نص الشريط
الحلقة 8 | هل هناك ملازمة بين قرار العقل وحكم الشريعة
التاريخ: 12/12/2019 م
مرات العرض: 3454
المدة: 00:42:22
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (271) حجم الملف: 19.4 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال البحث في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وذكرنا في الجلسة السابقة أن الملازمة تارة تكون في حكم العقل العملي وأخرى في مدرك العقل النظري، فهنا مقامان للبحث.

المقام الأول: هل هناك ملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع أم لا؟

والبحث في هذا المقام أيضاً في موردين:

1. في حكم العقل العملي السابق على الحكم، وهو ما يعبر عنه بسلسلة علل الأحكام.

2. وفي حكم العقل العملي الذي هو لاحق للحكم، وهو ما يعبر عنه بسلسلة معلولات الأحكام.

المورد الأول: هل هناك ملازمة بين حكم العقل العملي السابق على الحكم وبين حكم الشارع المقدس أم لا؟

ذكرنا فيما سبق أنه قد يقال: إذا حكم العقلاء بما هم عقلاء بأمر معين فيكتشف من ذلك أن المشرع الأقدس أيضاً حكم على طبق حكمهم، بلحاظ أن المشرع سيد العقلاء فلا يعقل أن لا يحكم على طبق حكمهم وإلا لم يكن عاقلاً.

مثلاً: إذا حكم العقلاء بأن الصدق حسن والكذب قبيح، أو حكم العقلاء بأن تملك الإنسان ظلم قبيح، أي أن الرق ظلم قبيح، فهل هذا يكشف عن حكم شرعي على وفقه أم لا؟

لابد من بيان الفرق بين مدرستين: مدرسة المتكلمين ومدرسة الحكماء، حيث وقع البحث عندهم في أن الحسن والقبح هل هما من الأمور الواقعية أم هما من الأمور الاعتبارية التي اتفق العقلاء عليها لأجل مصالح نظامية؟

ومن أجل توضيح هذه النقطة نتعرض لمثال وهو مثال حفظ النظام.

مثلاً: لا إشكال لدى كلتا المدرستين أن العقل يدرك ضرورة حفظ النظام، والمقصود بضرورة حفظ النظام أن حفظ النظام حسن والإخلال بالنظام قبيح، ولكن تفترق المدرستان في أن حفظ النظام هل هو من الأمور الواقعية أم من الاعتبارات العقلائية؟

فلأجل التوضيح نذكر أولاً مدرسة الحكماء؛ حيث إن الحكماء يقولون: في بداية تكوّن المجتمع البشري أدرك العقلاء أن قتل النفوس وهتك الأعراض وسلب الأموال والحقوق يؤدي إلى تلف الحياة واختلاط الأنساب وضياع الثروات، وهذا المدرك نظري، أدرك العقلاء أن النفوس إذا أُهدرت أو الأموال إذا أُتلفت أو الأعراض إذا هُتك أو الحقوق إذا سُلبت، أدرك العقلاء أن في ذلك خطراً وفسادا لا يمكن تلافيه، ولذلك اتفق العقلاء فيما بينهم على قضية اعتبارية ناشئة عن اتفاقهم - لا أكثر - وهي ضرورة حفظ النظام، فضرورة حفظ النظام نقطة اتفق العقلاء عليها، وليست هي أمراً يدركونه، الذي أدركوه هي العلة، وهو أن في قتل الأنفس أو إهدار الأموال أو هتك الأعراض أو سلب الحقوق، في ذلك خطر، هذا الذي أدركوه بعقولهم، وهو أمر من المدركات، وأما ما يترتب على هذا المدرك فهو قرار عقلائي، العقلاء اتفقوا على هذا القرار وقالوا: لكي نحفظ الحياة على الأرض، لكي نحفظ الأنفس والأعراض والأموال في مجتمعنا العقلائي لابد أن نتخذ هذا القرار، ألا وهو قرار حفظ النظام، والمقصود من قرار حفظ النظام هو أن نتفق على تقبيح من يعتدي على الأنفس أو الأعراض أو الأموال او الحقوق، نحن نتفق على تقبيح ذلك وذمّه، ونتفق على قانون فيما بيننا، على مدح وتحسين من يحافظ على الأنفس والأموال والأعراض، هذه هي مسألة حفظ النظام.

