نص الشريط
الدرس 141
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 30/7/1436 هـ
تعريف: الطولية بين العلوم الإجمالية
مرات العرض: 2637
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (416)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام في المطلب الثالث، من مطالب ما إذا كان لأحد طرفي العلم الإجمالي أثرٌ زائد، وذكرنا أن سيدنا «قده» أفاد في مثالٍ، وهو ما إذا تردد أنّ الملاقي للثوب بولٌ أو دم، فهل يجب تطهيره مرةً أو مرتين، بأنّ هنا أصلًا حاكمًا، وهو استصحاب النجاسة بعد الاكتفاء بتطهيره مرة واحدة.

وأشكل عليه السيد الشهيد:

أولًا: بأنّ جريان الطهارة عن الحكم الوضعي، وهو لزوم التطهير مرةً أخرى، مما لا وجه له، فإنّ موضوع البراءة الشكّ في التكليف. وهذا الذي أفاده محلُّ تأمُّل: أولًا: بأنّ سيدنا «قده» يرى جريان البراءة الشرعية في الأحكام الوضعية، فما صرّح به في «مصباح الأصول» في الجزء السابع والأربعين، ص 308، فإنه يرى عموم حديث الرفع في الأحكام التكليفية والوضعية، فالإشكال حينئذٍ إشكال مبنائيٌّ وليس بنائيًّا.

وثانيًا: بأنّ محل جريان البراءة هو الوجوب الشرطيّ، أي أنّه هل يعتبر في تحقّق الطهارة الغَسلة الثانية أم لا؟ فتجري البراءة عن اعتبار ذلك، وقد صرّح سيدنا «قده» خلافًا للمحقق النائيني، بجريان البراءة في الوجوب الشرطيّ. وأشكل السيد الشهيد ثانيًا بأنه: على فرض جريان البراءة، فإنّ هناك أصلًا حاكمًا على استصحاب النجاسة، وهو أصلٌ موضوعيٌّ، وهو عبارة عن استصحاب عدم ملاقاة البول، ولكن إذا تقيّدنا بعنوان استصحاب النجاسة، فربما يرد إشكال السيد الشهيد، وأمّا إذا قلنا بأنّ مبنى سيدنا «قده» عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، فلا يجري استصحاب النجاسة على مبناه، وإنما الجاري استصحاب عدم ورود المطهِّر على نحو القضية الموضوعية الخارجية.

فبناءً على أن الجاري هو استصحاب عدم ورود المطهِّر، فإنّ استصحاب عدم ملاقاة البول لا يكون حاكمًا على استصحاب عدم ورود المطهِّر، لأنه يعتبر في الحكومة أن تكون السببيّة شرعيّة، بمعنى أن يكون موضوع الأصل الثاني مسبَّبًا شرعًا عن موضوع الأصل الأول، وأما إذا كانت السببيّة خارجية أو عقليّة، فلا يكون من الأصل الحاكم شرعًا.

وبالتالي، فالشكّ في ورود المطهِّر على هذا الثوب المغسول مرةً واحدة، وإن كان مسبَّبًا عن شكّ في أنّه لاقى البول أم لم يلاقِه، إلا أنّه ليس مسبَّبًا عنه شرعًا، وإنما مسبَّبٌ عنه عقلًا، إذ لولا الشك أنّه ملاقٍ للبول أم لا، لم يتولّد الشك في أنه لو اكتُفي بتطهيره مرة واحدة فهل ورد المطهر أم لا، فالسببية سببيّة عقليّة لا شرعيّة، وبالتالي لا يكون استصحاب عدم ملاقاة البول للطرف الذي لاقاه الثوب حاكمًا على استصحاب عدم ورود المطهِّر، وإنما هو معارض له.

وإن كانت النتيجة لصالح السيد الشهيد، إلا أنّه ليس من باب الحكومة وإنما من باب المعارضة. هذا بالنسبة إلى المطلب الثالث.

