الدرس 32 | هل الفكر ظاهرة ثابتة أم متغيرة؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الحديثُ فعلا في أن الفكر - أي الإدراك - هل هو ظاهرة ثابتة أم متغيرة؟ وهنا يقع الكلام في محورين:

المحور الأول: في بيان سبب الحركة ومصدر هذا السبب.

وفي هذا المحور نتعرض إلى نقطتين اثنتين:

النقطة الأولى: ما هو سَببُ الحركة؟

الإجابة الأولى: يطرحها التفكير الديالكتيكي.

الفكر الديالكتيكي يرى أن سببَ الحركةِ سببٌ داخلي وليس سبباً خارجياً، فإنَّ سبب الحركة هو الصراعُ بين المتناقضات، مثلاً: تحولُ المادة المنوية إلى نُطفة وتحول النطفة إلى عَلقة يحتاج إلى حركة، لكن سببَ هذه الحركة - حركة المادة المنوية لتتحول إلى نطفة - ناشئ عن أن هناك نقيضين سالب وموجب، وهذان النقيضان كامنان في داخل المادة المنوية ونتيجة الصراع بين هذين النقيضين تتحول المادة المنوية إلى نُطفة، وكذلك تحول النطفة إلى عَلقة وكذلك تحول العلقة إلى مُضغة فكل حركةٍ لا يُمكن أنْ تَسْري لولا صراع بين النقائض في داخل الوجود أي في داخل المتحرك، فهذا يعني أن سبب الحركة سببٌ داخلي، وأن ذلك السبب الداخلي هو الصراع بين النقائض.

هذه هي الإجابة الأولى التي تكفّل بها منطق الديالكتيك الذي يرى أن الحركة تقوم على أساس قوة داخلية لا قوة خارجية، وتلك القوة الداخلية هي الصراع بين المتناقضات كما صَرّحَ به «إنجيلز» [1]  قال: ”الحركة نفسها هي تناقض، إن أبسط تغير ميكانيكي في المكان لا يمكن أن يحدث إلا بواسطة كينونة جسم ما في مكانٍ ما في لحظة ما، وفي نفس تِلْكَ اللحظة كذلك في غير ذلك المكان أي كينونته وعدم كينونته معاً في مكان واحد في نفس اللحظة الواحدة“، الآن إذا نفترض أن عندنا جسماً متحرك حركة ميكانيكية، وهذا الجسم المتحرك - لنقل هذه الكرة - فهذه الكرة تحركت، وهذه الكرة في حركتها هي في كل لحظة هي في هذا المكان وليست في هذا المكان، لأنك في كل لحظة تضع أصبعك تجدها في المكان الثاني، وفي المكان الثاني هي في المكان الثالث، فهذا الجسم في حركته الميكانيكية يَنطلق من التناقض، وهذا الجسم في كل لحظة تمر عليه أثناء حركته هو في مكان «أ» وليس في مكان «أ»، هو في مكان «ب» وليس في مكان «ب»، ولولا تتابع التناقض لما حصلت حركة، فالحركة هي التناقض، ولولا تتابع التناقض بأن يكون في هذه اللحظة في مكان «أ» وليس في مكان «أ» فلولا هذا التناقض لما تحققت الحركة. ولذلك يرون أن الحركة قوامُها بالتناقض، والسيد الصدر له كلمة مختصرة تعليقاً على هذه الإجابة [2]  يقول: هذا التحليل الديالكتيكي ناشئ عن عدم فهمهم لحقيقة الحركة، وعدم تمييزهم بين القوة والفعل؛ لأنهم لم يفرقوا بين القوة والفعل فوقعوا في هذا خطأ وهو تفسير الحركة بأنها هي التناقض، وبيان هذا المعنى في الإجابة الثانية.

الإجابة الثانية: تطرحها الفلسفة الكلاسيكية.