فضرورة حفظ النظام قرار عقلائي اتخذه العقلاء في أول نشوء المجتمعات العقلائية تلافيا لخطر زوال الحياة الاجتماعية على الأرض.

وبالتالي: هذا هو مسلك الحكماء، ليس هناك واقع فيه يحسن حفظ النظام، وليس هناك واقع فيه يقبح الإخلال بالنظام، هذا مجرد قرار عقلائي، نعم هذا القرار العقلائي نشأ عن إدراكهم أن في قتل الأنفس أو هدر الأموال أو هتك الأعراض خطراً، أي زوال للحياة الاجتماعية على الأرض. هذا هو مسلك الحكماء.

في المقابل مسلك المتكلمين، وذهب إليه أكثر فقهائنا، إلى أن المسألة ليست مسألة قرار عقلائي، بل هناك واقعية يدركها العقل ولو كان وحده، هناك أمر واقعي يدركه العقل ولو كان وحده، وليست المسألة مسألة قرار عقلائي.

بمعنى أن العقل لو خُلّي وحده وبفطرته لأدرك أن الظلم قبيح، قرر العقلاء ذلك أم لم يقرروا، العقل يدرك وحده أن الأمانة حسنة والخيانة قبيحة والصدق حسن والكذب قبيح، قرر العقلاء ذلك أم لم يقرروا، كما يدرك العقل وحده استحالة اجتماع النقيضين وأن الواحد نصف الاثنين وأن الكل أعظم من الجزء يدرك العقل وحده أن الأمانة حسنة والخيانة قبيحة، أن الظلم قبيح والعدل حسن، هذا مما يدركه العقل الفطري بنفسه بغض النظر عن قرار العقلاء، لذلك العقل الفطري وحده يدرك أن حفظ النظام حسن وأن الإخلال بالنظام قبيح، بغض النظر عن وجود قرار عقلائي بذلك.

إذاً: بين المدرستين نزاع في أن الحسن والقبح هل هما أمر واقعي يدركهما العقل كما يدرك استحالة اجتماع النقيضين وأن الكل أعظم من الجزء أم أن الحسن والقبح قرار عقلائي اتخذه العقلاء تلافياً لخطر انقراض الحياة الاجتماعية على الأرض؟

إذاً: لدينا مدرستان في الحسن والقبح، وبناء على كلتا المدرستين في الحسن والقبح هل هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع أم لا؟

قرر علماؤنا في علم الأصول عدم الملازمة بين حكم العقل العملي وبين الشرع، وذلك لعدة ملاحظات، ذكرنا في الجلسة السابقة المناقشة الأولى.

المناقشة الثانية: أننا إذا بنينا على أن الحسن والقبح من الأمور الواقعية التي يدركها العقل فلا ملازمة بين إدراكات العقلاء وبين اعتبارات الشارع، ليس الأمران من سنخ واحد حتى يكون بينهما ملازمة.

إذا أدرك العقلاء حسن الصدق أو قبح الكذب فهذا مجرد إدراك، ولا ملازمة بين هذا الإدراك وبين أن يتصدى المشرع لاعتبار وجوب الصدق وحرمة الكذب.

حرمة الكذب ووجوب الصدق من عالم الاعتبار ومقولة الاعتبار بينما الحسن والقبح - على مدرسة المتكلمين - من الأمور الواقعية المدركة، ولا ملازمة بين الأمرين، ليس الأمران من باب واحد كي تكون بينهما علية أو معلولية أو يكونا معلولين لعلة واحدة، لا توجد أي ملازمة بين الأمرين.

فلنفترض أن العقلاء بما هم عقلاء أدركوا الحسن والقبح، هذا لا يستلزم أن يحكم الشارع ويصدر اعتباراً بوجوب الصدق أو حرمة الكذب، لا ملازمة بين الأمرين إطلاقاً.

هذا إذا قلنا بأن الحسن والقبح من الأمور الواقعية.

