للنفس فعلا غير فعل الجسد؟ أو لا علاقة له بالجسد؟» لأننا إذا قلنا بأن فعل النفس متقوم بالجسد وبدون الجسد لا تستطيع النفس أن تعمل أي عملٍ، فلو قلنا بأن أفعال النفس متقوّمة بالجسد، أي بدون الجسد لا يمكن أن تفعل النفس أي فعل، فإن هذا دليل على أن النفس إما هي الجسد أو أنها لا تنفك عنه بحيث تبطل ببطلانه وتفسد بفساده، وأما إذا أثبتنا أن للنفس فعلا لا يمر بالجسد أي فعلا لا علاقة له بالجسد فإنه سوف يَثْبُت أن للنفس استقلالية عن الجسد، فلا هي الجسد ولا جسدية، فلا هي الجسم ولا جسمانية، وهذا نثبته من خلال وجهين:

الوجه الأول: إدراك الكلي.

لابد لنا من أن نفرق بين الإدراك الحسي والإدراك الكلي، وهذا بهذا البيان:

الإدراك الحسيّ: وهو متقوم بعدة شرائط.

الشرط الأول: طبيعة الحاسة، مثلا البصر له طبيعة خاصة، فلا يمكن أن يُدرك البصر غير الصور، فمن المستحيل أن يُدرك الأصوات أو الكيفيات، فله إدراك ينسجم مع طبيعته.

الشرط الثاني: أن يكون له مثير خاص، فكما أن طبيعة البصر لا تُدرك غير الصور كذلك لولا الضوء لما أدرك البصر شيئا، فلا يُفيد في إدراك البصر ذبذبات الصوت، ولا يُفيد في إدراك البصر الملامسة الحسيّة، بل لابد من انعكاس الضوء على المرئي.

الشرط الثالث: الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، فلو كان الضوء أقوى من طاقة البصر لم تستطع أن تُبصر، ولو كان خافتاً جداً بحيث الظلام هو الطاغي فإنك لا تستطيع أن تُبصر، فلابد من توازن في درجة الضوء حتى يمكن من خلال التوازن في درجة الضوء أن تُبصر ما يقع عليه البصر وما تقع عليه العين الباصرة.

الشرط الرابع: الخلاء، فإذا كان البصر مشغولاً بصورة فإنه لا يستطيع أن يُدرك صورة أخرى، فأنا عندما أُوجّه بصري إلى الكتاب فإني أثناء توجه بصري إلى الكتاب فإن بصري لا يلتقط صورة أخرى فهو يتصور بصورة الكتاب.

هذه شروط أربعة، ولا يمكن للعين الباصرة ولسائر الحواس أن تلتقط الصورة الحسيّة إلا ضمن شروط أربعة تم بيناها، ولأجل ذلك نختلف مع النظرية الصدرائية في أن الصور الحسيّة صور مجردة، فالصور الحسيّة صورة جسمانية؛ لأنها متقومة بشرائط جسمانية ماديّة، فحقيقة الصورة التي تنعكس على قرنية العين جسمانية، فهي لا تقبل الانقسام بذاتها لكنها تقبل الانقسام بلحاظ محلها، مثل القيام فهو لا يقبل الانقسام بلحاظ ذاته إلا أنه يقبل الانقسام بلحاظ الجسم الذي قام، كذلك الصورة المنعكسة على القرنية فهي صورة جسمانية وإن لم تكن جسما لتقوم حقيقتها بهذه الشروط الأربعة التي ذُكرت.

الإدراك الكلي:

المتخيلة تلتقط الصورة الحسيّة ولا تختلف عن الصور الحسيّة سوى في الإشارة إلى الخارج وعدم الإشارة، فالحس متصل بالخارج، وبمجرد أن ينقطع اتصال الحس بالخارج - أي تصورت الكتاب والآن أتذكر الصورة - انتهى دور الحس وجاء دور المتخيلة، فالمتخيلة التقطت الصورة نفسها تماما، والفرق بينهما وبين الحس أنها غير متصلة بالخارج لا أكثر، فأودعت المتخيلة الصورة في قوة الحافظة، فجاء الآن دور إدراك الكلّي.

