نص الشريط
الدرس 58
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 11/3/1436 هـ
تعريف: حقيقة العلم الإجمالي
مرات العرض: 2640
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (541)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

.. أضاف المحقق العراقي: بأنّ هناك فرقاً بين الأمارات والأصول:

فالأمارة: ينعقد لها مدلولان مطابقي والتزامي، فإذا عَلِمَ المكلف إجمالاً بوجوب إحدى الفريضتين الظهر أو الجمعة، وقامت أمارة على نفي وجوب الظهر، فمدلولها المطابقي نفي وجوب الظهر ولكن مدلولها الالتزامي أنّ الواجب هو الجمعة؛ وكذلك لو قامت أمارة على نفي وجوب الجمعة فإن مدلولها الالتزامي هو أنّ الواجب الظهر؛ ولأجل ذلك: يقع التعارض بين الأمارات في أطراف العلم الاجمالي. والسر في التعارض: هو التكاذب في المدلول الالتزامي، بينما بالنسبة للأصول إذا جرى أصل البراءة مثلاً لنفي وجوب الجمعة فلا دلالة فيه على أنّ الواجب هو الظهر، ولو قامت البراءة على نفي وجوب الظهر فلا دلالة فيها على أن الواجب هو الجمعة. فدليل الأصل لا يتكفل لا بالمطابقة ولا بالالتزام بجعل البدل، بحيث يقع التعارض بين الأصول في المدلول الالتزامي.

نعم، لازم جريان الأصل عقلاً: أن الطرف الآخر بدلٌ، بمعنى: إذا جرت أصالة البراءة لنفي وجوب الجمعة، ونحن نعلم من الخارج بوجوب أحدهما فلازم نفي الجمعة مع وجوب أحد الفرضين عقلاً أنّ الواجب هو الظهر إلّا أن هذا لازم عقلي، فجريان دليل البراءة لنفي وجوب الجمعة وإثبات البدل من باب الأصل المثبت. هذا ما اعترض به العراقي على النائيني.

ولكن، ما يستظهر من عبائر المحقق النائيني «قده»: أنّ مدّعاه أنّ هناك مدلولاً التزامياً لدليل الأصل، حيث إنّ دليل الأصل من الأمارات أيضاً، وإن كان نفس الأصل - أي النتيجة - ليس من الأمارات إلّا أنّ دليل الأصل وهو قوله: «رفع عن امتي ما لا يعلمون. أو: لا تنقض اليقين بالشك» هو من الأمارات. فلأجل ذلك: يقول المحقق النائيني: أنّ دليل الأصل محفوف بقرينة ارتكازية، وهذه القرينة: هي حكم العقل البديهي، من أن العلم بالحكم إجمالياً أو تفصيلياً سبب لوجوب الموافقة القطعية؛ فإذا كان دليل الأصل محفوفاً بهذا المرتكز القطعي: فمقضى احتفافه به انعقاد مدلول التزامي له، وهو: إن جريانه في أطراف العلم الاجمالي متضمن لجعل البدل كي تتحقق الموافقة القطعية ولو بالتعبد، فمقتضى هذا التفصيل: إنّ مقتضى دليل الأصل جريانه في أطراف العلم الاجمالي ومقتضى احتفافه بهذا المرتكز أنّ جريانه مقترن بجعل البدل، فلا يرد محذور الدور الذي ذكره المحقق العراقي، ولا محذور الخلط بين الأمارات والأصول، فإنّ مدعى المحقق النائيني: أن جريان البراءة متوقف على وصول جعل البدل، فلا تجري البراءة في طرف العلم إلّا مع وصول جعل البدل، وهذا لا ينكره، ولكن يقول: إنّ جريان البراءة متوقف على وصول جعل البدل ولو كان هذا الوصول في طول جريان البراءة، فدليل البراءة لا يشمل أطراف العلم الإجمالي إلّا مع وصول جعل البدل، ولو كان هذا الوصول طولياً لا الوصول في رتبة سابقة.

وبعبارة واضحة: دليل البراءة أمارة لها مدلول مطابقي: وهو نفي التكليف؛ ومدلول التزامي: وهو جعل البدل في الطرف الآخر.