وأما إذا قلنا بأن الحسن والقبح من الأمور الاعتبارية، يعني أن العقلاء اتفقوا على اعتبار فيما بينهم أن نمدح العادل ونذم الظالم ونحسّن فعل العادل ونقبّح فعل الظالم، فهل هناك ملازمة بين هذا الاعتبار العقلائي وبين اعتبار المشرع وجوب العدل وحرمة الظلم أم لا؟

قالوا أيضاً لا ملازمة. لماذا؟

قالوا: إما أن الغرض والهدف المحرك للعقلاء نحو هذا القرار هو نفس الغرض لدى المشرع أو أن لدى المشرع غرضا أوسع وأكبر من هذا الغرض الذي عند العقلاء؟

هل الهدف الذي أصبح محركاً للعقلاء نحو قرارهم بحسن العدل وقبح الظلم نفس الهدف تماما وبدرجته وبرتبته يحرك الشارع أن يوجب العدل ويحرم الظلم؟

إذا كان نفسه فلا حاجة لأن يصدر الشارع وجوب العدل وحرمة الظلم ما دام الهدف الذي يريد أن يصل إليه المشرع نفس الغرض المحرك للعقلاء نحو الحسن والقبح، إذا كان هذا هو الغرض فقد حرك هذا الغرض العقلاء واتخذوا قراراً على ضوئه فلا حاجة لأن يصدر الشارع وجوباً أو حرمة ما دام غرضه قد تحقق بنفس قرار العقلاء.

أما إذا قلتم: هناك غرض وهدف للمشرّع أكبر من مجرد الغرض الذي أدركه العقلاء فيجب على المشرع أن يصدر وجوباً أو حرمة؛ لأن لديه غرضاً لزومياً لم يصل إليه العقلاء، فهنا لابد للشارع أن يبيّنه؛ لأن العقلاء لا يدركون هذا الغرض، فأين الملازمة؟!

إذاً: حتى لو قلنا بأن الحسن والقبح قرار عقلائي، إما هذا القرار العقلائي ناشئ عن غرض هو نفس غرض الشارع فلا حاجة لأن يصدر الشارع شيئاً، وإما غرض أكبر من ذلك فلابد أن يبينه الشارع وحيث لم يبين نكتشف عدم وجود غرض آخر غير ما أدركه العقلاء واتخذوا قراراً على ضوئه.

إذاً: لا توجد ملازمة عقلية بين قرار العقلاء بشيء وقرار المشرع بما هو مشرع بوجوب ذلك الشيء أو بحرمته.

المناقشة الثالثة: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره، وهو تطور للمناقشة السابقة.

إن حكم المشرع بما هو مشرع على طبق القرار العقلائي لغو، وليس مجرد أن العقل لا يحكم بالملازمة، بل العقل يحكم بعدمها.

في المناقشة السابقة قلنا لا يحكم العقل بالملازمة ولا داعي لأن يحكم المشرع، يعني لا نرى ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بينما المحقق الإصفهاني يقول ليست المسألة أننا لا ندرك الملازمة، بل نحن ندرك بعقولنا أن من اللغو أن يصدر الشارع قراراً على طبق قرار العقلاء.

والوجه في ذلك: دائماً أحكام الشرع لا محرك لإطاعتها إلا العقل، يعني لو غلّفنا العقل وألغينا أحكامه لم يكن هناك محرك لإطاعة الشرع إطلاقاً.

إذا أصدر الشرع حكماً وقال يجب الحج والصوم ويحرم عقوق الوالدين والغيبة، فما هو المحرك لنا نحو إطاعة وامتثال هذا الحكم الصادر من الشارع؟

المحرك هو حكم العقل بوجوب إطاعة المشرّع، حكم العقل بضرورة الطاعة وقبح المعصية، ولو لم يكن للعقل هذا الحكم لما كان حكم الشارع محركاً.

إذاً: محركية حكم الشارع مكتسبة من العقل، الشارع اكتسب المحركية لأحكامه من حكم العقل، إذ لولا حكم العقل لم يكن هناك محرك لامتثال أحكام الشارع، فإذا كانت أحكام الشرع اكتسبت محركيتها وفاعليتها من حكم العقل إذاً صار المحور الأساس هو حكم العقل، فإذا كان المحور الأساس حكم العقل - إذ لولاه لم يكن حكم الشارع محركاً - بالنتيجة نرجع فنقول إذا حكم العقل بأن الظلم قبيح والخيانة قبيحة لو جاء الشارع وقال أنا أحكم على طبق حكم العقل وأقول بأن الخيانة حرام، فما هو المحرك لامتثال حكم الشارع الآن؟

هو نفس حكم العقل، فنكون رجعنا إلى حكم العقل، نحن وسّطنا حكم الشارع لكن بالنتيجة رجعنا إلى حكم العقل.

