نص الشريط
الدرس 4 | كثرة الأفكار في وحدتها في رؤية الملا صدرا
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 10/4/1442 هـ
مرات العرض: 3792
المدة: 00:41:59
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (287) حجم الملف: 12.0 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [النحل: 78]

صدق الله العلي العظيم.

وصل الكلام إلى المناقشة الثانية لدليل الملا صدرا، وعندنا عدّة محاور:

المحور الأول: في المناقشة الثانية للدليل الذي أقامه الملا صدرا الشيرازي لنفي النظرية العقلية.

المناقشة الثانية هي ما ذكره السيد الطباطبائي «رح» في كتابه نهاية الحكمة [1] ، ومحصل ما ذكر هو ”أن المفيض لهذه الصور ليس هو النفس، وليس هو الحس، بل المفيض هو جوهر مفارق للنفس“. لماذا اتجه السيد الطباطبائي لهذا الاتجاه مع أن هذه النظرية قديمة جدا، وتبتني على ما يعبرون عنه بالعقول عشرة؟ وهي - النظرية - أن الله تبارك وتعالى خلق عقولا عشرة، وكل عقل أبدع بمجموعة من الموجودات والمخلوقات، والعقل العاشر هو العقل الفعال والذي هو أقرب العقول لعالم المادة. والذي يهمنا هو النكتة التي جعلت السيد الطباطبائي يذهب لذلك، فالسيد الطباطبائي يقول: هذه الصورة «صورة الشمس، صورة القمر، صورة أمي، صورة أبي، صورة الوجدان كـ «الحب والبغض»، وصور القضايا العامة كـ «النقيضان لا يجتمعان» و«لكل معلول علة» قطعا موجودة في النفس، أي أنّ النفس قابلة لها، فالنفس مرآة وصفحة بيضاء قد ارتسمت فيها هذه الصور، وهذا لا إشكال فيه، فبالوجدان نجد أن هذه الصور مرتسمة في أفق النفس، وأن النفس كمرآة صافية استقبلت جميع هذه الصور، فهذا بالوجدان نحكم به.

إذا كانت النفس قابلا لهذه الصور فلا يُعقل أن تكون فاعلا، إذ لا يعقل أن يكون الشيء قابلا وفاعلا في آن واحد لشيء واحد، أنا الفاعل وأنا المنفعل، كيف؟! فلا يعقل أن يكون الإنسان هو مصدر الحرارة، وهو المتأثر بالحرارة، ولا يُعقل أن تكون النار مَصدر الحرارة وهي المُنفعلة بالحرارة، ولا يُعقل أن يكون الشيء الواحد فاعلا - أي مستغنيا - ومنفعلا بالنسبة لشيء واحد.

إذن ما دامت النفس منفعلة بالصور لأنها قبلت ارتسام الصور في أفقها فلا يُعقل أن تكون النفس فاعلا لهذه الصور ومفيضاً لها، إذن لابد أن نبحث عن مفيض آخر غير النفس.

هنا السيد الطباطبائي «رح» لم يحل المشكلة، وإنما يريد أن يناقش رأي الملا صدرا، فالمدرسة العقلية تُقرر أن هذه الصور مستمدة من داخل النفس، فالملا صدرا ناقشهم في ذلك وقال أنه لا يمكن أن تكون هذه الصور مستمدة من داخل النفس، بل لابد أن نفصل بين المادة والصورة، فمادة هذه الصور جاءت من الخارج، والنفس صنعت صورا لها فقط.

فالسيد الطباطبائي ماذا يريد أن يقول؟ يريد أن يقول بأن كلمة «النفس صنعت هذه الصور» ممنوع، فهو يقول أنا لا أدافع عن النظرية العقلية الآن؛ ولكن ما ذكره الملا صدرا - أن النفس استقبلت المادة وصنعت الهيئة والشكل والصورة - ممنوع، فإن النفس لا تصنع، لأن النفس هي القابل والمرآة، فهل يُعقل أن تكون المرآة تصنع الصور وتقبل الصور؟! لا يعقل، وكذلك لا يعقل أن تكون النفس مفيضا لهذه الصور، سواء كانت صورا متخيلة أو كانت صورا معقولة، أو كانت صورا حسية، فلا يعقل أن تكون النفس صانعا ومصدرا لهذه الصور.

