نص الشريط
الدرس 134
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 21/7/1436 هـ
تعريف: الطولية بين العلوم الإجمالية
مرات العرض: 2656
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (589)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أنّ الوجه الثاني للبناء على الاحتياط والشكّ في أنّ الشبهة محصورة على ما ذكره السيد الشهيد، كان من موارد الشك في مصداق المقيِّد، وإذا وقع الشكّ في مصداق المقيِّد، فالتمسّك بإطلاق دليل الأصل تمسُّكٌ بالدليل في الشبهة المصداقية لموضوعه.

ولكن قد يُقال: على مباني السيد الشهيد كما أفاده في الجزء الرابع ص 21، من «بحوث في علم الأصول» أنّ دليل الأصل له مدلولٌ طوليٌّ بلحاظ الحكم الظاهريّ، ولذلك سقوطه بلحاظ الحكم الواقعيّ لا يعني سقوطه بلحاظ الحكم الظاهريّ، وبيان ذلك بالنظر إلى أمورٍ ثلاثة:

الأمر الأول: هل أنّ الحكم الظاهريّ له واقعٌ في نفسه أم ليس له واقع؟ فعلى مسلك المشهور، من أنّ الحكم الظاهريّ متقوّم بالوصول، سواءً كان الحكم الظاهريّ إلزامًا كوجوب الاحتياط، أم ترخيصًا كالبراءة، فإنّ الحكم الظاهريّ متقوّم بالوصول، فإذا لم يصل فليس حكمًا، وبالتالي، فعلى مسلك المشهور، ليس للحكم الظاهريّ ثبوت وراء الإثبات والوصول. وأمّا على مسلك السيد الشهيد، من أنّ الحكم الظاهريّ هو عبارة عن الاهتمام بالغرض الواقعيّ، في مرحلة الشكّ، فإن كان اهتمامًا بالغرض اللزوميّ جعل وجوب الاحتياط، وإن كان اهتمامًا بالغرض الترخيصيّ جعل البراءة، فبما أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن اهتمام بالغرض، والاهتمام له ثبوت مع غض النظر عن وصوله وعدم وصوله، فالحكم الظاهريّ على مبنى السيد الشهيد له ثبوتٌ مع غمض النظر عن وصوله وعدم وصوله.

الأمر الثاني: هل يمكن أن نجري دليل البراءة بلحاظ الحكم الظاهريّ؟ كما نجريه بلحاظ الحكم الواقعي أم لا؟ فبناءً على مسلك المشهور، من أنّ الحكم الظاهريّ متقوّم بالوصول، فمع الشكّ فيه فلا حكم حتّى تجري بلحاظه البراءة، وأمّا على مسلك السيد «قده»، فبما أنّ للحكم الظاهريّ واقعًا وثبوتًا، فلذلك المقتضي لجريان البراءة بالنسبة إليه تامٌّ.

وبيان ذلك: أنّه تارةً يقع الشكّ على نحو الشبهة الحكمية المحضة، وتارةً يقع الشكّ على نحو الشبهة الحكمية المقترنة بالشبهة المصداقية، مثال الأول: إذا شككنا من الأصل في حرمة العصير العنبيّ بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه، فحينئذٍ تجري البراءة بلحاظ نفس الحكم الواقعيّ وهو حرمة العصير العنبيّ، وإذا جرت بلحاظ الحكم الواقعيّ لم تجرِ بلحاظ الحكم الظاهري، بمعنى بعد أن نجري البراءة للتأمين من الحرمة الواقعية، لا معنى لأن نجري البراءة للتأمين من وجوب الاحتياط، فإننا إذا كنّا معذورين من جهة الحرمة الواقعية للعصير العنبيّ، لم يبق لنا شكّ في أنه يجب الاحتياط أم لا حتى نجري البراءة بلحاظ وجوب الاحتياط وهو الحكم الظاهري، فإنّ هذا لغو.

وأما إذا كانت الشبهة مقترنة بالشبهة المصداقية، مثلًا: قام لدينا خبرٌ دالٌّ على حرمة العصير العنبيّ بعد غليانه، ولكن شككنا في وثاقة المخبِر بنحوٍ لم يمكنّا تحصيل وثاقته حتى بالأصول، فحينئذ نقول: لا نستطيع أن نجري البراءة بلحاظ الحكم الواقعي، فإنّ دليل البراءة مقيّدٌ لبًّا بعدم قيام إمارة على الحكم الواقعي، إذ أنّ دليل البراءة لا يشمل موارد قيام إمارة على الحكم الواقعي. وحيث قام لدينا خبرٌ يدلّ على الحرمة، ولا ندري هل أن المخبر ثقة أم لا، فنشك بقيام الإمارة، فبما أننا نشك على نحو الشبهة المصداقية في قيام الإمارة، فلا يمكن أن نتمسّك بدليل البراءة، لأنّ التمسّك بدليل البراءة حينئذ للتأمين من الحرمة الواقعية، تمسّك بالدليل بالشبهة المصداقية لموضوعه، حيث إن موضوع دليل البراءة ما إذا لم تقم إمارة، ونحن لا نحرز عدم قيام إمارة. فسقط جريان البراءة بلحاظ الحكم الواقعي، فيكون له مدلول طولي وهو جريان البراءة بلحاظ الحكم الظاهري، أي صحيح أننا لا نستطيع أن نجري البراءة بلحاظ الحرمة، إذ لعلّ هناك إمارةً على الحرمة. لكن بالنتيجة، حيث نشكّ هل أنّ المولى أوجب الاحتياط في هذا الفرض أم لا، والاحتياط حكم ظاهريّ مشكوك، فنجري البراءة بلحاظ وجوب الاحتياط. ومقتضى ذلك هو المعذّرية.

