الدرس 24 | قانون السببية في ضوء دليل حساب الاحتمالات ونظرية الشهيد الصدر

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

مر الكلام في أن الدليل التجريبي لا يمكن أن يكون منتجا إلا إذا اعتمد على عدّة أصول عقلية، ومن تلك الأصول العقلية هو قانون السببية، فلولا إيمان الإنسان بقانون السببية لم يكن الدليل التجريبي ناجحاً أو منتجاً، ولذلك وقع قانون السببية محل البحث والاهتمام، فلهذا السيد الصدر «قدس» في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» تأمل في قانون السببية بنحو أعمق مما ذكره في كتابه «فلسفتنا»، ومن أجل فهم نظريته حول قانون السببية في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» نتعرض في المقام لعدّة محاور:

المحور الأول: في بداهة القضايا الحسية وعدمها.

ما معنى بداهة القضايا الحسية وعدمها؟

هناك فرق واضح بين الإحساس بالشيء والحكم أن لهذا المحسوس واقع، هناك فرق بين الإحساس بالشيء وثبوت الواقع الموضوعي لهذا الشيء المحسوس، فأنا مثلا عندما أرمق ببصري وأرى أمامي صورة القلم أو الكتاب، فلا إشكال أني أحس بالشيء ألا وهي الصورة المرتسمة في حاسة البصر، وهذا الإحساس ليس هو محل البحث، إلا أن الكلام هو في الواقع، فهل أن لما أشعر به واقع أم لا؟! فهل هناك واقع موضوعي لهذه الصورة المحسوسة أم لا؟ وثبوت الواقع الموضوعي للصورة المحسوسة يفتقر للإيمان بمبدأ السببية، إذ ما لم يؤمن الإنسان أن لكل سبب مسبب لكن يؤمن أن وراء الصورة واقع، وبيان ذلك:

أن الإنسان إذا وجد صورة في ذهنه - صورة القمر أو صورة الشجر أو صورة الرعد - فرفع بصره إلى السماء فارتسمت صورة القمر، فلا إشكال أن هذه الصورة لم تكن ثم كانت، فبما أن هذه الصورة حادثة ولكل حادث سبب، إذن لا بُد من سبب أسهم في ارتسام هذه الصورة في ذهني، لكن ما هو ذلك السبب؟ هل السبب مجرد الإحساس أو السبب شيء وراء الإحساس؟ إذن لو لم يؤمن الإنسان بقانون السببية وأن وراء كل حادث سبب لما فتش عمّا وراء هذه الصورة، وما هو السبب الذي أسهم في ولادة هذه الصورة، إذن الإيمان بمبدأ السببية ركيزة أولى للبحث عمّا وراء الصورة.

ثم يأتي شيء آخر ألا وهو هل أن ذلك السبب - الذي أبحث عنه - هو نفس الإحساس أم شيء آخر؟ فلا يمكن أن يكون السبب في ارتسام الصورة هو مجرد الإحساس - أي مجرد الرؤية البصرية التي أشعر بها - لأنه قد أستخدم البصر ولا أرى هذه الصورة بل أرى غيرها، فلو كان السبب لارتسام هذه الصورة هو مجرد استخدام البصر أو استخدام الحس البصري لكان الحس البصري يولد دائما هذه الصورة، بينما قد أستخدم الحس البصري فأرى صوراً أخرى مختلفة عن هذه الصورة التي رأيتها.

إذن هذا يؤكد أن السبب وراء حدوث هذه الصورة هو وجود واقع في الخارج، وهذه الصورة انعكاس لذلك الواقع وارتسام لذلك الواقع، ولو لم يقع بصري على ذلك الواقع لما ارتسمت هذه الصورة دون غيرها، وهذا ما نعبر عنه بالإيمان بمبدأ السنخية أي وراء كل مسبب سبب يُسانخه أي وراء هذه الصورة واقع يناسبها، وراء صورة الرعد والبرق والنار سبب يناسب هذه الصورة.