فإذا كان المحور في المحركية والفاعلية هو حكم العقل إذاً إما أن نعوّل على حكم العقل فلا حاجة لحكم الشرع وإما لا نعوّل عليه فلا يفيد حكم الشرع في المحركية، إما أن نكتفي بحكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل فلا حاجة لحكم الشرع، وإما أن لا نكتفي به فألف حكم من الشرع لن يكون محركاً، ما دام المحرك هو حكم العقل لو يصدر من الشرع مليون مرة حكم بحرمة الظلم ووجوب العدل فإنه لن يصبح محركاً ما دمنا ألغينا حكم العقل.

إذاً: حكم العقل على طبق حكم الشرع لغو؛ لأن الشارع ما حكم بهذا الحكم إلا لأجل المحركية، فإذا كانت المحركية مستفادة من حكم العقل فلا حاجة لحكم الشرع، فإما أن يُكتفى بمحركية حكم العقل فحكم الشرع لغو، وإما أن لا يكتفى بها فألف حكم شرعي لن يكون محركاً.

هذا هو معنى اللغوية التي بنى عليها المحقق الإصفهاني قدس سره.

ونحن في الجلسة السابقة تحدثنا عن هذه النقطة وقلنا بأن المحرك لامتثال أحكام الشارع لا ينحصر في حكم العقل بالقبح، أي بلزوم الطاعة وقبح المعصية، ودخلنا في مسألة دفع الضرر المحتمل وفصّلنا في أنه عقلي أو فطري، فهذا يُرجع فيه إلى الجلسة السابقة.

هذا كله بالنسبة إلى الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع في سلسلة علل الأحكام.

المورد الثاني: الملازمة في سلسلة معاليل الأحكام.

يعني الأحكام العقلية اللاحقة لحكم الشرع، كما مثّلنا وقلنا بأن الشرع يحكم بوجوب الصلاة والصوم والحج، وفي إثر وطول حكم الشرع يحكم العقل - بناء على ثبوت الملازمة - بأن للمولى حق الطاعة وأن إطاعة المولى حسنة وأن مخالفة المولى قبيحة، بل أن إطاعة المولى عدل ومخالفة المولى ظلم، بناء على أن العقل يحكم في طول حكم الشرع.

هذا الحكم العقلي هل يمكن أن يحكم الشرع على طبقه مرة أخرى؟ الشرع قال وجبت الصلاة فحكم العقل بوجوب الطاعة، هل يحكم الشرع على طبق حكم العقل فيقول ويجب الطاعة شرعاً؟ هل يحكم الشرع على طبق حكم العقل الذي هو في سلسلة معلولات الأحكام وفي رتبة متأخرة عن الحكم الشرعي؟

هنا أيضا يقول المحقق الإصفهاني هذا لغو، بنفس العلة:

إما أن حكم العقل يكفي في المحركية أو لا يكفي، مثلاً قال الشارع المقدس تجب الصلاة، والعقل قال تجب إطاعة المولى، فإما أن هذا الحكم العقلي «وجوب إطاعة المولى» كافٍ في المحركية أو ليس كافياً، إذا كان كافياً في المحركية، إذاً حكم الشرع بوجوب الإطاعة لغو؛ لأن حكم العقل كافٍ في المحركية، وإذا لم يكن كافياً في المحركية فلو قال الشارع مليار مرة يجب إطاعتي لن يكون محركاً ما دمنا ألغينا حكم العقل بالمحركية.

إذاً: إما أن نكتفي بحكم العقل بالمحركية فحكم الشارع لغو، وإما أن لا نكتفي به فمليون مرة الشرع يقول يجب إطاعتي لن يكون محركاً.

فحكم الشرع على طبق حكم العقل الذي هو في مرتبة معلولات الأحكام أيضاً لغو.

نعم، إذا كان بداعي التأكيد أو بداعي الإرشاد فلا مانع منه، لِمَ؟

لأن الأصوليين عرّفوا الحكم الشرعي بأنه الإنشاء بداعي جعل الداعي، الدواعي مختلفة، الشارع عندما يقول يجب، لماذا يقول يجب؟ بأي داعي؟ إذا كان بداعي المحركية فالمحركية حاصلة من قِبل العقل، وإذا كان قوله «يجب» لا بداعي جعل الداعي، يعني لا بداعي المحركية وإنما بداعي تأكيد حكم العقل أو بداعي الإرشاد إلى حكم العقل فلا مانع من ذلك، هذا يسمى حكماً إرشادياً مؤكداً، مثل ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.