أن الحركة متقومة بالتزاوج بين القوة والفعل؛ لأنها - يعني الحركة - عبارة عن انتقال الوجود - أيُّ وجود، حيث سبق في الدرس السابق وقلنا الوجود يساوي الحركة، فكل الوجود في حركة من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة فليس شيء لا يتحرك، فكل الوجود يتحرك - والحركة تعني انتقال الوجود من درجة بالفعل إلى درجة أرقى وما زالت تلك الدرجة الأرقى بالقوة.

ونذكر ذات المثال الذي سبق التمثيل به - المادة المنوية - فهي مادة منوية بالفعل لكنها نطفة بالقوة، فهي مادة وهي نطفة بالفعل لكنها علقة بالقوة، صارت علقة هي علقة بالفعل لكنها مثلا جسم بالقوة وهكذا، فالحركة هي عبارة عن انتقال الوجود من درجة إلى درجة أرقى وفي كل درجة هو بالفعل في تلك الدرجة وهو بالقوة في الدرجة الأرقى منها.

 كيف تردون على من فسر الحركة بأنها صراع النقائض؟

كيف تردون على الذي يقول أن الحركة هي التناقض ولولا التناقض لما تحققت حركة؟ السيد الصدر يُناقش فيقول: "ولو اجتمعت الدرجتان بالفعل - حيث أنهم يقولون أن الحركة تناقض بالفعل أي اجتمع النقيضان بالفعل، فهو الآن في هذه اللحظة في مكان «أ» وهو في هذه اللحظة ليس في مكان «أ» بل بالفعل هو كذلك، بينما نحن نقول أن هذه الحركة - كما في الكرة عندما تتحرك - هي الفعل في مكان «أ» وهي بالقوة في مكان «ب»، لأنها ليست بالفعل في مكان «ب»، وإذا وصلت «ب» فهي بالفعل في «ب» لكنها بالقوة في «ج» وهكذا، ولا يمكن أنْ يَجتمع ما بالقوة وما بالفعل بالفعل فإنه غير ممكن، فهم يقولون أنه لا بُد أن يجتمعوا وإلا لا تكون حركة، أي لا بُد أن يكون في المكان وليس في المكان وإلا لا يكون حركة، وهذه النطفة لا بُد أن تكون الآن هي علقة الآن وهي ليست علقة، ولولا النقيضان لا تكون حركة، ونحن نقول هذا غير معقول، الآن هي علقة بالفعل وليست علقة بالقوة، الآن هي مضغة بالفعل وليست مضغة بالقوة؛ لا أنها ليست مضغة بالفعل.

السيد الصدر يناقش فيقول: ولو اجتمعت الدرجتان بالفعل - إذا تقول أنه في لحظة «أ» في هذا المكان وهو في المكان الذي بعده - فإما أن يكون هناك تجدد وتطور أو لا يوجد تجدد وتطور، فلا بدُ من الاختيار أيها الديالكتيكيون.

إذا قلتم: ليس هناك تجدد، إذن ليس هناك حركة، فالحركة تنتفي لأن الحركة متقومة بالتجدد والتطور، فإذا تقولون أنه لا يوجد تجدد إذن لا توجد حركة، وهذا خلف مفروض الكلام، فإن مفروض البحث أننا نتحدث عن الحركة، وأما إذا قلتم أن هناك تجدد، فكيف يَحصلُ والدرجات مجتمعة بالفعل؟ إنما يحصل تجدد وتطور إذا كانت درجة «أ» بالفعل و«ب» بالقوة، ودرجة «ب» بالفعل ودرجة «ج» بالقوة حتى يحصل حركة تجدد وتطور، أما إذا كانت كل الدرجات مجتمعة بالفعل فأين التجدد والتطور؟! إذن عند القول بعدم التجدد فإنه لا حركة، أو هناك تجدد إذن لا تجتمع الدرجات بالفعل لأن اجتماعها بالفعل يُلغي التجدد والتطور.