إذن ارتكز الإنسان على قانونين إلا وهما قانون السببية وقانون السنخية بين المسبب والسبب، ولولا ارتكاز هذين القانونين لما اكتشف أن وراء الصورة واقعاً موضوعياً.

نتيجة هذا الكلام أن في كتب المنطق - كما لو فتحت كتاب المنطق للشيخ المظفر ج3 - تُذكر القضايا البديهية والتي منها القضايا الحسية، فهو والسيد الصدر يقول أن هذه لا يمكن أن تكون من القضايا البديهية لأننا لم نصل إليها إلا عبر قانونين وهما السنخية والسببية، فالقضايا هي القضايا الأولية والتي بمجرد أن تتصور الموضوع وتتصور المحمول تحكم بها، فتتصور النقيضان وتتصور «لا يجتمعان» فتحكم «النقيضان لا يجتمعان» فهذه قضية أولية بديهية فهي لا تحتاج إلى دليل ولا معونة بل يكفي مجرد تصور الموضوع والمحمول في الحكم بها، بينما القضايا الحسية -أي الإيمان بوجود واقع- لم يحصل بالأول وبالذات بل احتجنا إلى الاستعانة بقانون السببية والسنخية من أجل الوصول إليه، فالقضايا الحسية يقينية لكن ليست بديهية أولية، فهي بها يصل الإنسان إلى اليقين لكن ليست قضايا بديهية أولية.

المحور الثاني: تحليل مبدأ السببية وبيان أقسامه.

هنا أسئلة تُثار أمام ذهن كل إنسان، فالدليل الاستقرائي «الدليل التجريبي» عندما نقيم تجربة لنثبت فيها أن الفلز يتمدد بالحرارة، فالدليل الذي نُثبت به هذه القضية الكلية - الفلز يتمدد بالحرارة - هو دليل استقرائي، فبه استقرأنا مليون حالة أو مليون حادثة ووصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الفلز يتمدد بالحرارة، فالدليل الاستقرائي يُنتج قضية كلية حسيّة وهي أن الفلز يتمدد بالحرارة، لكن هذه القضية الكلية الحسية إذا كنا سنُرجعها إلى أول تجربة فإن ثبوت هذه القضية الحسية يرجع إلى ثبوت واقع قضية بدائية، فالآن نحن عندنا فلز وحرارة ويتمدد، فهنا ثلاث قضايا حسية بدائية، فلو لم تؤمن أن هناك فلز وهناك «حرارة» لم تستطع أن تركب هذه من هذه فتقول «الفلز يتمدد بالحرارة»، فعندما نرجع إلى الوراء فإن هنا قضيتان بدائيتان وهما «الفلز» فلا بُد من إثباته و«الحرارة» حتى نبحث أن الفلز يتمدد بالحرارة أم لا.

إذن القضية الكلية ترجع إلى قضية بدائية حسيّة وهي أن هناك فلز وأن هناك حرارة، فهنا نرجع إلى أول قضية وهي «أن هناك فلز» فإن ثبوت القضية البدائية - قبل البحث عن التمدد - فهل ثبوت القضية البدائية بديهي أولي كما في المنطق الصوري - كما قال الشيخ المظفر - أم أن القضية الحسية ليست بديهية، فهي بالوجدان لا نستطيع أن نؤمن بوجود فلز بالبداهة بل لا بُد من مقدمات حتى نقول بوجود فلز في الخارج أم لا، أم يرجع إلى ثبوت قضية حسية أخرى، فثبوت الفلز يحتاج إلى أن نثبت قضية حسية أخرى، وتلك القضية الحسية الثانية نحتاج أن نثبت قضية حسية ثالثة فيلزم التسلسل لما لا نهاية، إذن ما نفعل؟ نرجع إلى ما أثبتناه في المحور الأول وهو أن إثبات الفلز يتوقف على مبدأ السببية، فأنا رأيت هذا الفلز وأحسست به، وارتسمت صورته في ذهني، وجاء مبدأ السببية والسنخية واستدلالنا بهما على وجود الفلز.