إدراك الكلي يعني لا حاجة إلى شرائط مادية جسمانية، فإن نفس الصورة الموجودة في المتخيلة هي تمتلك خصائص خاصة وخصائص مشتركة، فانعكست في ذهني صورة «فارس»، صورة «فارس» فيها خصائص خاصة - ابن فلان وفي الزمن الفلاني والمكان الفلاني - وفيها خصائص مشتركة - الوجه، الجسم - والعقل يذهب إلى الخصائص المشتركة لا الخاصة، فدور العقل أن يتعلق مباشرة بالخصائص المشتركة معزولا عن الخصائص الخاصة، وهذا ما يُسمى ب «إدراك الكلي»، فليس إدراك الكلي إلا وقوع العقل وهجومه على النقطة المشتركة معزولا عن النقطة الخاصة، وهذا يُعبر عنه في كلماته بالتجريد والتقشير، فإن التجريد والتقشير يعني أن الصورة التي تنعكس في المتخيلة العقل يحللها إلى نقطة مشتركة وإلى نقطة خاصة، والعقل لا يُدرك النقطة الخاصة فهذه النقطة لا تُدركها إلا القوة المتخيلة والعقل يُدرك النقطة المشتركة منها.

النتيجة: إدراك الكلي حيث لا يتوقف على شرائط مادية وبكل حرية يستقبل أيَّ صورة - من الحواس الداخلية أو الخارجية - مما يكشف عن إدراك الكلي فعل تستقل به النفس ولا تحتاج فيه إلى البدن، فإذا أردنا أن نُبرهن هل أن للنفس فعلا تستقل به ولا تعتمد فيه على الجسم قلنا هو إدراك الكلي، فإذا كان للنفس فعل تختص به وتصرف لا تحتاج فيه إلى البدن وشرائطه المادية يتبين بذلك استقلالية النفس عن الجسد، سواء سُمي تجرداً أو أي اسمٍ فإننا نُريد أن نقول أن النفس ليست هي الجسم ولا جسمانية في الجسم وأن لها استقلال في تصرفها حتى لو كانت في واقعها مادية بنوع من المادة ومرتبة من المادة، فنحن لا نريد إثبات أكثر من ذلك.

الوجه الثاني: إدراك الانتزاعيات.

وهذا ذكرناه في درس سابق والتي عبّر عنها العلامة الطباطبائي بالتوسع الاضطراري العقلي، فالأمور الانتزاعية ليس لها وجود في الخارج ومع ذلك تُدركها النفس، فإدراك النفس للأمور الانتزاعية مع أنه ليس لها ما بإزاء في عالم المادة كأن تُدرك النفس العدم باطل، فلا العدم ولا البطلان له ما بإزاء في عالم المادة، وكأن تُدرك النفس «النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان» فالنقيضان يستحيل تحققهما في الخارج، إذن إدراك النفس للأمور التي ليس لها ما بإزاء في الخارج يكشف على أن النفس طاقة - أفضل من أن نعبر مجرد - مستقلة في تصرفها عن الجسم الذي ترتبط به، فهي ليست هي الجسم ولا جسمانية فيه.

النقطة الرابعة: في الفرق بين الإدراك والحاسوب الآلي.

هناك كثير من الباحثين الذي يرفض أن تكون النفس غير جسمانية ويقول أن النفس هي الدماغ لا شيئا آخر، فالدماغ هو الذي يُطلق الإشارات للجسد بالحركة فالنفس هي الدماغ لا شيئا آخر، وبالتالي استدلالكم على أن النفس تُدرك الكليّات فإن الحاسوب الآلي يُدرك الكليات بدليل أن الحاسوب الآلي لو أعطيت له معاني مختلفة يُميز فيما بينها، فيميز بين مفهوم الإنسان والشجر والحجر وهذا يعني أنه عنده كليّات على إثرها يقوم بالتمييز بين هذه المفاهيم، كما أن الحاسوب الآلي يقوم بحل المعادلات الرياضية وهي أمور غير مادية مما يكشف عن أن الحاسوب الآلي قادر على إدراك ما تُدركه النفس، فإذا كان هذا الإدراك يعني أن النفس غير جسمانية فكيف أدركه الحاسوب الآلي وهو أمر مادي جسماني؟!

الجواب: ببيان الفرق بين الإدراك وعمل الحاسوب الآلي بنحوين:

النحو الأول: ما هي حقيقة الإدراك؟

هناك فرق بين الإدراك والانطباع، فانطباع الصورة في الماء أو انطباع الصورة على المرآة هل يُقال عنه إدراك فيقال أن الماء أدرك أو المرآة أدركت؟! فانطباع الصورة في الماء أو على المرآة هو كانطباع الصورة على قرنية العين، فهذا نُسميه بإدراك وإلا هو ليس الإدراك بل هو انطباع وارتسام كالظل، كما أن ظل الجسم يرتسم على الأرض فإن الأرض لم ُدرك شيئا وإنما هذا مجرد انطباع صورة.