إذن، من أين جاءت هذه الصور؟ يقول من العقل الفعّال، وهو عقل مجرد خلقه الله، فإن كانت الصور كلية - كلي النار، كلي الإنسان - فالمفيض لها جوهر مجرد يُعبر عنه بالعقل الفاعل، وإن كانت الصور جزئية - صورة أمي، صورة أبي، صورة ابني - فالمفيض لهذه الصور جوهر مثالي، والمهم أن المفيض جوهر خارج النفس.

هنا نحن في دعم وتأييد نظرية الملا صدرا من أن النفس تصنع الصور نذكر بحثا مهما يترتب عليه بحوث آتية، وقد أشار لهذا البحث جملة من أهل الحكمة، وهذا ما جعلناه في المحاور محورا ثانيا.

المحور الثاني: في بيان وحدة النفس وقواها.

يقول الملا هادي السبزواري صاحب المنظومة في الفلسفة:

النَّفْسُ في وَحْدَتِهِ كُلُّ الْقُوى   وَفِعْلُها  في فِعْلِهِ قَدْ iiانْطَوى

هذا يجرنا إلى بحث تعرض إليه الملا صدرا في الأسفار[2] ، فنحن لدينا نفس وهذه النفس لديها قوى كالقوى حسيّة - كاللمس، والذوق، والشم، والسمع، والبصر - تلتقط الأشياء المحسوسة، وعندنا قوى داخلية - المشاعر، الغرائز، القوة المتخيلة، القوة المفكرة، القوة الواهمة - فالنفس لها قوى داخلية وقوى خارجية.

أفعال هذه القوى، فعندما ألمس هذا الجسم وأشعر ببرودته، فإن هذا اللمس فِعْلٌ لمن؟ هل هو فعل لحاسة اللمس عندي فهو فعل لليد؟ أم هو فعل للنفس التي وراء اليد؟ أو هو مجرد كاشف عن أن النفس في كمالاتها لها تجليات، ومن تجلياتها ما نراه باللمس والشم والذوق وغير ذلك؟

حتى أوضح البحث: الآن نحن عندنا طاقة كهربائية، وهذه الطاقة تُشَغِّلُ المكينةَ، وهذه المكينة تَحلق، فهل عملية الحلاقة فعل للمكينة أم هي فعل لنفس الطاقة الكهربائية؟ فالذي حلق شعري هو الطاقة الكهربائية إنما الطاقة الكهربائية استخدمت آلة وهي المكينة وحلقت شعري، نعم عُرْفاً نقول المكينة، فهل أن الفعل ينتسب حقيقة لمكينة الحلاقة أم للطاقة الكهربائية التي استخدمت الآلة وهي مكينة الحلاقة لتحقيق الحلاقة؟ هل أن نسبة الطاقة الكهربائية مثل النسبة الحلاق للحلاقة؟ فالآن الحلاق يأخذ المكينة ويحلق، فقطعا الحلاقة فعل للمكينة وليست فعلا للحلاق، فالحلاق مجرد مستخدم، فهل نسبة الطاقة الكهربائية للحلاقة كنسبة الحلاق للحلاقة أم أن بينهما اختلاف؟ عند التدقيق نقول أن بينهما اختلاف، فالشخص الذي يمسك المكينة ويقوم بالحلاقة فإن الحلاقة لسيت فعلا له، وإنما الحلاقة فعل للآلة وهو مجرد مستخدم لا أكثر، أما الطاقة الكهربائية هي التي حلقت، فالفعل فعلها، والأثر أثرها، وإنما هذه الآلة مجرد واسطة لتسرية فعلها إلى جسمك.

كذلك في النفس، فعندما أقوم باللمس، أو الإبصار، أو الشم، فهل اللمس فعل ليدي وحاسة اللمس عندي وأما النفس مجرد مستخدم مثلها مثل الحلاق الذي أمسك المكينة؟ أم أن هذا اللمس فعل للنفس نفسها، فالنفس وصلت إلى هذا الجسم عبر حاسة اللمس وإلا الفعل فعل للنفس كنسبة الطاقة الكهربائية إلى عملية الحلاقة؟

من هنا الملا صدرا الشيرازي ذكر أمرين في هذا البحث:

الملا صدرا: قال أنا أتبنى هذه النظرية «أن كل الأفعال فعل للنفس والحواس الداخلية والخارجية ما هي إلا آلات من خلالها تصل النفس إلى هذ الأفعال»، فالنفس هي التي تمشي، والنفس هي تلمس، ولهذا تقول: أنا آكل، أنا أمشي، ولا تقول يدي هي التي فعلت، بل أنا الذي أتحرك، وأنا الذي أفكر، وأنا الذي أستنتج، وأنا الذي أبرم، فهذه أفعال للنفس «النفس في وحدته كل القوى»، فبما أن النفس جوهر يجمع هذه القوى كلها الداخلية والخارجية، فالنفس جوهر وَحَّدَ القوى في وعائه:

النَّفْسُ    في    وَحْدَتِهِ   كُلُّ   iiالْقُوى   وَفِعْلُها[3]  في فِعْلِهِ [4]  قَدْ انْطَوى

وبعبارة أخرى هذا مظهر وجوهر فقط، فتقول هذا الفعل فعل اليد، فهذا مظهر، ولكن حقيقة الفعل أنه فعل النفس.

يذكر الملا صدرا أمرين:

الأمر الأول: ما الدليل على أن النفس هي التي تفعل؟

يقول الآن لما نأتي إلى المدركات فإننا نرى أن النفس تحكم بين المدركات، فمثلا: لما أقول «رائحة الوردة الفلانية لها لذة شبيهة بلذة حبّي لأمي»، فهنا أقرن بين صورتين من عالمين، هذه لذة حسيّة وهذه لذة وجدانية مختلفة، إلا أنني أقرن بينهما فأقول «لذة رائحة الورد كلذة حبي لأمي»، فإن هذه القضية جَمعت طرفين وحكم، الطرف الأول حسي، والطرف الثاني شعوري، والطرف الثالث الحكم بينهما على أن هذا كهذا، والحاكم لا يستطيع أن يحكم إلا بعد أن يحضر عنده الطرفان، فلو لا أن النفس أدركت الطرف الأول - الحسي - وأدركت الطرف الثاني - الوجداني - لما حكمت بأن هذا كهذا، فالنفس هي أدركت الأول، والنفس هي أدركت الثاني، وهي اعتلت وحكمت بينهما.

فهذا عندما يتأمل فيه الإنسان بالوجدان يرى أن الحس الذي أدرك رائحة الورد هو مجرد آلة، والحس الداخلي الذي أدرك لذة حب الأم هو مجرد آلة؛ لأن النفس لا يمكن أن تحكم بينهما لولا حضورهما لديها، فالنفس هي التي قامت بالأول، وهي التي قامت بالثاني، وهي التي حكمت بينهما.

الأمر الثاني[5] : الملا صدرا يطرح سؤالا ويجيب عنه، فيقول: " إن قلت: لازم كلامكم - أن النفس هي التي تحس، وهي التي تتخيل، وهي التي تتعقل، وهي التي تتحرك على الأرض وتمشي، وهي التي تدرك المجردات، وهي التي تدرك الماديات - أن النفس هي حس وهي خيال وهي عقل وهي مجرد، وهي مادي في آن واحد. فيقول: نعم، النفس لها مراتب وجودية، وهي تعيش حركة استكمال من المرتبة الأدنى إلى المرتبة الأعلى، وإذا وصلت إلى المرتبة الأعلى صارت الرأس وسيطرت على المراتب، فمن حصل على الموقع الأعلى فمن الطبيعي أن المواقع الأدنى تحت سيطرته وحكومته، لذلك هذه النفس عبرت من المرتبة المعدنية عندما كانت مجرد قطعة لحم في رحم الأم، وعبرت إلى النفس النباتية عندما تحولت إلى جسم ينمو كالنبات، ثم عبرت إلى النفس الحيوانية عندما امتلكت الإحساس والإرادة، إلى أن وصلت إلى المرتبة الأشرف وهي المرتبة الإنسانية «العقل والتفكير»، فلما وصلت إلى المرتبة الأشرف سيطرت على سائر المراتب، فهي تُحرك الجسم، وتحس، وتفكر، وتتخيل، وتتوهم، وإلى غير ذلك من الأفعال، وهو ما يعبر عنه في كلماتهم «قوس النزول» و«قوس الصعود»، فالإنسان يعيش هذه الحركة، فتارة ينزل إلى أدنى مستوى من مستوياته، فهو ينزل إلى أدنى مستوى من مستوياته عندما يصبح شهوة محضة، وتارة يعلو إلى أسمى مستوى من مستوياته عندما يفكر في القضايا الكلية للعالم الإنساني، فذاك الذي وصل إلى أدنى مستوى بحيث صار شهوة حقيرة هو نفسه يصعد إلى أعلى مستوى عقل يُنظِّم للبشرية حركتها ومسارها؛ لأن النفس في أعلى المراتب تسيطر على سائر مراتب وجودها وتعيش المسارين «قوس الصعود» و«قوس النزول».

