نص الشريط
الدرس 143
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/8/1436 هـ
تعريف: الطولية بين العلوم الإجمالية
مرات العرض: 2637
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (321)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى الصورة الثالثة، وهي ما إذا كان الزمن دخيلًا في الملاك والخطاب، ولا يوجد خطاب فعليٌّ حين العلم الإجماليّ، وحينئذٍ، هل يكون العلم الإجمالي منجّزًا أم لا؟ وهنا، ذهب جمعٌ، منهم الشيخ الأعظم، بعدم منجّزية العلم الإجماليّ، والوجه في ذلك، أحد تقريبين:

التقريب الأول: ما ذكر في كلمات الشيخ الأعظم «قده»، من أنّه يعتبر في منجّزية العلم الإجماليّ العلم بتكليفٍ فعليٍّ على كلّ تقدير، والمفروض في المقام، أن لا يوجد علمٌ بتكليفٍ فعليّ على كل تقدير، فمثلًا: إذا علمت المرأة بأنّ دم الحيض إمّا الدم الموجود بالفعل، أو الدم الذي سيحصل بعد عشرين يومًا، فهي لا تعلم بتكليفٍ فعليٍّ على كلّ تقدير، وإنّما على تقدير أنّ الدم الفعليّ هو دم الحيض، فهناك تكليفٌ فعليٌّ بحرمة التمكين وحرمة دخول المسجد.

وأمّا على فرض أنّ دم الحيض هو الدّم الذي سيأتي مستقبلًا، فليس هناك تكليف فعليّ بحرمة التمكين، فإنّ حرمة التمكين متقيّدةٌ ملاكًا وخطابًا بورود دم الحيض، فما لم يرد دم الحيض، فحرمة التمكين غير فعلية ملاكًا وخطابًا. فبما أنّ المرأة لا تعلم بتكليف فعلي على كل تقدير، فلا يكون العلم الإجماليّ بحيضيّة الدم، إما ما هو موجود فعلًا، أو ما هو موجود مستقبلًا، منجّزًا. هذا ما ذكر في كلمات الشيخ الأعظم «قده». والجواب عن ذلك، كما ذكره الأعلام، ومنهم سيدنا «قده» بأن: هنا مقدمتين:

المقدمة الأولى: إنّ هناك فرقًا بين عدم العلم بكلا جزئي الموضوع، وبين العلم بتمام شرائط الموضوع ما سوى الزمن. ففي الفرض الأول، كما لو علم المكلّف بأنّ المتحقّق مستقبلًا هو الاستطاعة المادّية، بمعنى ملك الزاد والراحلة، وأمّا الاستطاعة السرّيّة، بمعنى كون الطريق مخلّى، فليس معلومًا حتّى في المستقبل. فهنا المكلف لم يعلم بتكليفٍ فعليٍّ، لا فعلًا ولا مستقبلًا، إذ المفروض أنّه لم يعلم إلا بأحد جزئي الموضوع، وهو الاستطاعة المادية، وأما الاستطاعة السرية فمشكوكة، ومقتضى الشكّ فيها الشكّ في فعليّة وجوب الحج حتّى مستقبلًا. ففي هذا الفرض، لا يكون العلم منجِّزًا، لأنّه علم بأحد جزئي الموضوع.

وأمّا إذا افترضنا أنّ جميع شرائط التكليف معلومة ما سوى الزمن، كما لو علمت المرأة أنّ جميع شرائط التكليف بحرمة التمكين، من بلوغٍ وعقلٍ واصلة، ما سوى زمن ورود دم الحيض، فهذا علمٌ بتكليفٍ فعليٍّ في ظرفه، إذ ما دامت سائر الشرائط تامّةً ما سوى الزمن، فالمرأة تعلم بتكليف فعليٍّ في ظرف ورود دم الحيض، بخلاف القسم الأول.

المقدمة الثانية: عندما يُقال بأنّه: يعتبر في منجّزية العلم الإجماليّ العلم بتكليفٍ فعليٍّ على كل تقدير، فما هو المراد بالفعليّة؟ هل المراد بالفعليّة، الفعليّة في زمن العلم؟ أم المراد بالفعليّة، الفعليّة بحسب عمود الزمان؟ فإن كان المراد بالفعليّة، فعليّة التكليف في زمن العلم، بمعنى أن تكون المرأة في زمن علمها الإجماليّ، هناك فعليّة للتكليف على كلّ تقدير، فهذا لم يحصل في المقام، لأنّ التكليف بحرمة وطء الحائض، إنّما هو على فرض فعليّة الحيض، وحيث إن فعلية الحيض مجملة بين الزمن الفعلي والمستقبلي، فليس هناك علم بتكليف فعليّ في زمن العلم الإجماليّ نفسه.