نعم، يمكن مناقشة المحقق بإنكار هذا المدلول الالتزامي، لا الإشكال عليه بمحذور الدور والخلط بين الأمارات والأصول بأن يقال إن مقتضى احتفاف دليل الأصل بالمرتكز القطعي وهو أنّ العلم سبب للموافقة القطعية أن لا يجري دليل الأصل لا أن يجري ويتكفل جعل البدل.

وينبغي الكلام والنقض والابرام في أصل المدعى الذي ذكره النائيني ووافق عليه العراقي، وله جذور في كلام الشيخ الانصاري في الرسائل، فإنّ تحقيق هذا المدعى يترتب عليه بحوث في الأصول والفقه معاً وهو أنّه هل يمكن الترخيص في أطراف العلم الاجمالي؟، وهل تتغير المعادلة لو جعلناه بعنوان جعل البدل لا الترخيص المحض؟، وهل يترتب على هذا الفرق التسوية بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي من حيث العلية والاقتضاء؟، وهل بهذا التفريق يمكن التفصيل بين مقام المنجزية ومقام الامتثال؟.

فهذه الأسئلة لابّد من تنقيح الجواب عنها، لذلك ينبغي عقد البحث في جهات:

الجهة الأولى: وقد بحثناها في مبحث حجية القطع، وهي أنه:

هل يمكن الترخيص في الحكم المقطوع به تفصيلاً فضلاً عن الإجمال أم لا؟، حيث ذهب المعروف بين الأصوليين إلى أنّ الشارع يمكن ردعه عن الطريق لا عن نفس الحكم المقطوع به، فيمكن للشارع أن يقول لا تعمل بالقياس أو الرؤيا ونحو ذلك. فإنّ هذا النهي طريقي بغرض نفي معذرية العمل بالطريق. أمّا لو أنّ شخصاً عمل بالقياس مثلاً ونتيجة عمله حصل له القطع بالواقع فإنّ النهي لا يتوجه للحكم المقطوع به وإنّما هو نهي عن الطريق. وإمّا أن يقول الشارع: ما قطعت به من الحرمة بسبب القياس فأنت مرخص بالعمل به، كما لو قطع عن طريق الرؤيا أنّ صوم يوم الغدير حرام، ولا يمكن أن يقول له الشارع ما قطعت به من الحرمة عن طريق الرؤيا يجوز لك ترك العمل به. والوجه في ذلك:

إمّا لأنّ التفكيك بين القطع وحجيته تفكيك بين الشيء وذاتياته، وهو محال.

أو: لما ذكره سيدنا: أن هذا ترخيص في المعصية بنظر القاطع وهو قبيح.

أو: لما ذكره المحقق العراقي وتبعه السيد الشهيد: من أنّ هذا الترخيص إمّا نفسي أو طريقي، فإن كان نفسياً، فإن كان في الواقع ما قطع به القاطع مصيباً، أي: أنّه يحرم صوم الغدير واقعاً فيلزم من الترخيص التضاد واقعاً، وإن لم يكن قطعه مصيباً فيلزم نقض الغرض بنظره إذ كيف يحرم عليه الشارع صوم الغدير ويرخصه في تركه؟!.

وإن كان الترخيص طريقياً: فالحكم الطريقي ملاكه التزاحم الحفظي، بأن يحتمل المكلف وجود غرضين: لزوميا، وترخيصيا. فيأتي الخطاب الطريقي ليرجح اللزومي بجعل المنجزية؛ أو الترخيصي بجعل المعذرية، والمفروض أن القاطع لا يحتمل في الواقع إلّا ما قطع به فليس لديه التباس أو شك كي يكون مورداً للترخيص الطريقي. فتلخص: أنّ ترخيص القاطع فيما قطع به غير معقول لا نفسياً ولا طريقياً.