تبين أن المفتاح هو مبدأ السببية، فحتى أثبت أن لدي يداً في الخارج فإني أرى أن لي يد، لكن لا أستطع أن أثبت أن لي يداً؛ لأن غاية ما يقول أن الإحساس أنك تحس أن لك يداً، أما هل لهذا الإحساس واقع أم لا، فنحتاج إلى مبدأ السببية ومبدأ السنخية لإثبات أن هناك يداً، فأول مفتاح هو مبدأ السببية.

تساؤل: من أين جاء الإيمان بمبدأ السببية الوجودية [1] ؟ هل هو ثابت بالبداهة أم دليل حساب الاحتمالات؟ وهنا العراك الفكري بين الصدر وكل هذا النتاج الفلسفي من أرسطو إلى يومنا هذا، فالصدر أرجع مبدأ السببية إلى دليل حساب الاحتمالات، فكل الرؤية الفلسفية ومنها الصدر في فلسفتنا، فالصدر في فلسفتنا سار على الرؤية الفلسفية المعروفة وهو أن مبدأ السببية أمر بديهي، وفي الأسس المنطقية تراجع، وهذا المبدأ - الذي هو المفتاح - ومفتاحه دليل حساب الاحتمالات [2] .

”الإيمان بمبدأ السببية الوجودية بمعنى وجود علاقة مطردة أم بدليل حساب الاحتمالات“، فحتى نبين هذا الأمر أذكر لك أربعة مصطلحات لا بُد من بيانها حتى نصل إلى البحث:

المصطلح الأول: علم النفس المعرفي.

علم النفس أقسام، فمنه «علم النفس الإنسان» ومنه «علم النفس الاجتماعي» ومنه «علم النفس التاريخي» ومن أقسام علم النفس «علم نفس المعرفة» فهنا نُريد أن ندرس المعرفة عند الإنسان، وعندما نُريد أن ندرس المعرفة ندرسها من مبادئ نفسية لا من مبادئ عقلية، وهذا يُسمى «علم نفس المعرفة»، وهذا يعني دراسة المعرفة انطلاقا من مبادئ نفسية، والسيد الصدر أقحم هذا في البحث بأن تدرس المعرفة من خلال مبادئ نفسية تنطلق إليها. [3] 

المصطلح الثاني: السببية بأقسامها.

السببية أقسام ثلاث:

1. سببية عدمية: أي بمعنى استحالة الصدفة، فعندما تعبر عنها السببية بالعدمية فإنك تعبر عنها ب «لا» فتقول «لا يوجد شيء صدفة»، «لا يوجد شيء صدفة» فهي سببية عدمية، وهذه أول نقطة يؤمن بها الإنسان.

2. سببية وجودية: وهي علاقة ضرورة مطردة، فكلما وُجدت صورة في ذهني فإن هذا معناه أن هناك واقعاً لهذه الصورة، فكلما وجدت نار وجدت حرارة، لوجود علاقة ضرورة مطردة بين النار والحرارة، فهذه تُسمى السببية الوجودية، أي بمعنى وجود علاقة ضرورة منطقية - مطردة - بين ظاهرتين كالنار والحرارة.

3. سببية خاصة: وهذه يمكن أن نُسميها «السببية التجريبية» فأنا قد أؤمن بقوانين عامة ك «لا يوجد شيء صدفة» والثاني «هناك علاقة ضرورية بين النار والحرارة» وهي السببية الوجودية، أما هنا فهل أن النار علّة تامة للحرارة أم مجرد مثير؟ فهذه السببية الثالثة أن تؤمن أن النار علة تامة لا أنه فقط بينهما علاقة ضرورة بل علاقة على نحو العلة التامة.

والبحث في أول مفتاح وهو من القول «لا يوجد شيء صدفة» من أين جاء؟

المصطلح الثالث: القدرة بقسميها.