النتيجة: أن الحركة في كل مرحلة لا تحتوي على درجتين أو فعلتين متناقضتين، وإنما تحتوي على درجة خاصة بالفعل وعلى درجة أخرى بالقوة، ولذلك كانت الحركة خروجاً تدريجياً من القوة إلى الفعل.

النقطة الثانية: هل أن السببُ في الحركة سببٌ داخليٌ أم سببٌ خارجي؟

ما هو سبب الحركة؟ فإذا تقولون أن الحركة خروج تدريجي من القوة إلى الفعل، فأين منشؤها؟ فإنهم يقولون أن منشأها حتماً خارجي ولا يُمكن أن يكون داخلياً، فإنه لا بُد أن يكون منشأ الحركة خارج عن الحركة نفسها، لا بُد أن يكون منشأ الحركة والعامل المولد لها خارج عن إطار المتحرك نفسه، فلا يُعقل أن يكون عاملاً داخلياً؛ وذلك باعتبار أنكم إذا قلتم أن سبب الحركة جزء من الحركة والحركة خروج من القوة إلى الفعل فهنا صار سبب الحركة أيضا خروج من القوة إلى الفعل فاحتاج أيضا إلى سبب ينقله من القوة إلى الفعل، فمتى ما افترضتم أن سببَ الحركة واقعٌ ضمن الحركة شملته الحركة أيضا وهو الخروج من القوة إلى الفعل، فإذا شملته الحركة - وهو الخروج من القوة إلى الفعل - احتاج إلى ما يُخرجه من القوة إلى الفعل وبهذا رجعنا إلى التسلسل، إذن لا بُد أن يكون سبب الحركة خارجاً عن إطار الحركة، ولاحظوا هذا التعبير من السيد الشهيد إذ يقول: ”إن الوجودَ المتطور - كوجود البذرة فتصبح شجرة والنطفة تُصبح إنساناً - لا يخرج من الفعل إلا لسبب خارجي، وليس الصراع بين المتناقضات هو السبب، إذ ليست الحركة وحدة للمتناقضات لتنجم الحركة عن الصراع بينها، فما دام الوجود المتطور في لحظة انطلاق الحركة خالياً من الدرجات - ففي أول مرة لم تكن هناك درجات، فما الذي أعطاه الدرجات بحيث ينتقل من رجلة «أ» إلى «ب» إلى «ج» - ولم يكن في محتواه الداخلي إلا الإمكان - فهذه المادة المنوية إذا تحلل محتواها لا تجد إلا الاستعداد لأن تكون إنساناً - وهذا الإمكان والاستعداد لا يكفي للتحول بل لا بُد من قوة دافعة تُخرجها من عالم الاستعداد إلى عالم الفعلية، فيجب أن يُوجدَ سبب لإخراج الوجود من القوة إلى الفعل ليتبدّل الإمكان إلى حقيقة، وبهذا نعرفُ أن قانونَ الحركة العامة في الطبيعة يُبرهن بنفسه على وجود الخالق والمحرك - فأنت تقول أن الوجود كلّه حركة ولا يُعقل أن يكون سبب الحركة من داخلها، إذن نفس افتراض أن الوجود يعني الحركة هو يعني أن هناك سبباً خارجياً وهو الذي أوقد هذه الحركة وولدها - ذلك أن الحركة بموجب هذا القانون هي كيفية وجود الطبيعة، ولازم التزاوج بين القوة والفعل أن الخروج للفعل يحتاج إلى علّة، فلو كانت العلة من نفس عالم الطبيعة لكانت في إطار الحركة واحتاجت إلى سبب فيتعين أن يكون السبب خارج إطار الطبيعة“ [3] ، وليس السبب فقط خارج إطار الطبيعة بل لا بُد أن يكون السبب ثابت أيضاً ليس متحركاً، وليس فقط أن السبب لا بُد أن يكون خارجَ الطبيعة، بل لا بُد أن يكون هذا السبب ثابتاً لأنه لو كان متحركاً لخضع إلى المرحلية - وهي الخروج من القوة إلى الفعل فاحتاج إلى سبب آخر.