فالسيد «قده» يقول: إنّ أدلة الأصول الترخيصية لها مدلولان بمقتضى إطلاقها: مدلول بلحاظ الحكم الواقعي، ومدلول بلحاظ الحكم الظاهري، فإن لم تجرِ بلحاظ الحكم الواقعي للشك في موضوعها، جرت بلحاظ الحكم الظاهري كما في المثال الذي ذكرناه.

الأمر الثالث: بناءً على ما أفاد «قده» في محلّ كلامنا، تجري البراءة بلحاظ الحكم الظاهري، بيان ذلك: إذا حصل لدينا علم إجماليٌّ بوجود نجس في هذه البلد، ونحن لا ندري هل أن الشبهة محصورة أو غير محصورة، إذًا، هل يمكن أن نجري البراءة أو أن نجري أصالة الطهارة بلحاظ الحكم الواقعيّ؟ أي بلحاظ النجاسة المعلومة بالإجمال، أو بلحاظ وجوب اجتناب النجس أم لا؟ فيقو السيد الشهيد لا يمكن ذلك، لأن دليل البراءة مقيّد لبًّا بعدم استلزام المخالفة القطعية، فهو لا يجري في مورد يستلزم جريانه المخالفة القطعية، ونحن لأننا نشك في أن الشبهة محصورة أو غير محصورة، فسوف نشكّ في مصداق هذا المقيِّد، وهو: هل أنّ جريان البراءة هنا يستلزم الترخيص في المخالفة القطيعة أم لا يستلزم؟ فمع الشكّ في مصداق المقيّد، يقع الشك في موضوع دليل البراءة، فلا يمكن التمسك به.

ولكن بعد سقوط التمسك به بلحاظ الحكم الواقعي، وهو أنّ كل طرفٍ نشكّ أنه نجس يجب اجتنابه أم لا؟ لا يمكننا نفي ذلك بالبراءة، إذ لعلّ جريانه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، فنجريه بلحاظ الحكم الظاهري، وهو أنه هل أنّ المولى أوجب الاحتياط في فرض الشاكّ وعدم إمكان تنقيح الموضوع أم لم يوجب الاحتياط؟ وحيث إنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهريّ ذو ثبوت، فيُتصوّر بلحاظه جريان البراءة. إذًا فعلى مبناه «قده» يمكن أن يقال بجريان الأصل العملي في أطراف العلم الإجمالي، عند الشكّ في أنّ الشبهة محصورة أم غير محصورة، لا بلحاظ الحكم الواقعيّ، بل بلحاظ الحكم الظاهريّ. هذا بالنسبة إلى الوجه الثاني الذي أقيم لإثبات الاحتياط.

وهناك وجهان آخران أشار إليهما السيد الشهيد «قده» لإثبات البراءة وعدم المنجّزية بناءً على مسلك الميرزا النائيني، من أنّ المدار في الشبهة المحصورة وغير المحصورة على القدرة على المخالفة القطعية وعدمها.

الوجه الأول: وتقريبه: ذكر الأصوليّون في غير موضع أنّ الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة حيثيّات تقيديّة، بيان ذلك: إذا حكم العقل بقبح الظلم، ثمّ أدرك العقل أنّ قتل النفس البريئة ظلم فحكم بقبحه، فحكم العقل بقبح قتل النفس البريئة لأنّه ظلم ليس حكما آخر وراء حكمه بأنّ الظلم قبيح، لأنّ الحيثية التعليلية حيثيّة تقيديّة، أي أنّ حكمه بقبح قتل النفس البريئة لأنّه ظلم هو في الواقع حكم قبح الظلم، وهذا مجرّد تطبيق ليس إلّا.