ولكنَّ شيخنا الاستاذ في بحثه «لا في مطبوعه لأنه في المطبوع عدل عن ذلك» أفاد: أنّ الترخيص الطريقي على خلاف المقطوع به مقبول، وهذا هو الصحيح، ويمكن تقريب ذلك بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الاول: أنّ الترخيص بغرض نفي فاعلية الحكم أمر ممكن. والوجه في ذلك: أنّ الحكم على قسمين: 1 - حكم اقترن بعدم الرضا بالترك؛ كما لو حرّم الشارع صوم يوم العيد لا حرمة جعلية، بل حرمة فعلية، ومعنى أنّ الحرمة فعلية باصطلاح الآخوند: عدم الرضا بترك امتثاله، أي: انعقدت عليه إرادة لزومية، فلو كان الحكم واقعاً كحرمة صوم العيد مقترناً بإرادة لزومية - أي لا يرضى الشارع بتركه - فلا يعقل الترخيص فيه لأنّ الترخيص نقض لإرادته اللزومية.

أمّا الحكم الالزامي الجعلي: بأن جعل الشارع حرمة صوم يوم العيد أو قطع المكلف بحرمة صوم يوم الغدير، فمن المعقول أن يرخص الشارع في تركه، بأن يقول: ما قطعت به من حرمة عن طريق الرؤيا أو الوسوسة عذرتك في ترك العمل به، ورخصت لك في ترك امتثاله؛ والغرض من هذا الترخيص: نفي فاعليته، لأنّ فاعلية الحكم هي عبارة عن استيجاب الحكم لحكم العقل بلزوم المتابعة والجري وراءه، فالحكم المستتبع لحكم العقل بلزوم المتابعة حكم فاعل، فغرض الشارع عندما يرخص في ترك الامتثال نفس هذه الفاعلية، لأنّه إذا رخص في ترك امتثاله. إذاً: فليس هناك إرادة لزومية على طبقه؛ وعليه: لا يحكم العقل بلزوم متابعته.

وبعبارة أخرى: إنّ حكم العقل بلزوم الجري إنّما هي من باب حق الطاعة، وإنّ للمولى حق الطاعة - أي أن حكم العقل بلزوم الجري تعليقي في الواقع أي معلق على وجود إرادة لزومية -، على طبق الحكم فإذا رخّص الشارع في ترك امتثاله فليس هناك إرادة لزومية على طبقه فلا يحكم العقل بوجوب المتابعة - أي ينتفي الحكم العقلي بانتفاء موضوعه -، فيقول الشارع: صحيح أنك قطعت بحرمة صوم الغدير ولكنني عذّرتك في امتثال هذا الحكم الذي قطعت به.

الأمر الثاني: أن يقال أنّ هذا يستلزم محذور نقض الغرض بنظر القاطع أو التضاد بنظره. والجواب: ما ذكر في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بعينه يجري في المقام، بلحاظ أنه لو فرضنا أن في الواقع توجد حرمة لصوم يوم الغدير، مع ذلك يقول المولى تجري البراءة، فكيف يجمع بين الترخيص والحرمة الواقعية وهذا تضاد.

والجواب: أننا نتحفظ على ملاك الحكم الواقعي ولا نرفع اليد عنه، فالحرمة الواقعيةلم نرفع اليد عن جعلها، ولم يتغير ملاكها وهو المفسدة ولكن في جعل البراءة غرض لا في متعلق البراءة، أي: ليس في المرخّص فيه غرض بل الغرض في نفس جعل البراءة، والغرض فيه نفي فاعلية الحكم في مرحلة الظاهر، إذ لولا جعل البراءة لكان مقتضى الحكم الواقعي الاحتياط في مرحلة الظاهر، فلأجل نفي فاعليته في مرحلة الظاهر جعلت البراءة، إذا الغرض في جعل البراءة وهذا لا يتنافى مع غرض في متعلق الحرمة الواقعية، وهذا ما عبّر عنه السيد الشهيد: بالتزاحم الحفظي. حيث إنّ هناك غرضين:

1 - غرض في صوم يوم الغدير، وهو المفسدة المقتضية لجعل الحرمة.

2 - وغرضاً ترخيصياً في جعل البراءة، وهو نفي فاعلية الحكم، أو غرضاً ترخيصياً في جعل حجية خبر الثقة الدال على الترخيص، فاذا كان الغرض في الجعل أهم في نظر الشارع من الغرض في متعلق الحكم المجعول قدّمه عليه.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 57
الدرس 59