المطلب الرابع: لا كلام في أنه لو كان في أحد الطرفين خطابٌ مختصّ، فإنّ العلم الإجمالي ينحلّ بناءً على مسلك السيدين؛ السيد الخوئي والسيد الصدر «قدهما»، سواءً كان الخطاب المختصّ منصبًّا على الأثر الزائد، أو كان الخطاب المختصّ منصبًّا على الأثر المشترك، فهنا مثالان: مثلًا: إذا علم إجمالًا إمّا بنجاسة الماء أو نجاسة التراب، فهنا أثرٌ مشترك بينهما، وهو مسألة الطهارة، ولكن في الماء أثرٌ زائد وهو جواز الشرب، فلأجل ذلك، إذا تعارضت أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التراب، بلحاظ الأثر المشترك، وهو تطهير الملاقي أم لا، أو جواز الوضوء والتيمم به أم لا، فإنّ هناك خطابًا مختصًّا في طرف الماء، ألا وهو أصالة الحِلّ، وأصالة الحلّ في طرف الماء يترتّب عليها الأثر الزائد بالنسبة إلى الماء، ألا وهو جواز الشرب.

فحينئذٍ ينحلُّ العلم الإجماليُّ هنا بلحاظ الأثر الزائد، لا لكونه أثرًا زائدًا، بل لوجود خطابٍ مختصٍّ يتكفّل بتنقيح موضوعه. والمثال الآخر، ما إذا كان الخطاب المختصّ متكفّلًا بانحلال العلم الإجمالي بلحاظ الأثر المشترك أيضًا.

مثلًا إذا علمنا إجمالًا، إما بنجاسة إناء «أ» أو نجاسة إناء «ب»، وكان إناء «أ» في نفسه مجرىً لاستصحاب الطهارة، ففي مثل هذا الفرض يُقال بأنّه: تعارض أصالة الطهارة في «أ» مع أصالة الطهارة في «ب» لا يعني المنجّزية، لوجود خطاب مختصّ في طرف «أ» وهو استصحاب الطهارة، وبلحاظه يجوز ترتيب آثار الطهارة على «أ»، فينحلّ العلم الإجماليّ حُكمًا بلحاظ طرف «أ». إلا أنّنا ناقشنا في ما سبق، وقلنا لا فرق بين أن يكون هناك خطابٌ مختصٌّ أم لا، إذا كان ارتكاز المناقضة أو قبح الترخيص القطعيّ في المخالفة من الأمور الواضحة التي تحفّ بأدلّة الأصول بمثابة القرينة المتّصلة، فلا فرق حينئذٍ في عدم الانحلال بين الخطاب المشترك أو الخطاب المختصّ. هذا تمام الكلام في هذا البحث، ألا وهو ما إذا كان لأحد طرفي العلم الإجمالي أثرٌ زائد.

التنبيه الجديد: منجّزية العلم الإجماليّ في التدريجيّات: لو حصل علمٌ إجماليٌّ بأمر تدريجيّ، فهل يكون منجَّزًا أم لا؟ وقد تعرّض لذلك السيد الشهيد في بحوثه في الجزء الخامس، ص 266، فمثلًا: المرأة التي طرقها الدم، ونسيت أيام حيضها، فهي في خلال هذا الشهر تعلم أنّ ثلاثة أيام من هذا الشهر هي أيام حيضٍ، فهنا مع وجود الدم بالفعل، الذي لا تدري هل هو حيض أم استحاضة، هل يتنجّز العلم الإجمالي، فتقول إمّا هذا الدم حيض أو الدم الذي يأتي بعد ثلاثة أيام أو بعد تسعة أو بعد اثني عشر يومًا.. وهكذا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى زوجها، هل يحرم عليه الوطء فعلًا، أم يحرم عليه الوطء بعد ثلاثة أيام أو بعد اثني عشر يومًا.. إلى آخره.

أو فرضنا أنّ التاجر علم بأنه خلال هذا الشهر سوف يبتلي بمعاملة ربوية لا محالة، فهل هذه المعاملة التي هو قد شرع فيها، أم المعاملة التي سيشرع فيها بعد عشرين يومًا؟ أو مثلًا: بناءً على مسلك سيدنا الخوئي وتلامذته، من أنّ الدولة لا تملك الأموال التي تحت أيديها، فإذا تعامل المكلف مع البنك الحكوميّ أو البنك المشترك، وقبض مالًا من هذا البنك الحكوميّ أو البنك المشترك، فإنّه يحصل له علم إجمالي بأنّه: إما هذا المال المقبوض اليوم مجهول المالك، أو المال الذي سيقبضه من هذا البنك بعد شهرٍ أو بعد عشرين يومًا، كما إذا علم بأنّه في كل شهر أو في كل عشرين يومًا يقبض مالًا، فإمّا هذا المال مجهول المالك أو ذلك المال، فهل يكون العلم الإجماليّ حينئذٍ منجّزًا أم لا؟ وأشباه ذلك من الأمثلة للعلم الإجماليّ في التدريجيّات.