فلأجل ذلك نقول في المقام: عندما يحكم العقل بأنّ دليل الأصل العملي الترخيصي كدليل البراءة أو دليل أصالة الطهارة أو ما أشبه ذلك، مقيّد بعدم استلزام الترخيص في المخالفة القطعية، لأن الترخيص في المخالفة القطعية قبيح، أي لولا حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية ما حكم بأنّ دليل الأصل مقيّد بعدم استلزام الترخيص في المخالفة القطعية، وحيث إن الحيثيّة التعليلة حيثية تقيدية، إذًا لا محالة ما هو المقيِّد اللبّيّ لدليل الأصل ليس هو استلزام الترخيص في المخالفة القطعية، بل هو استلزام القبيح، فدليل الأصل العمليّ مطلق ما لم يستلزم قبيحٌ، وإنّما الترخيص في المخالفة القطعية تطبيق من تطبيقات القبيح.

فبناءً على أن المقيد لدليل الأصل العملي الترخيصي عدم استلزام القبيح، فإذا شككنا في أنّ الشبهة محصورة، إذًا يكون جريانه مستلزمًا للقبيح، أم ليست محصورة حيث لا يكون جريانه مستلزمًا للقبيح، فلا محالة يكون الشك شكًا في القبح، هل أنّ جريان الأصل الترخيصي قبيحٌ في المقام أم ليس بقبيح؟ وقال السيد الشهيد: وبما أنّ القبح يعتبر فيه الوصول، إذ لا يقال للفعل قبيح حتى يصل، فمع الشك في القبح فلا قبح. إذًا فبالنتيجة لا مانع من جريان دليل الأصل، فإنّ المقيّد له أن لا يكون الجريان قبيحًا، والشك في القبح مساومٌ بعدمه، فنقطع بعدم المقيد، فلا مانع من التمسّك بإطلاق دليل الأصل، فهذا ما أفاده «قده» دعمًا لكلام المحقق النائيني.

ولكن بالرجوع إلى ما ذكرنا في بحث القطع، في بحث أحكام العقل العمليّ، ذكرنا هل أنّ حكم العقل العمليّ مقيّد بالعلم به أم لا؟ وذكرنا هناك بأنّ هذه القضيّة - من باب المثال - الظلم قبيحٌ تستبطن محمولين طوليين: المحمول الأول: الظلم لا ينبغي فعله، لكونه مُخلًّا بالنظام. أنّ صدور الظلم محلٌّ للمؤاخذة والعقوبة. والمدلول الثاني في طول الأول: لأن الظلم مُخلٌّ بالنظام لا ينبغي صدوره، ولأنه لا ينبغي صدوره، لو صدر يكون موضعًا للمؤاخذة والإدانة. فأيهما المقيد بالوصول؟ فبلحاظ المدلول الأول، وهو «الظلم لا ينبغي صدوره لأنّه مخل بالنظام»، لا معنى لتقييده بالوصول وعدمه، فإنّ عدم الانبغاء معلّلٌ بإخلاله بالنظام وصل أم لم يصل. وأما بالنظر إلى المدلول الثاني وهو أنّه «لو صدر الظلم لكان موضعًا للإدانة»، فيقال: لا يمكن تقييد هذا الحكم وهو الإدانة بالعلم به، وإنّما يُقيّد بالعلم بموضوعه، إذ تقييد هذا الحكم نفسه بالعلم به دورٌ، إذ لا يُعقل أن يقيد حكم العقل بالإدانة بالعلم بهذا الحكم العقليّ، فإنّ التفكيك بين الجعل والمجعول إنّما يُتصوّر في الأحكام الاعتبارية، حيث إنّ الاعتبار له مرحلتان، مرحلة الجعل، ومرحلة ارتسامه في وعاء الاعتبار، فيقال هناك جعلٌ ومجعول، فيمكن أن يتصور العلم بالجعل دخيل في موضوع المجعول.

وأما في الأحكام العقلية فليس لها مرحلتان، مرحلة جعل ومجعول حتى يتصور التفكيك فيها. إذًا لا يتصور تقييد حكم العقل بأنّ الظلم ذو إدانة وعقوبة بالعلم بهذا الحكم العقلي، هذا دور، وإنّما يتصور تقييده بالموضوع، أي إنّما يتصور تقييده بالعلم بالظلم، فيقال: إن علم أنّه ظلم كان مستحقًا للعقوبة وإلّا فلا. فبناءً على هذا التحليل، لا معنى لأن يقال في المقام بأنّ القبح منوطٌ بالوصول، فإنّ القبح بمعنى ما لا ينبغي لكونه إخلالًا بالنظام أو نقضًا للغرض مما لا وجه لتقييده بالوصول، ولذلك نقول بأنّ: شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجماليّ غير ممكن، لأنّه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، والترخيص في المخالفة القطعية لا ينبغي صدوره لأنه نقضٌ للغرض اللزومي، فالقبح هنا أمرٌ ثبوتيّ نفسُ أمريٌّ، لا يُعقل تقييد بالوصول والعلم به، وإنّما الذي يُعقل تقييده بالوصول والعلم به القبح بمعنى الإدانة بلحاظ العلم بالموضوع. فبالنتيجة، لا يكون ما أفاده السيد الشهيد «قده» بيانًا تامٌّا لجريان البراءة في المقام.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 133
الدرس 135