هناك قدرتان يذكرهما إلى علم النفس وهما:

القدرة العقلية: وهي القدرة على التجريد والانتزاع والتركيب، فتحدث صورة في ذهنك فتقوم هذه القدرة فتحللها إلى نقاط خاصة ونقاط مشتركة، فمثلا أمامي هذا الكتاب، فصارت صورة في ذهني لهذا الكتاب، وهذه الصورة التي في ذهني لهذا الكتاب ارتسمت في القوة المتخيلة، وبعد ارتسامها في القوة المتخيلة جاء العقل فحلل الكتاب إلى نقاط خاصة ونقاط مشتركة بين هذا الكتاب وغيره من الكتب، وهذا نُسميه تحليل وتجريد، ثم قدرة العقل على الانتزاع بأن ينتزع جامعاً مشتركاً بين كل الكتب ويُسميه «الكتاب» وهو الذي ينطبق على هذا وعلى غيره، ثم القدرة على التركيب فأن أركب وأقول «الكتاب موجود» و«الكتاب كبير» فبالنتيجة هنا قدرة على التركيب والقدرة على الانتزاع.

القدرة اللغوية: يستحيل أن تفكر بدون لغة، ولا نقصد هنا اللغة العربية ولا اللغة الكلامية، بل بمعنى الرمز، فكل فكرة لا يُمكن أن تُفكر فيها بدون رمز تشير به إلى الفكرة، ولذلك الأم التي تعلم ولدها اللغة هي تعلمه التفكير، فأنت لما تعلم ولدك اللغة فأنت تعلمه التفكير، وعلى ضوء تعليمك له يتأطر تفكيره، فالأم تزرع طريقة التفكير في الطفل، فأول ما يتلقى الطفل فمن أمه لا من أحد آخر، فهي تزرع طريقة التفكير لأنها تعلمه اللغة، فهي تعلمه اللغة على أسس متينة وتنتقل معه من مرحلة إلى مرحلة فهي تزرع طريقة التفكير، وهذه تبقى في ذهنه إلى الموت التي تعلمها عندما تعلم اللغة، فاللغة طريق إلى التفكير، ولهذا فكرة واحدة تفكر فيها باللغة العربية تختلف إذا فكرت فيها باللغة الإنجليزية وهي فكرة واحدة، فاللغة طريق للتفكير، ومن هنا نقول يحتاج الإنسان حتى يستطيع أن يستدل ويستنتج ولا يمكن الوصول إلى القدرة على الاستنتاج والاستدلال إلا إذا قدرت على قدرتين وهما العقلية واللغوية، فالقدرة الاستدلالية الاستنتاجية هي نمو وتكامل لقدرتين وهما القدرة العقلية والقدرة اللغوية.

المصطلح الرابع:

فرق بين الإحساس بالواقع كعلم حصولي وبين الإحساس به كعلم حضوري، وبالنتيجة الإيمان بمبدأ السببية أيضا يُتصور له مرحلتان، فأن تؤمن بمبدأ السببية كعلم حضوري أو أن تؤمن بمبدأ السببية كعلم حصولي، فأن تتصور مبدأ السببية في ذهنك كقضية علمية فإن هذا علماً حصولي، أما تشعر في نفسك أنك منساق شعورياً وراء كل ظاهرة لما خلفها فإن هذا الانسياق الشعوري يُسمى الإيمان بمبدأ السببية على نحو العلم الحضوري.

والحمد لله رب العالمين

[1]  الوجودية بمعنى وجود علاقة ضرورة مضطردة، فإن بين النار والحرارة هناك علاقة ضرورة مضطردة، فالنار تستدعي الحرارة، وكلما وجدت نار وجدت حرارة.
[2]  سيأتي ربما في أربع أو خمس جلسات في توضيح نظرية السيد الصدر ووجه اختلافه مع الفلاسفة.
[3]  وهنا نذكر للمناسبة، أن من العلماء الذي يمتلكون مهارة في «علم نفس المعرفة» أي دراسة المعرفة من زاوية نفسية هو السيد السيستاني وقد تعرض له في أبحاث الأصولية، وقد تعرض له بشكل مفصل، وأسس تفسيراً اسمه «التفسير النفسي» ورأى أن هذا التفسير دخيل في فهم القرآن الكريم «التفسير النفسي للقرآن الكريم».