المحور الثاني: في شمولية الحركة للفكر.

الديالكتيكيون يقولون أنكم ألا تقولون بأن الوجود متحرك فإن الفكر متحرك أيضا، فكل الوجود حركة فالفكر أيضاً حركة، إذن لا فرق بين أنحاء الوجود، سواء كان الوجود خارجياً أو كان الوجود ذهنياً فإن الجميع خاضع لقانون الحركة، ولذلك الديالكتيكيون يرون أن الفكر يتحرك مثله مثل النطفة وبذرة الشجرة، فالفكر والإدراك في حركة أيضاً كما صرّح به «لينين» [4]  حيث قال: ”فالديالكتيك علم القوانين العامة للحركة سواء في العالم الخارجي أم في الفكر البشري“ أي أن البشر كذلك خاضع لقوانين الحركة، وتماماً على العكس من ذلك في الفلسفة التقليدية حيث تقول أن الفكر لا يتحرك حيث يقول ”وعلى العكس من ذلك قانون الحركة العامة في رأينا - أي الفلسفة التقليدية - فإنه قانون يسود عالم المادة ولا يشمل دنيا الفكر، والمعرفة، فالحقيقية أو المعرفة لا يوجد فيها حركة أو تطور بمعناه الذي قدمناه وهو الخروج من القوة إلى الفعل“.

وهنا عندنا دعويان، فهذه دعوى في قبال دعوى، فهؤلاء يقولون أن كل شيء متحرك حتى الفكر، والفلسفة التقليدية تقول كل شيء متحرك إلا الفكر فالفكر لا متحرك ولا متطور، وهنا نتطرق إلى بيان الأدلة والمناقشة.

بيان أدلة الديالكتيك على أن الفكر متحرك.

نحن نتناول هنا وجهين للديالكتيكية:

الوجه الأول: الفكر انعكاس للوجود الخارجي.

أنا أتصور الشجرة فالفكر انعكاس للشجر، أنا الآن أتصور حركة النطفة من نطفة فعلقة فمضغة فعظام، فالفكر انعكاس للواقع أي الوجود الخارجي، فإذا كان الفكر انعكاساً فكيف تتحقق المطابقة بين التصور والمتصور؟ فكيف تتحقق بين الفكر وما تُفكر فيه؟ إنما تتحقق المطابقة بين الفكر والمفكر فيه وبين التصور والمتصور إذا كان الفكر يعيش حركة وإلا لما صار تطابقٌ، فكيف يكون تطابقٌ وأن صورتك عن الشجرة متطابقة عن الشجرة، فالشجرة متحركة والصورة التي في ذهنك متحركة أم لا؟ إذا لم تكن متحركة لم تُصبح متطابقة، فإذا كانت متحركة هذا هو دعوانا من أن الفكر يتحرك كما يتحرك الوجود الخارجي؛ لأن الفكر انعكاس للوجود الخارجي فلا يمكن أن يكون مطابقاً له إذا تغير وتطور بتطوره، وإلا كيف يحصل التطابق؟!

صرّح بعض الديالكتيكيين فقال: ”إن الفرق بين المنطق الشكلي الديالكتيكي ينحصر في واقع أنهما يواجهان بصورة مختلفة المسألة الأساسية في المنطق“ حيث أن هناك مسألة أساسية في المنطق والديالكتيك والمنطق التقليدي يختلفان فيها وهي مسألة الحقيقية، فالحقيقية هي الفكرة المطابقة للواقع، أنا عندي فكرة عن الإنسان، ففكرتي عن الإنسان تُسمى حقيقة؛ لأنها مطابقة للواقع وهنا يختلف الديالكتيك مع المنطق التقليدي؛ لأن المنطق الديالكتيكي يقول بأن الحقيقة ليس شيئاً مُعطى مرةً واحدة، وليس شيئاً مكتملاً محدداً ساكناً بل الأمر خلاف ذلك، فالحقيقة هي عملية نمو كما تنمو الشجرة تنمو الفكرة، وكما تنمو النطفة تنمو صورتها في الذهن، فالفكرة تنمو كما تنمو كما ينمو ما تُفكر فيه وإلا لم يكن متطابقاً معه.