وأمّا إذا كان المقصود بالفعليّة، الفعليّة بحسب عمود الزمن، فهي معلومة، لأنّ المفروض أن المرأة تعلم بفعليّة الحيض في هذا الشهر جزمًا، فهي تعلم بفعليّة حرمة التمكين في هذا الشهر جزمًا، فالفعليّة بحسب عمود الزمن متيقَّنة لا كلام فيها، وإن كانت فعليّة التكليف الآن، أي زمن العلم الإجماليّ، غير حاصلة. والدخيل في المنجّزية الثاني لا الأول، أي: العلم بتكليف فعليٍّ، ولو بحسب عمود الزمان. والسر في ذلك ما ذكرناه سابقًا من أنّ: هناك فرقًا بين المحرّكيّة الفعليّة للمعلوم بالإجمال أو التفصيل، وبين المنجّزية، فالمحرّكية الفعليّة، بأن يكون التكليف باعثًا بالفعل، فإنّ هذا منوطٌ بزمانه، فلا يمكن أن يكون محرّكًا بالفعل قبل زمان الامتثال. وأمّا المنجّزية، فليست هي عبارة عن كون التكليف باعثًا بالفعل، بل المنجّزية قضيّة تعليقيّة، وهي عبارةٌ عن حكم العقل باستحقاق العقاب على فرض مخالفة، وهذا الحكم العقليّ لا يعتبر في فعليّته أن يكون التكليف فعليًّا حينه، بل يكفي في حكم العقل بذلك أن يكون التكليف معلوم الفعليّة، ولو بحسب عمود الزمان. فبما أنّ المرأة المبتلاة تجزم بتكليفٍ فعليٍّ هذا الشهر، وليس عندها شكٌّ في ذلك، إذًا مقتضى قطعها بتكليفٍ فعليٍّ في هذا الشهر، قطعُها باستحقاق العقاب على مخالفة هذا التكليف، والقطع باستحقاق العقاب على فرض المخالفة، مساوق ومعاصر مع العلم بتكليفٍ فعليٍّ في هذا الشهر، فالمنجّزية لا يعتبر فيها العلم بتكليفٍ فعليٍّ حين العلم، بل العلم بتكليفٍ فعليٍّ بحسب عمود الزمان، فإنّ هذا كافٍ في حكم العقل بالإدانة واستحقاق العقوبة على فرض المخالفة. هذا تمام الكلام في التقريب الأول لمنع منجّزية العلم الإجماليّ في الصورة الثالثة، كما في كلمات الشيخ الأعظم.

التقريب الثاني: أن يُقال بأنّ: الوجه في منجّزية العلم الإجماليّ غير متحقّق في هذه الصورة، لا على مسلك العلّيّة، ولا على مسلك الاقتضاء.

أمّا على مسلك العلّية: فلأنّ المنجّزية متفرّعةٌ رتبةً على الفعليّة، إذ مراحل التكليف أربع: مرحلة الاقتضاء وهي تماميّة الملاك، ومرحلة الجعل وهي إنشاء التكليف على نحو القضيّة الحقيقية، ومرحلة الفعليّة بفعليّة موضوعه وشرائطه، ومرحلة المنجّزية وهي حكم العقل بالإدانة، وكلّ مرحلة متفرّعة عن سابقتها، فمرحلة التنجّز متفرّعة وتابعة لمرحلة الفعليّة، فإذا لم يكن التكليف فعليًّا، وإنّما يكون فعليًّا في ظرف ورود الدم، فلا منجّزية فعليّة، وإلا لزم أن يكون ما هو المتأخّر متقدّمًا على ما هو متقدّمٌ عليه، وهو غير معقول، فكما يُلتزَم بالفعليّة بحسب عمود الزمان، فيلتزم بالمنجّزية بحسب عمود الزمان، فيقال بأنّ: حرمة التمكين فعليّة في ظرف ورود الحيض، ومنجَّزة في ذلك الظرف، فالمرأة تعلم بتكليفٍ منجَّز في ظرف ورود الدم، لا أنّه منجّز الآن وحين العلم الإجمالي.