هذا كله في الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع.

المقام الثاني: الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشرع.

أيضاً بحث الملازمة بين مدرك العقل النظري وبين حكم الشرع له موردان:

1. في غير المستقلات العقلية.

2. في المستقلات العقلية.

المورد الأول: في غير المستقلات العقلية.

المشرع يقول يجب الحج على كل مكلف مستطيع، العقل النظري يدرك أن امتثال هذا الأمر يتوقف على مقدمة، ألا وهي السفر إلى مواطن الحج.

هذا مدرك للعقل النظري، ولأن العقل النظري يدرك أن امتثال الأمر بالحج يتوقف على مقدمة وهي السفر، نفس العقل النظري أيضاً يدرك لابدّية هذه المقدمة، هل هنا يحكم الشرع على طبق إدراك العقل؟

نقول هنا لا معنى لذلك؛ لأن الشرع عاقل، فهو كالعقل لن يزيد عليه، المقدمية أمر واقعي، مقدمية السفر لعمل يتوقف على السفر أمر واقعي لا معنى لأن يحكم الشارع به، لا معنى لأن يقول الشارع أنا أيضاً أحكم بالمقدمية، هذا لا معنى له.

الشارع من شأنه أن يحكم بالوجوب والحرمة لا بالمقدمية، المقدمية أمر واقعي انتزاعي لا معنى لأن يحكم بها الشرع، فلا معنى للملازمة هنا بين مدرك العقل النظري وبين حكم الشرع؛ لأن مدرك العقل النظري في غير المستقلات العقلية هو أمر واقعي، وبما أنه أمر واقعي فالشرع يدركه كما يدركه العقل؛ لأن الشرع عاقل، ولا معنى لأن يحكم به لأنه من الأمور الواقعية التي لا تتعلق بها الأحكام، لا يتعلق بها الاعتبار.

المورد الثاني: المستقلات العقلية.

إذا أدرك العقل النظري علة من العلل، هل يدرك أن الشرع حكم على طبق هذه العلة أم لا؟

نذكر أمثلة تثار الآن في بحوث كثير من الأقلام هذه الأمثلة، وعلى أساسها نقرر.

مثلاً: يقولون الآن في زماننا كل العقول - بما آتاها الله من قوة وذكاء - تدرك أن للمخترع حقاً يسمى حق البراءة، العقول - بما هي عقول - متطابقة على هذا المُدرَك.

إذا أدرك العقل النظري على نحو البت والجزم أن في الاختراع ملاكاً يقتضي ثبوت حق وهو حق البراءة فهل يدرك أن الشرع أيضاً يحكم على طبقه أم لا؟

العقل النظري أدرك بنحو الجزم أن في الاختراع ملاكاً ومصلحة تقتضي ثبوت حق البراءة، فهل يكتشف أيضاً أن الشرع يوافقه في ذلك أم لا؟ هذا ما يُعبّر عنه بالدليل اللّمي.

كان بحثنا - في الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع - يسمى الدليل الإني، والآن نبحث عن الدليل اللمي.

الدليل الإني: يعني البحث عن المتلازمين.

حكم العقل بحسن الأمانة وقبح الخيانة، هل حكم العقل بذلك يلزمه حكم الشرع؟

هذا عبرنا عنه بالدليل الإني، والآن نحن في الدليل اللمي.

الدليل اللمي: الانتقال من العلة إلى المعلول.

إذا أدرك العقل ملاكاً للحكم فهل يدرك أن الشارع يحكم على طبق هذا الملاك أم لا؟ أدرك العلة فهل يدرك المعلول أم لا؟

نقول: أيضاً هنا صورتان للبحث:

الصورة الأولى: أن يدرك العقل الاقتضاء.

يعني يدرك الملاك على نحو الاقتضاء، لا على نحو العلية التامة.

مثلاً: يقال في زماننا جميع العقلاء بما هم عقلاء يدركون على نحو البت والجزم أن في التمييز بين الرجل والمرأة في دية القتل مفسدة، يقولون ما هو الفرق بين خسارة الرجل وخسارة المرأة؟! إذا خسرت الأسرة رجلاً تعوضوهم دية كاملة، بينما لو خسرت الأسرة امرأة ليس لها إلا نصف الدية، ما هو الفرق؟!