وقد قسّم المحقق النائيني هذا البحث إلى ثلاث صور: ما إذا لم يكن الزمان دخيلًا، لا في الخطاب ولا في الملاك، وما إذا كان الزمان دخيلًا في الخطاب دون الملاك، وما إذا كان الزمان دخيلًا في الخطاب والملاك، فالكلام فعلًا في الصورة الأولى، وهي: ما إذا لم يكن للزمن دخلٌ لا في الخطاب ولا في الملاك، أي أنّ المسألة من باب الواجب المعلَّق، أي أنّ الزمن المتأخّر فقطس زمن أداء، وإلا لا دخل للزمان لا في الخطاب ولا في الملاك.

مثلًا: إذا نذر صومًا، ولا يدري أنّه نذر صوم هذا اليوم، أو نذر صوم يوم غدٍ أو ما بعد غدٍ، وقلنا بأنّ وجوب الوفاء بالنذر من باب الواجب المعلّق، بمعنى أن الوجوب فعليٌّ والواجب استقباليّ، فالاستقبال زمان للأداء فقط، وليس دخيلًا لا في الخطاب ولا في الملاك، فوجوب الوفاء بالنذر فعليٌّ خطابًا وملاكًا. فهنا في مثل هذه الصورة، لم يستشكل أحدٌ من الأعلام في منجّزية العلم الإجمالي، لأنّه علم بتكليفٍ فعليٍّ على كل تقدير، أي سواء كان المنذور صوم اليوم، أو كان المنذور صوم غد، فإنّ التكليف فعليٌّ على كل تقدير. كما أنّ الأصول متعارضة، فإن أصالة البراءة عن وجوب صوم هذا اليوم معارَضة بأصالة البراءة عن وجوب صوم يوم غدٍ، لأنّ جريانهما معًا ترخيصٌ في المخالفة القطعية، وهو قبيح. فالعلم الإجمالي في هذه الصورة منجَّز على كلّ حال، قلنا بمسلك العليّة أو قلنا بمسلك الاقتضاء.

إلا سيد المنتقى «قده»، فإنّه قال: إنّ الكلّ، وإن قال بمنجّزية العلم الإجمالي، إلا أنّ الصحيح عدم منجّزيته في هذه الصورة فضلًا عن الصور الأخرى الآتية، والوجه في ذلك أنه: يعتبر في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون العلم الإجماليّ بيانًا، أي أن يكون العلم الإجماليّ علمًا بما يقبل المنجّزية لا مطلقًا، فلا يكفي أن يقال بأن نتشبّث بهذه الآية، وهو أنه علم بتكليف فعلي على كل تقدير، بل لا بد أن يكون علمًا بتكليف فعليٍّ صالح للمنجّزية على كلّ تقدير، وإلا لم يكن موضوعًا للمنجّزية.

وبناءً على ذلك، فإنّه: إذا علم إجمالًا إمّا بوجوب صوم هذا اليوم أو صوم يوم غد، فهذا ليس علمًا بما يقبل المنجّزية على كلّ تقدير، لأنّ العلم القابل للمنجّزية على كلّ تقدير هو العلم بالتكليف في ظرف الطاعة، لا العلم بالتكليف قبل ظرف الطاعة، فما لم يكن علمًا بالتكليف في ظرف الطاعة، ليس علمًا بتكليف صالح للمنجّزية على كل تقدير، وذلك لمنبهين:

المنبه الأول: لو فرضنا أن هذا العلم تفصيليّ وليس إجماليًّا، ومع ذلك فهو ليس منجِّزًا، أي لو فرضنا أنّ لديه علمًا تفصيليًّا بصوم غد، مع ذلك هذا العلم التفصيليّ، لأنّه ليس علمًا في ظرف الطاعة، فليس صالحًا للمنجّزية، نعم، إذا كانت له مقدّمة وجوديّة، كأن علم بوجوب السفر غدًا إلى الحجّ، والسفر غدًا يتوقف على أن ينجز بعض المقدّمات اليوم، فتلك المقدّمات واجبة من باب وجوب المقدّمات المفوِّتة، لا من باب تنجّز التكليف، فإنّ هناك فرقًا بين وجوب إنجاز المقدّمات المفوِّتة، وبين دعوى تنجّز التكليف فعلًا، فكلامنا في التنجّز، بحيث لو لم يكن لهذا التكليف أيّ مقدّمات وجوديّة، فهل أنّه يستحقّ العقاب على تركه أم لا؟ فنقول بأنه: لو كان علمًا تفصيليًّا لم يكن منجّزًا، فضلًا عمّا إذا كان علمًا إجماليًّا، والسرّ في ذلك أنّه: لو ادّعينا منجّزيّة العلم التفصيليّ، ثمّ لما جاء يوم غدٍ زال العلم وتبخّر، فكنّا نعلم بوجوب صوم يوم غد، فلما جاء يوم الغد، تبيّن لنا جهّال جهلًا مركبًا، وأنّ الصوم ليس واجبًا في هذا اليوم أبدًا، فهل أنّ المنجّزية انقلبت؟ بأن كان العلم منجزًا ثم انقلب عن المنجّزية، فإنّ هذا من قبيل انقلاب الواقع، والواقع لا ينقلب عمّا هو عليه، فلا معنى لأن يقال بأنّه كان منجَّزًا وانقلب عن ذلك، مما يكون منبهًا على أن المنجّز العلم في ظرف الطاعة.

والمنبه الثاني: أنّه لو كان العلم بالتكليف مبنيًّا على إمارة شرعيّة، لكنّنا نحتمل زوالها، كما لو قام لدينا خبر ثقة على أنّ غدًا سيأتي مثلًا الوالد من السفر، فيجب إعداد الضيافة له. إذًا، فالتكليف أصبح فعليًّا لا وجدانًا، لقيام إمارة شرعيّة، وهو خبر الثقة على مجيء الوالد غدًا، لكن بما أننا نحتمل زوال هذه الإمارة، ولو لتبيُّن عدم وثاقة المخبر، أو لتبيُّن اشتباهه وتراجعه عن إخباره، فإنّه لا يوجد حينئذٍ منجّزية، فإنّ المنجّزية فرع العلم، ومع الاحتمال فكيف يُقال بأنّ هناك منجّزية؟ إذًا، فمن مجموع هذين المنبّهين، نصل إلى أنّ: المناط في المنجزية العلم بتكليفٍ فعليٍّ في ظرف الطاعة والامتثال لا مطلقًا، وما ذكره «قده» أشبه بالمصادرة، باعتبار أنّ موضوع حقّ المولويّة أو لزوم دفع الضرر المحتمل على كلا المسلكين في سرّ المنجّزية، هل أنّ سرّ المنجّزية في التكاليف هو حقّ المولى، أو أنّ سرّ المنجّزية دفع الضرر المحتمل؟ على كلا المسلكين، موضوع المنجّزية وصول تكليفٍ فعلي، بمعنى أنّه متى وصل تكليفٌ، بحيث لو جاء زمان امتثاله لَلزم التحرّك، وكان المكلّف مُدانًا على عدم التحرّك على طبقه، فإنّ هذا التكليف موضوعٌ لحقّ المولويّة، أو موضوع لدفع الضرر المحتمل، سواءً وصل هذا التكليف في ظرف الإطاعة، أو وصل هذا التكليف في ظرف التهيُّؤ أو ظرف ما قبل زمن الأداء، فإنّه على كلّ حال، وصل تكليف، بحيث لو كان الزمن زمن أدائه للزم التحرّك، بحيث لو كانت له مقدّمة وجوديّة، للزم إنجازها وهذا هو معنى التكليف الفعليّ، فمتى وصل تكليف فعليٌّ، فإن العقل لا يرى فرقًا أن يصل في ظرف الإطاعة أو يصل قبل ذلك، فإنّ العقل يقول: إنّ هذا الوصول موضوعٌ لحقّ الطاعة، فإنّه لا يقصر طاعة المولى على أنّ يكون العلم علمًا في ظرف الإطاعة.

وكذلك سرّ دفع الضرر المحتمل، فإنّ موضوع حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وصول تكليف فعليّ وقد وصل، وأمّا وصوله في ظرف الطاعة، فتقييد لموضوع الحكم العقليّ بلا مقيِّد.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 145
الدرس 142