وأما على مسلك الاقتضاء: فلأنّ المحذور في جريان الأصل في تمام أطراف العلم الإجماليّ، قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة، وحينئذٍ يُقال بأنّ: هذا المحذور لا يمنع من جريان الأصل في أحد الأطراف، وإنّما يمنع من جريان الأصل في تمام الأطراف، فبما أنّه يمنع من جريان الأصل في تمام الأطراف، فهذا المحذور فرع إطلاق دليل الأصل في نفسه، أي: إذا كان لدليل الأصل إطلاقٌ بالفعل، بحيث يشمل تمام الأطراف، فيأتي المحذور ليمنع منه، وهو أنّ هذا الشمول ترخيصٌ في المخالفة القطعيّة وهو قبيح، فحكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية، إنّما يكون فعليًّا، على فرض فعليّة الإطلاق لولا هذا الحكم العقليّ، بأن كان لدليل الأصل في رتبة سابقة شمولٌ لتمام الأطراف، لولا حكم العقل، وهذا غير متحقّق، فإنّنا مع غمض النظر عن حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية، ليس لدليل الأصل شمولٌ للطرفين، إذ الطرف الآخر لم يأتِ زمانه، فدليل أصالة البراءة الآن لا يشمل إلا الطرف الفعليّ، وهو أنّه هل أن الدم الموجود اليوم دم حيض أم لا؟ فبما أن المرأة تشكّ في الحيضيّة، فهي تشكّ في التكليف بحرمة التمكين فتجري البراءة. فدليل الأصل، مع غمض النظر عن حكم العقل بقبح الترخيص هو في نفسه لا شمول له، لأنّه إن شمل هذا المصداق الموجود بالفعل، لم يشمل المصداق الآتي لعدم ورود زمانه، وشموله له قبل ورود زمانه لغوٌ لا أثر له. وإذا جاء وقت ذلك الدم، لم يشمل هذا الدم الموجود اليوم، لخروجه عن محلّ الابتلاء، فدليل الأصل في نفسه - مع غمض النظر عن المحذور - لا يشمل كلا الطرفين، فإذا لم يشمل كلا الطرفي، فالنتيجة هي: أنّ محذور قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة منتفٍ بانتفاء موضوعه، فلا مانع من جريان الأصل في المصداق الذي بيده، ومقتضى ذلك عدم منجّزية العلم الإجماليّ.

ويلاحظ على هذا التقريب: أمّا بالنسبة لمسلك العلّيّة، وهو دعوى أنّ منجّزية العلم فرع الفعليّة، فما لم تكن الفعليّة حاضرةً في زمن العلم الإجمالي، فلا منجّزية في ذلك الزمان، فهذا المدّعى نوعٌ من المصادرة، والوجه في ذلك أنّ: المنجّزية، وإن كانت متفرّعة على الفعليَة بلا كلام، ولكنها متفرعة عنها بأي نحو؟ فهل هي متفرعة على الفعلية في زمن العلم؟ أم هي متفرّعة على العلم بالفعليّة، ولو بحسب عمود الزمان؟ فإنّ هذا لا بدّ من تدقيقه، لا أنّ نقول بأنّ المنجّزية متأخّرة عن الفعليّة ونسكت. فما هو المقصود؟ إنّما المقصود أنّ المنجّزية، وهي عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على فرض المخالفة متأخّرة رتبةً عن موضوعها، وموضوع المنجّزية الوصول، فمتى ما وصل تكليفٌ فعليّ، ترتّبت عليه المنجّزية. فإذًا، المنجّزية متأخرة رتبةً عن موضوعها، إلا أنّ موضوعها ليس هو فعليّة التكليف زمن العلم، وإنّما موضوعها وصول تكليفٍ فعليّ، وحيث وصل التكليف الفعلي، لأنّ المرأة تجزم أنّ هناك تكليفًا فعليًّا بحرمة التمكين في هذا الشهر، فحيث وصل تكليف فعليّ، ترتّبت عليه المنجّزية، وهو حكم العقل باستحقاق العقاب على هذا التكليف الواصل في فرض مخالفته.