الآن وصلنا إلى النتيجة والتي هي غرضنا من هذا البحث الذي طرحناه وهو ثلاث نظريات:

  • الوَحْدَة: فعل القوى هو فعل النفس.
  • الافتراق: فعل القوى منتسب إليها والنفس مجرد مستخدم.
  • التجلي: والتجلي طرحه بعض الفلاسفة وقال أن النفس لا يمكن أن نصل إليها، فالنفس جوهر كامل في عالم خاص يتجلى لنا ذلك الجوهر من خلال هذه الأفعال، فهذه الأفعال ظواهر تتحدث عن ذلك الجوهر المعبر عنه بالنفس الكاملة «التجليات»، وكيف أن كثيرا من المتكلمين يقول أن الخلق تجلي لله عز وجل، فهذا الكون بأكمله تجلي لله، فهذا أيضا يقول هذه الأفعال التي نراها هي تجلي لتلك النفس وهي في وعائها وفي مرتبة كمالها.

نحن الآن نقول بناء على نظرية الملا صدرا الشيرازي - النفس في وحدته كل القوى - تأتي المناقشة مع السيد الطباطبائي الذي قال أن المفيض للصور خارج النفس، أما ملا صدرا يقول أن النفس هي فاعل وهي قابل، وهي تملك كل هذه الإمكانيات الكبرى، فهي الفاعل وهي القابل؛ لأنها قوى تستخدمها النفس، فالنفس نفسها في مرتبة من مراتب وجودها تأخذ المادة من الحس، وتبدأ باستخدام القوة المتخيلة عندها فتصنع الصور، وهنا يكون دور النفس دور الفاعل من خلال القوة المتخيلة عندها ثم تأخذ هذه الصور وتودعها في القوة الحافظة وهي قوة أخرى عندها، وهنا تكون النفس «قابل»، فهي الفاعل بلحاظ وهي «القابل» بلحاظ آخر، فهي الفاعل في القوة المتخيلة، وهي القابل في القوة الحافظة والذاكرة ولا مانع من ذلك، وذلك نظير أن الإنسان يذكر شيئا مؤلماً للغير وهو مؤلم للنفس، فهو مصدر الألم وهو المستقبل للألم في آن واحد، فهي فاعل وقابل.

إذن هذا الإيراد الذي تبناه السيد الطباطبائي «طاب ثراه» محل تأمل بلحاظ نظرية «النفس في وحدته كل القوى».

المحور الثالث: الدليل الثاني لنفي النظرية العقلية.

الدليل الثاني: نذهب إلى أصول الفلسفة [6]  حيث يذكر هناك في هذا المجال فيقول[7]  ما هو محصله: لا يمكن للذهن أن يتصور الكليات - ككلي الامتداد وكلي الحركة وكلي المكان وكلي الزمان - من دون انتزاع لها من الحس، لماذا؟ هذا الدليل له خطوتان:

الخطوة الأولى: إثبات أصل الارتباط.

نأتي ونمثل بمثال «الإنسان»، فأدركت أخي، وأدركت ولدي، وأدركت صديقي، وأدركت أبي، أدركت هؤلاء الأربعة، وكل واحد من هؤلاء الأربعة جزئي. بعد أن أدركت هذه الجزئيات أخذت نقطة كلية «حبيبي»، فأخي حبيبي، وأبي حبيبي، ولدي حبيبي، صديقي حبيبي، فانتزعت من هؤلاء الأربعة عنوان كلي وهو عنوان «الحبيب عندي» أو «الحبيب في قلبي» فهو عنوان كلي.