المناقشة:

السيد الشهيد «قدس سره الشريف» قال: يُمكن المناقشة في هذا الاستدلال بأمرين:

الأمر الأول: أنتم تقولون بأن عالم الطبيعة يُساوي الحركة، فهل معنى هذا أن الحركة حتى في القوانين أم الوجود الخاضع للقانون أما القانون فثابت، فهل القانون متحرك أيضاً أم ما يخضع للقانون هو المتحرك؟ عالم الطبيعة متحرك لكن هل القوانين التي تحكم عالم الطبيعة متحركة؟! الآن نذكر من ضمن القوانين أن عالم الطبيعة يستند إلى القوى الأربع - الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة - فهل هذا قانون متحرك أم ثابت؟! فالطبيعة متحركة أما القانون فهو أمر ثابت، أي أن الجاذبية متحركة فالجاذبية قانون ثابت، فعالم الطبيعة وإن كان متحركاً إلا أن القوانين التي تحكم عالم الطبيعة هي قوانين ثابتة ومن تلك القوانين قانون الحركة نفسه، فقانون الحركة هو قانون ثابت وليس متحرك، فالوجود يساوي الحركة لكن مساواة الوجود للحركة أمر ثابت وليس متحرك، فالوجود لا يستغني عن الحركة لكن عدم استغناء الوجود عن الحركة أمر ثابت وليس بمتغير وليس بمتحرك، فأنتم تخلطون بين واقع الوجود وبين القوانين التي تحكم مسيرة الوجود، فنحن نقول أن القوانين التي تحكم مسيرة الوجود هي قوانين ثابتة وليست قوانين متحركة.

وهنا نقول: الوجودُ مستندٌ لقانون الحركة، أنتم - أيها الديالكتيك - بين خيارين، فإما أن تقولوا أن الحركة هي قانون ثابت، إذن الحقيقة المنعكسة عنها في الذهن سوف تكون ثابتة، حيث يُشترط التطابق بين الحقيقة والواقع لان الحقيقة انعكاس للواقع فالواقع أن قانون الحركة ثابت، إذن لا محال أن الحقيقة التي ستنتقش في الذهن انعكاسا لقانون الحركة سوف تكون أمراً ثابثاً، وإذا قلتم أن الحركة هي قانون متغير إذن سوف تتغير الحركة من كونها حركة إلى كونها سكون، فإذا كان قانون الحركة ليس ثابتاً سوف يتغير، وإذا تغير سوف يتحول من كونه حركة إلى كونه جموداً، وإذا تحول إلى كونه جموداً أيضاً صارت الحقيقة المنعكسة عنه في الذهن هي جمود وثبات وليست متحركة، فعلى كلا الحالين أن بعض الأفكار والحقائق هي ثابتة وليست متحركة.