فلا يعتبَر في حكم العقل بالاستحقاق أن يكون التكليف فعليًّا زمان العلم، فإنّه لا دخل له في حكم العقل بالاستحقاق، وإنّما يكفي وصول تكليف فعليٍّ في ذلك. وأمّا بالنسبة إلى مسلك الاقتضاء، فيُقال بأنّه: تارةً ندّعي أنّ المستفاد من دليل الأصل الترخيصيّ - كدليل أصالة البراءة - أنّ مفاده الترخيص بالفعل، وإن كان المرخَّص فيه استقباليًّا، شبيه بالواجب المعلّق، فبناءً على أنّ المستفاد من دليل الأصل الترخيصيّ هو ذلك، لأنّ موضوع الترخيص الشكّ في التكليف، والشك في التكليف موجود بالفعل، فإنّ المرأة من الآن تشكّ في أنّه يحرم عليها التمكين اليوم أو بعد عشرين يومًا، فالشكّ فعليٌّ في كلا الطرفين.

فبما أنّ موضوع دليل الأصل فعليٌّ، فالترخيص فعليٌّ، وإن كان المرخَّص فيه مستقبليًّا، فبما أنّ الترخيص فعليٌّ في كلا الطرفين، فحينئذٍ يأتي المحذور وهو قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة. فإنّ فعليّة هذا الحكم العقليّ - وهو قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة - فرع فعليّة الترخيص، والترخيص فعليٌّ، لولا هذا الحكم العقليّ.

وأمّا إذا قلنا: إنّ المستفاد من دليل الأصل الترخيصيّ، كدليل أصالة البراءة، الترخيص في ظرف الأثر، وإن كان الشكّ متقدّمًا زمانًا، كمن يشكّ اليوم في أنّه هل هو مكلّفٌ غدًا أم لا؟ فيُقال بأنّ دليل أصالة البراءة لا يشمله الآن، وإن كان شاكًّا بالفعل، إلا أنّه لما كان الأثر لدليل البراءة، وهو إطلاق العنان، إنّما يتحقّق غدًا، فالدليل إنّما يكون فعليًّا غدًا. إذًا فبالنتيجة، دليل الأصل العمليّ - يعني دليل الأصل الترخيصيّ - ليس مفاده الترخيص بالفعل، مع ذلك نقول بأنّ: حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية فعليّ، والسرّ في ذلك أنّه: يكفي في هذا الحكم العقليّ الإطلاق لولا الزمن، بمعنى أنّ دليل الأصل الترخيصيّ كقوله «رُفع عن أمّتي ما لا يعلمون» لولا الزمن، لكان فعليَّ المفاد، فلا يمنع من فعليّة مفاده سوى الزمن، وإلا فهو من تمام الحيثيّات فعليُّ المفاد.

فإذا كان دليل الأصل فعليّ المفاد لولا الزمن، أي أنّ له إطلاقًا لولائيًّا في رتبةٍ سابقة على حكم العقل، فهذا يكفي في حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية، والوجه في ذلك - أي أنّ حكم العقل لا يُقيّد موضوعه بوجود ترخيصٍ فعليٍّ في رتبةٍ سابقة - أنّ الملاك في هذا الحكم العقليّ هو ظلم المولى، فإنّ حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة ظلم المولى، إمّا ظلم المولى بتضييع غرضه اللزوميّ، وإمّا ظلم المولى بعدم المبالاة بخطاباته، ولا فرق في حيثيّة الظلم بين أن يكون الترخيص فعليًّا في رتبة سابقة على هذا الحكم العقليّ أو لم يكن، فإنّ المكلّف إذا أجرى البراءة اليوم عن حرمة التمكين، وأجرى البراءة بعد عشرين يومًا عن حرمة التمكين، فلا إشكال عقلًا في أنّه ظلم المولى، إمّا بتضييع الغرض اللزوميّ، أو بعدم المبالاة بخطاب المولى.

فما دام المناط في هذا الحكم العقليّ - وهو قبح الترخيص في المخالفة القطعية -، ظلم المولى - وهذا المناط متحقّق على كل حال -، كانت الأطراف فعليّةً دفعيّة قبل هذا الحكم العقلي أو لم تكن. إذًا فالنتيجة أنّ: المحذور في جريان الأصل في تمام الأطراف فعليٌّ، وبناءً عليه، فالعلم الإجمالي منجّزٌ، قلنا بمسلك العلّية أو قلنا بمسلك الاقتضاء. يأتي يوم السبت جواب المحقّق العراقي على كلام الشيخ الأعظم، والمناقشة فيه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 142
الدرس 144