وأما الإدراك هو الفنائية والمعبر عنه على نحو «ما به يُنظر»، يعني أن الصورة تلحظها على نحو «ما به يُنظر» بأن ترى الصورة حاكية عمّا وراءها، فهذه الحكائية هي المسمّاة بالإدراك، فحقيقة الإدراك هو بحكائية الصورة وفنائيتها عمّا وراءه، وحقيقته بأن تُلحظ الصورة بنحو ما به ينظر لا على نحو ما فيه يُنظر، وهذا لا تقوم به إلا النفس العاقلة، فلا الحاسوب الآلي ولا الماء عندما تنطبع فيه الصور ولا المرآة عندما ترتسم فيها الصور، فإن كل ما يحصل في الحاسوب الآلي هو مجرد ارتسام صور لا أكثر، لا أن الحاسوب الآلي يتخذ الصورة مرآة لما في الواقع وعلى نحو الحكائية لما في الواقع، ودليلنا على ذلك هو أنه لا يُتصور الخطأ في عمل الحاسوب الآلي بينما يُتصور الخطأ في العقل، فالعقل يُخطئ بسبب المرآتية، فلا خطأ في ما تلتقطه الحاسّة، ولا خطأ في الصورة المختزِنة لدى العقل، وإنما الخطأ يحصل من تطبيق الصورة المُختزنة لدى العقل على ما تلتقطه الحاسة، وإلا الحس لا يخطئ أبدا، وإنما الخطأ يأتي من الأحكام لا من الحس، مثلا: أنا أرى شبحا قادم من بعيد، فصورته التقطتها الباصرة وانعكست صورة الشبح على قرنية العين، هذه الصورة الملتقطة المبهمة التي ملامحها غير واضحة لا خطأ فيها اطلاقاً، وأنا عندي في ذهني صورة إلى «فارس» فالصورة المختزنة التي في الذهن عن «فارس» صحيحة لا خطأ فيها، والصورة التي التقطتها الباصرة أيضاً لا خطأ فيها، إلا أن الخطأ جاء من التطبيق حيث قلت أن تلك الصورة التي هي ل «فارس» هي هذه، وهذا التطبيق نوع من الحكم ونوع من المقارنة، وهنا يحصل الخطأ، فبعد أن يقترب شيئا فشيئا يتبين أن هذه الصورة غير تلك الصورة، فالخطأ حصل من التطبيق بالمقارنة ولم يحصل لا فيما التقطه الحس ولا في الصورة المتخيلة المختزنة في الذاكرة، وهذا يعني أنه لولا أن العقل يُدرك الصورة على نحو الحكاية لما ربطها بالصورة المختزنة عنده، فلو كان ينظر إلى الصورة كما هي هي فالصورة كما هي هي لا تعني شيئا، لكن لأنه لا يُدرك الصور إلا على نحو الحكاية عمّا وراءها لذلك بمجرد التقط الحس الصورة وصلت إلى المتخيلة فادركها أنها تحكي عن تلك الصورة المختزنة في ذهنه؛ فلأنه أدركها على نحو الحكاية عن تلك الصورة المختزنة في ذهنه أخطأ في التطبيق، فالخطأ فَرْعُ كَوْنِ رؤية الصورة على نحو ما به يُنظر على نحو الفنائية، فلولا إدراك الصورة على نحو الفنائية لما حصل الخطأ، وحيث أن الحاسوب الآلي لا يُخطئ وهذا دليل على أن إدراكه ليس بإدراك وإنما نسميه إدراك، فإن حفظه للصور ليس من باب الإدراك المتقوم بالمرآتية والفنائية.

النحو الثاني: الافتقار للبرنامج.