العقلاء يدركون بعقولهم النظرية أن الملاك الذي اقتضى أن تُعوض الأسرة عن خسارتها عندما يُقتل رجل منها بدية كاملة هو نفس الملاك الذي يقتضي أن تُعوض الأسرة عن خسارتها عندما تُقتَل امرأة منها بدية كاملة، العقلاء يقولون الملاك هو الملاك وأن المقتضي هو المقتضي، وأنه من حق الأسرة أن تعوّض بدية كاملة عند فقد المرأة كما أن من حقها أن تعوض بدية كاملة عند فقد الرجل، وهذا من مدركات العقل النظري الجزمي.

هل العقلاء يدركون أن هذا علة تامة أو على سبيل الاقتضاء؟ يعني أن خسارة فقد المرأة كخسارة فقد الرجل من حيث الاقتضاء، لكن لعل للشارع موانع تمنع من جعل دية كاملة في قتل المرأة أدركها ونحن لم ندركها، نحن أدركنا المقتضي لكن لم ندرك عدم وجود المانع، لعل هناك موانع.

إذا كان الإدراك على مستوى الاقتضاء نقول: نعم، لا يجب أن يحكم الشرع على طبق إدراككم، أدركتم المقتضي لكن لعل هناك موانع تمنع الشرع من أن يحكم على طبق هذا الحكم العقلي.

إذاً بالنتيجة: هنا لا توجد ملازمة بين إدراك العقل النظري وبين حكم الشرع؛ لاحتمال وجود المانع.

الصورة الثانية: أن يدرك العقل العلية التامة.

إذا قال العقل لا يوجد عندي أي احتمال - ولا واحد بالترليون - لوجود مانع أو شرط، أنا أدرك بأن في الاختراع حقاً على نحو العلية التامة - ومعنى أنني أدركه على نحو العلية التامة هو أنني أدرك أن الشارع يحكم عليه، إذا أدركت العلة التامة أدركت المعلول على نحو الجزم واليقين، هذا معنى الدليل اللّمي، لا يعقل التفكيك بينهما في مقام الإدراك - إذا أدركت أن في الاختراع حقاً على نحو العلية التامة لحكم أي حاكم حتى لو كان هو الله عز وجل، في الاختراع حق يقتضي الحكم على طبقه، هذه علة تامة عندي لا أحتمل وجود المانع، لا أحتمل توقف المسألة على شرط آخر، هنا هل توجد ملازمة بين مدرك العقل النظري وحكم الشرع أم لا؟

هنا نظريتان:

النظرية الأولى: وهي المعروفة عند الأصوليين.

إذا أدركت العلة التامة أدركت المعلول، إذا أدركت على نحو الجزم والبت أن الملاك لحكم أي مقنن وضعاً أو شرعاً هو أن في الاختراع حقاً فقد أدركت حكم الشرع، وهذا ما بحثه الأصوليون في حجية القطع، هذا معنى حجية القطع، في أول بحث الحجج يبحثونه.

عندما يقول الأصوليون: طريقية القطع ذاتية وحجيته عقلية، فالطريقية ذاتية، عبروا عنها بأن القاطع لا يرى إلا الواقع، يعني كاشفية القطع عن متعلقه من ذاتيات القطع، بل هي عين القطع وليست شيئاً آخر، طريقية القطع ذاتية وحجيته بمعنى أن يكون هذا القطع منجزاً أو معذراً عقلية؛ لأن القاطع متى ما أدرك شيئاً أدرك أنه منجز في حقه أو معذر في حقه، فهي عقلية، وبالتالي لا يمكن أن يحكم الشرع على خلاف حكم العقل ولا يمكن أن يردع عنه؛ لأنه حكم قطعي جزمي، وهذا لا كلام فيه.

النظرية الثانية: نظرية المحقق الإصفهاني.

قال هذا لا يكفي، حتى لو أدرك العقل على نحو العلة التامة لصدور قانون من أي مقنن، شارع أو فارع، مع ذلك لا يجب أن يحكم الشرع على طبقه.

لماذا؟

نؤجل هذه النظرية إلى الجلسة القادمة لأنها تحتاج إلى بيان وتوضيح وتدقيق، وكلمات المحقق الإصفهاني دائماً تحتاج إلى التوضيح والتدقيق.

والحمد لله رب العالمين

الحلقة 7 | علاقة الإنسان بالرب، صياغة وَتحليل
الحلقة 9 | قاعدة اللطف في الميزان