الأمر الثاني: الذهن البشري يحمل مفاهيمَ، وهذه المفاهيم مطابقة للواقع، والواقع متحرك، لكن ماذا تعني كلمة المطابقة؟! فالمفهوم مطابق للواقع لأنه انعكاس له، والواقع متحرك فهل يعني هذا أن المفهوم متحرك؟ لا؛ لأن الذهن البشري يُدرك مفهوم الواقع لا أنه ينال نفس الواقع، فلو أنه ينال نفس الواقع صارَ العلم علماً حضورياً لا حصولياً، فأنا الآن ذهني يُدرك صورتك ولا ينالك أنت، ولذلك حصل الفرق فيما سبق بين العلم الحضوري والعلم الحصولي، فإحساسي بالجوع هو علم حضوري لأن الجوع شعور فهو حاضر بنفسه لدى الشاعر به، فعلم الإنسان بجوعه هو عبارة عن شعوره به وهو علم حضوري، أما العلم الحصولي لا أنال الواقع فيه بل أنال صورة الواقع لا نفس الواقع، فأنال صورة التفاحة والشجرة لا أنال نفس الإنسان، فإذا كان الذهن البشري عبر العلم الحصولي إنما يُدرك المفهوم لا أنَّ الواقع يحل فيه حتى تسري خصائصه للفكر، فالشجرة حلّت في ذهني فسرت خصائصها إلى الذهن فكما هي متحركة فالذهن يُصبح متحركاً أيضاً، فالذهن البشري يُدرك المفهوم - أي الصورة - لا أن الواقع يحل فيه حتى تسري خصائصه للفكر وإنما إدراكه للخارج تماماً كما يعكس الشريط السينمائي ألوان الحركة والنشاط في الواقع، فالآن هذه الكاميرا التي تُصور الدرس فإن الشريط يعكس صور الواقع لا أكثر، فالواقع الذي يتحرك - المتحدث - هل تسري خصائص للشريط؟ أبداً مع أن الشريط مطابق، ولذلك كيف يُدان المجرم بالكاميرا؟! فالشريط الذي يشتمل على صور الواقع مطابق للواقع مع أن المطابقة لا تعني سراية خصائص الواقع للشريط، فهذا البت «Bit» المعلومات له مكان معين، هذا البت الذي يبقى في مكان معين هل يتحرك وهل ينمو ويتغير من مرحلة إلى مرحلة؟ أبداً مع أنه مطابق تماماً لصورة الواقع وهذا مما يعني أن المطابقة لا تعني سراية الخصائص من المتصور إلى الصورة.

الوجه الثاني: إن الفكر ظاهرةٌ من ظواهر الطبيعة.

أن يكون «الفكر وجودٌ» فإن هذا مسلّم، لكن هل الفكر ظاهرة من ظواهر الطبيعة؟ الماء والنبات والإنسان فإن هذه ظواهر من ظواهر الطبيعة، لكن الفكر هل حركته ظاهرة من ظواهر الطبيعة؟ هم يقولون - أي الديالكتيكيون - نعم، فتحكمه قوانين الطبيعة، ومن قوانين الطبيعة الحركة، إذن الفكر تحكمه الحركة لأنه ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فهم يقولون أن هذا الفكر هو حاجةٌ طبيعية وكل حاجات الطبيعة تخضع لقوانين الطبيعة، إذن الفكر يخضع لقوانين الطبيعة، إذن الفكر متحرك وينمو ويتغير.

المناقشة:

المناقشة الأولى [5] : ما هو مقصدكم من «الحركة» حين قولكم «الفكر متحرك»؟ فالحركة لها أحد معنين:

المعنى الأولى: أي أنه يتحول إلى نقيضه، فمن نفي يصبح إثباتاً ومن إثبات يُصبح نفياً.

المعنى الثاني: أي أنه يتكامل، فالفكر كان بدرجة 20% من الصحة والآن بدرجة 50 من الصحة، ومن ثم بدرجة 80 من الصحة، والآن 100% من الصحة، فالفكر يتكامل.

فما هو مقصدكم من الحركة، هل المعنى الأول - النقيض - أم الثاني - التكامل -؟ [6] 

فإذا كان مقصودكم بالحركة أن الفكر متحرك أي يتحول إلى نقيضه ففيه - أي يرده عليه - أن المفهوم إما مطابق للواقع أو غير مطابق، فأنا الآن تصورتُ أن الإنسان وجودٌ ناطقٌ، الآن صورة الإنسان ومفهومي عن الإنسان إما أن يكون مطابقٌ وإذا كان كذلك فهو مطابق دائماً لا يتغير، وإذا كان غير مطابق فهو غير مطابق دائماً، ومن المستحيل أن يتحول إلى نقيضه لأنه لو تحول لنقيضه لم يكن مطابقاً للواقع، فإذا قلت «الإنسان وجودٌ ناعق» فإن هذا مفهوم غير مطابق للواقع وهو يبقى كذلك للأبد.