يستحيل للحاسوب الآلي أو الصندوق الأسود للطائرة أو بت المعلومات أو الإنسان الآلي فإنه من المستحيل أن يعمل بدون برنامج، فإنه لا يستطيع أن يعمل بذاته، فهو على ضوء البرنامج الذي يُوضع فيه يُفكّر ويستنتج، فلو أنك تضع فيه برنامجا خطأ يُفكِّر خطأ، ولو تضع فيه برنامجاً صحيحاً فإنه يُفكر بشكل صحيح، ولو وضعت فيه برنامجاً غربياً فإنه يفكر تفكيراً غربياً ولو وضعت له برنامجاً شرقياً لفكر تفكيراً شرقياً، فالحاسوب تابع للبرنامج؛ ولأنّ كل فعالياته معتمدة على البرنامج الذي هو فيه فهو لا يملك التحرر في تصور الكليات من أي بابٍ أتت، بينما النفس العاقلة البشرية فإن أي كلّي تُدركه، فهذه النفس تعيش في بيئة شرقية انقلها لبيئة غربية وتعيش في بيئة أرضية انقلها لبيئة فضائية، وهي تعيش في اختصاص معين انقلها الى اختصاص آخر فهي تتلقى في كل لحظة مليارات الصور وتتصرف فيها وتدرك النقاط المشتركة منها وتختزن المتخيلة النقاط المختصة منها وكل ذلك بتحررٍ من أي برنامجٍ تُغذَّى به النفس، مما يكشف عن الفرق الشاسع الواضح بين عمل الحاسوب وبين إدراك النفس العاقلة للكليات.

وما مر الآن كلّه في المحور الاول لإثبات أن النفس محركٌ للبدن وليست هي البدن، وهي مستقلةٌ في تصرفها عن البدن ولا تفتقر في كل تصرفاتها عليه، أما تسميته بالتجرد أو غيره فإنه لا يخصنا ولا نحتاج إلى الدخول فيه وإثباته.

كل الأدلة التي أقيمت سابقاً على التجرد فقد يعترض معترض عليها ويقول: ما هو دليلكم على أن هذه أمور مائزة بين المادة والمجرد؟ فهل أنتم استقرأتم كل أنواع المادة في الكون؟ هل أنتم استقرأتم كل مراتب الوجود المادي في الكون؟ ما الذي يدريكم أن هذه الخصائص نابعة من المادي بما هو مادي فلعل هذه الخصائص موجودة حتى في غير المادي؟ من أين تُثبتون أنها خصائص مقومة للمادي؟ فلعلها خصائص مشتركة؟ بل ما هو دليلكم على هذا التقسيم «مادي ومجرد»؟ فلعل كل ما في الكون ما سوى الله مادي، ولعل كل ما في الكون ما سوى الله مجرد، وأن الذي نراه في عالم المادة هو صور مختلفة وطاقة تتصور بصورٍ مختلفة ومتغيرة ومتلونة، نحن لا نُريد أن ندخل في هذا البحث فنحن قلنا يكفينا تلك النقطة التي اثباتها.

المحور الثاني: في مصدر الصور.

هل أن مصدر الصور هو العقل الفعال كما ذهبت إليه النظرية الصدرائية - نظرية الملا صدرا الشيرازي - من أنَّ العقل الفعال هو مصدر الصور؟ أم هو النفس نفسها من أنها هي المصدر للصور «هي هي» تخلق الصور؟ وفي هذا المحور عدة نقاط:

النقطة الأولى: في أدلة النظرية الصدرائية على كون مصدر الصور هو العقل الفعال.

هنا أدلة النظرية الصدرائية على أن مصدر الصور هو العقل الفعال لا النفس، فالنفس مثلها مثل المرآة تنتظر أن تأتيها الصورة، ومثلها مثل الماء ترتسم فيه الصور لا أكثر، وإلا أن مفيض الصور هو عقلٌ مجردٌ مفارقٌ للنفس يسمى ب «رب الأنواع» أو يُسمى ب «العقل الفعال»:

الدليل الأول: شهادة الوجدان.