إذن المناط في صحة المفهوم - أي مفهوم من أنه مطابق أو غير مطابق - إذا كان مطابقاً فهو مطابق دائماً، وإذا كان غير مطابق فهو غير مطابق دائماً، ولو تحول إلى نقيضه لخرج عن كونه مفهوماً عن الواقع.

وإن أُريد الثاني - ن أن المقصود من الحركة في الفكر هو التكامل أي أن الفكر ينمو ويزداد، فهو كان 20% صار 50% وهكذا، وليس المقصود من التغير بالفكر هو التحول إلى النقيض، فإن هذا أيضاً غلطٌ، وهنا نتصدى إلى أمثلة من المفاهيم:

  • مفهوم تاريخي: أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون، فهل هذه الفكرة تنمو؟! إن أرسطو إما تلميذ أو ليس بتلميذ، فكيف تنمو؟!
  • مفهوم طبيعي: الحديد يتمدد بالحرارة، فهل هذه الفكرة تنمو؟ الحديد إما ينمو أو لا ينمو، فكيف ينمو؟!
  • مفهوم رياضي: زوايا المثلث تساوي قائمتين، فهل هذه الفكرة تنمو؟ فهي إما مطابقة أو لا.
  • مفهوم فلسفي: الدور مستحيل، النقيضان لا يجتمعان، فهل هذه الفكرة تنمو؟!

أين النمو وأين التكامل، فالمفاهيم التاريخية والطبيعية والفلسفية لا تتكامل فهي «هي هي»، فلا تكون بمرور المدة أكثر صحة وصدقاً مما كانت عليه، إذن ما معنى ازداد اليقين؟! فهناك كان عندي احتمال 30% ثم صار 60% ثم صار 100%، فصار عندي يقين، نقول اليقين شيء والصورة شيء آخر، اليقين من شؤون عالم النفس، والصورة من شؤون عالم العقل فلا نخلط بينهما، النفس - نعم لها عدّة قوى، ومن قوى النفس القوة الشعورية ومن قوى النفس القوة العقلية - فالقوة الشعورية تنمو، فخوفي يكون قليلاً ويكون كثيراً، الفرح يكون شديداً ويكون ضعيفاً، فكل هذا في عالم الشعور، فاليقين يزداد لأنه مرتبط بهذه القوة الشعورية أما القوة العقلية التي من شأنها أن تدرك أو لا تُدرك فإن هذه القوة لا تخضع للنمو ولا التكامل، فلا يصح الخلط بين القوتين.

المناقشة الثانية[7] : قال: إن ظاهرة الثبات - نحن لا نقول أن الفكر ليس متحركاً بل ندعي أنه ثبات وندعي أن الوجدان يشهد بأنه ثابت، الشيخ أحمد بن سنان في النجف الأشرف في بيت السيد جاسم الخرسان، وعمري في ذلك الوقت 5 سنين تقريباً، وصورة شيخ أحمد بن سنان بقيت في ذهني إلى اليوم، فهل هذه الصورة تنمو؟ فهل هذه الصورة تتغير أو تتبدل؟ أبداً، فإن الصورة التي رأيت بها الشيخ أحمد بن سنان ما زالت في ذهني إلى هذا اليوم كما هي، فالوجدان يدعم ثبات الصور، وبالوجدان نُبت أن الصور ثابتة لا تخضع للتكامل والتغير فهي «هي هي»، بينما منطق الديالكتيك يقول أن الصورة تتغير وتتحرك لأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة، ولازم منطق الديالكتيك هو شمول الحركة وعدم الثبات للمفهوم ونقيض المفهوم؛ لأن كل مفهوم يتحرك، إذن أي مفهوم ونقيضه كلاهما متحركان.