الوجدان شاهدٌ على أن إدراك الكلي كإدراك القضايا الأخرى نحو «اجتماع النقيضين محالٌ»، فالوجدان لا يرى فرقاً بين الإدراكين، فأنا الآن أدركتُ أنّ النقيضين لا يجتمعان وأدركت كلّي الإنسان، فكلما فتشت بوجداني لا أرى فرقاً بين الإدراكين، أي أن إدراكي للكلي - كلي الإنسان - على نسق إدراكي أن النقيضين لا يجتمعان، فالنسق واحد، فكما أن قضيةَ «النقيضان لا يجتمعان» قضيةٌ واقعية أدركتها أو لم أُدْركها، فكما أن قضية النقيضان لا يجتمعان قضية واقعية أدركتها أو لم أُدركها، أي لها تقرر وراء الإدراك، فحتى لو لم يكن هناك إنسان يُدرك فإن هناك في الواقع قضية ثابتة وهي أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فهي قضية ثابتة متقررة في حد ذاتها سواء أدركها الانسان أو لم يُدْركها، كذلك الكلي، فإن كلية الكلي لها واقع متقرر بغضِّ النظر عن إدراك الانسان، سواء أدرك الانسان أو لم يُدرك فهو كلي؛ لأننا بالوجدان نرى أن هذا الإدراك كهذا الادراك، فكما أن هذا المدرك - وهو النقيضان لا يجتمعان - له تقرر وإن لم يكن في العالم إنسان كذلك المدرك الثاني وهو كلية الشجر وكلية الحجر وكلية الإنسان له تقرر وإن لم يكن هناك إنسانٌ مُدرك، فكيف تقولون أن الكلية مِنْ صًنع العقل؟ والعقل يصنع وتسمونه «تجريد وتقشير»، وهذه مثلما قال العلامة الطباطبائي في نهاية الحكمة أن هذه كلّها ألفاظ مجازية فليس هناك تقشير ولا تجريد، بل صورة جاءت من الخارج مباشرةً، فكما أن قضية اجتماع النقيضين محال فإن هذه القضية لها واقع، وواقعها في العقل الفعال، والعقل الفعال أفاض هذه الصورة على النفس فأدركتها، كذلك كلية الإنسان وكلية الحجر فإن هذه الكلية ذات واقع وذات تقرر وهذا الواقع في العقل الفعال أفاضه على النفس واستقبلته النفس، لا أنَّ هناك صنعاً من النفس للكلية.

الدليل الثاني: لا يُعقل أن يكون الشيء الواحد قابلاً وفاعلاً.

هذا الدليل مرَّ علينا في الجلسة السابقة، فلا يُعقل أن يكون الشيء الواحدُ قابلاً وفاعلاً، ولا شكَّ أن النفس قابلٌ لأنها تَستكمل للصور، فقد كانت النفس فاقدة للصور ثم أصبحت واجدةً لها أي كانت ناقصة ثم صارت كاملة، فبما أنَّ دورَ النفس اتجاه الصور دور القبول والاستكمال بها فلا يُعقل أن يكون دورها دور الصنع والفعل لها.

الدليل الثالث: الصور العقلية مجردة، والتجرد مساوق للفعلية.

مر علينا هذا المطلب من أن الصور العقلية مجردة والتجرد مساوقٌ للفعلية التامة، فإذن الصور فعلية تامة، والنفس أيضاً مجردة، والتجرد مساوق للفعلية التامة، فما هي النسبة بين الفعل والفعلي؟ إذا كانت النفس فعلية تامة، والصور فعلية تامة، فما هي النسبة بين الفعلي والفعلي؟ فلا يعقل أن تكون نسبة الصدور والصنع نسبة الحضور، فإذا كان هذا فعلي يعني لا يحتاج إلى ذاك وذاك فعلي يعني لا يحتاج إلى هذا، فإذا كان كلٌّ منهما فعليا فلا يحتاج وجوده إلى الآخر، إذن نسبة الفعل للفعل نسبة الحضور لا نسبة الصدور، وبما أن الصور العقلية فعلية والنفس فعلية إذن نسبة الصور إلى النفس نسبة الحضور عند النفس لا نسبة الصدور من قبل النفس.

الدليل الرابع: الحركة تتنافى مع التجرد.

لو كانت النفس هي الصانع للصور لكانت النفس تعيش الحركة، كما أن الشجر تصنع الثمر بحركة دينامية تنتقل من القوة إلى الفعل، فقد كانت البذرة شجرة مثمرة بالقوة فأصبحت شجرة مثمرة بالفعل نتيجة الحركة، فالبذرة تحركت بحركة دينامية وانتقلت من القوة إلى الفعل وصنعت هذا الثمر، فلو كانت النفس هي الصانع للصور لكانت النفس متحركة، والحركة يعني الخروج من القوة إلى الفعل، والخروج من القوة إلى الفعل يعني المادية، وبالتالي هذا يعني مادية النفس والحال أنكم بنيتم على تجرد النفس.

هذه هي الأدلة الأربعة على أن دور النفس اتجاه الصور دور الاستقبال لا دور الفعل بل دور الانفعال لا دور الفعل بل دور القبول لا دور الفعل، فلا بد من وجود جوهرٍ مجردٍ مفارقٍ للنفس يفيض عليها الصور فتستقبلها وهو ما يُعبر عنه بالعقل الفعال أو رب الانواع.

والحمد لله رب العالمين

[1]  لم يتسع الوقت إلا لذكر محورين، والمحور الثاني لم تُستوفَ فيه جميع النقاط.