بناءً على هذا كما أن فكر ماركس يتغير فإنه تماماً المقابل له - نقيضه فكر السيد الطباطبائي - أيضا يتغير، مع أن هذا يقول بالثبات وهذا يقول بالحركة، فعقل ماركس يحمل مفهوماً وهو الحركة في الفكر، وعقل السيد الطباطبائي يحمل فكراً وهو الثبات في الفكر، وكلاهما في نظر ماركس يتغيران ويتحركان «المفهوم ونقيضه» فلا يبقى فكر يوصف بالجمود لأن كل فكر متحرك حتى الفكر المنكر للحركة والتطور في الفكر وهو فكر السيد الطباطبائي على رأي ماركس فإن كلاهما فكر متحرك وهذا تناقض طريف - بتعبير السيد الصدر - لانهم يصفون من يخالفهم بأن فكره جامد، فإذا ذُكر لهم الفكر الإسلامي قالوا «جامد» والفلسفة التقليدية «فكر جامد» كيف يكون تفكيراً جامداً والحال بأن كل فكر لا بُد أن يكون متحركاً متكاملاً، فإن كل فكر لا بُد أن يكون متحركاً متكاملاً فإن كل فكر يخضع للحركة التكاملية، إذن ليس في البين فكر جامد، حتى الفكر الذي يُنكر التطور والتكامل، فهو ليس فكر جامد بل هو فكر متحرك، بل حتى مفهوم الثبات هو فكر متحرك، يعني إذا قال لك أن هناك حركة ويقابلها سكون وهناك تغير ويقابله الثبات، وهذه الصورة هل هي متحركة أم ثابتة؟! بناءً على منطق الديالكتيك فإن حتى صورة الثبات هي متحركة، فهو ثباتٌ لكنه متحرك، ومفهوم قانون التغير سيخضع للتغير؛ لأن التغير قانون، ف «كل مفهوم ذهني فهو متغير»، هذه ال «الكل» هل تتغير أم لا؟! فهذه بنفسها مفهوم ذهني فهل هي متغيرة أم لا؟! إذا قلتم أنها ليست متغيرة فإن هذا خلف القاعدة - كل مفهوم متغير - وإذا قلتم أنها متغير فإنه لم يكن كل مفهوم تغير، لأن هذا المفهوم نفسه ليس بمتغير.

فهذه دعوى تجمع التناقض، «كل مفهوم فهو متغير» وهذه الجملة بنفسها مفهوم، فإما أن تكون ثابتة إذن صارت بعض المفاهيم ثابتة، وإما أن تكون متغيرة فلا يُعول عليها ولا تصلح لأن تكون قانوناً لأنها متغيرة.

والحمد لله رب العالمين

[1]  فريدريك إنجلز - Friedrich Engels» 1820 - 1895»، وقد نقل عنه السيد الصدر في فلسفتنا ص217.
[2]  سيأتي توضيح هذه الكلمة المختصرة.
[3]  فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف ب لينين - Vladimir Lenin» 1870 - 1924»، ذكره ص219.
[4]  كما نقل عنه السيد الصدر عن كتاب «ما هي المادية؟»
[5]  أصول الفلسفة للشهيد المطهري ج1 ص 178.
[6]  هنا صار استطراد لمناسبة مفردة «التكامل» التي استحضرت عنوان «التكامل في الإسلام» للدكتور أحمد أمين العراقي، وقد عرّف سماحة السيد المنير - حفظه الله - بالدكتور فقال: ”الدكتور أحمد أمين صاحب «التكامل في الإسلام» دكتور في الرياضيات - أي يملك شهادة دكتوراه - وقد كان حوزوياً فاضلاً، وقد كان يحضر بحث السيد الخوئي - قدس سره -، وهو من جملة من كتب دفاعاً عن الفكر الإسلامي مقابل الأفكار الأخرى والتيارات الأخرى“.
[7]  المناقشة للسيد الصدر.