هذا العنوان الكلي، هل هو منتزع من الجزئيات؟ فجمَّعْتُ الجزئيات وقمت بعملية التقشير كما تقشر الفاكهة فيزال القشر عنها، كذلك هنا قمت بعملية التقشير والتجريد فنزعت صفة «الأخ، الأب، الولد، الصديق»، فقشرتها من صفاتها الخاصة وحصرتها على الصفة المشتركة، وهذه نظريتنا أن الكلي منتزع من الجزئيات، والجزئيات جاءت من الحس.

أم تقول أنها ليست كذلك فإما أن ينطبق على كل شيء، أو لا ينطبق على شيء، فإذا هذا الكلي ليس له علاقة بهذه الجزئيات لأنه ليس منتزعا منها، فإن هذا الكلي «الحبيب لقلبي» ليس منتزعا من هذه الجزئيات فليس مرتبطا بها، فإذا لم يكن مرتبطا بها إذن إما أن ينطبق على كل شيء حتى شمر بن ذي الجوشن، أو حتى ذاك الناصبي لأهل البيت^ «الحبيب لقلبي»، أو لا ينطبق على شيء، فما دام ليس مرتبطا بالجزئيات فإما أن ينطبق على كل شيء أو لا ينطبق على شيء فيكون «الحبيب لقلبي» ليس له مصداق في الخارج، فلا يوجد أحد أحبُّه، وهذا باطل.

فينطبق على كل شيء باطل وجدانا، ولا ينطبق على شيء باطل وجدانا، إذن ينطبق على خصوص هذه الجزئيات التي رأيتها بصورة ورأيتها بصورة، رأيتها بصورة جزئية ورأيتها بصورة كلية.

وكذلك النسب بين الصور الخيالية والصور الحسيّة، فأمسُّ حرارة النار فهذه حرارة، أتعرض لحرارة الشمس فهي حرارة، أنطلق جريا أحصل على حرارة، فهذه الحرارات كلها حسية ولكن المتخيلة تنتزع من كل حس صورة، «حرارة النار»، «حرارة الشمس»، «حرارة الحركة»، فالمتخيلة تنتزع من الصور الحسيّة صورا أخرى.

إذن هذه الصورة الموجودة في المتخيلة إذا لم تُنتزع من تلك الصور الحسية فإما أن تنطبق على كل شيء، أو لا تنطبق على شيء، أو تنطبق عليها، فإذا انطبقت عليها بخصوصها كشف ذلك عن كونها مرتبطة بها.

الخطوة الثانية:

بعد أن حددنا أنها مرتبطة بها، فهل أن هذا الارتباط على نحو الانتزاع - أي الذهن ينتزعها فيقوم بتقشيرها وتجريدها وينتزع الصور الكلية منها - أم لا؟ نقول نعم، لماذا؟ يقولون وجود هذا المفهوم الكلي - الحرارة، الحبيب - إما أن يتوقف على تصور منشئ الآثار الخارجية أو لا يتوقف عليه، فإذا كان يتوقف عليه فلا تستطيع أن تنتزع كلّي الحرارة إذا لم تتصور حرارة ذات أثر خارجي - الإحراق، الإيلام - فلا تستطيع أن تتصور كلّي الحرارة، فتصور هذا متوقف على هذا، فإذا كان هكذا - وهذه دعوانا الانتزاع أي التوقف - فبنسبة هذا لهذا نسبة المعلول للعلة والسبب لسببه، أم أن تقول لا، فصنع الكلي لا يتوقف على تصور الجزئيات سابقا فالذهن مباشرة يصنعه، فالذهن مباشرة يصنع كلّي الامتداد، وكلي الحركة، وهكذا، فلا يحتاج إلى أن يتوقف على تصور مسبق، فهذا يعني أنه وجود خارجي وليس وجودا ذهنيا، والفرق بين الوجود الخارجي والوجود الذهني هو أن الخارجي وجودٌ في نفسه وليس مقيسا لغيره، أما الذهني فهو وجود مرآتي، فيتحدث عن شيء وراءه، فإذا قلتم أن هذا الكلي صنعته النفس مباشرة من دون أن يتوقف على صورة قبله إذن أصبح وجودا خارجيا نفسيا لا وجودا ذهنيا مرآتيا؛ لأنه لا يمكن أن يكون وجودا ذهنيا مرآتيا إلا بصورةٍ قبله، وإذا لم تكن هناك صورة قبله فهذا صنع ابتدائي ك ”أيٌّ“ كذا خلقت[8] ، هذا أيضا فالنفس صنعت صورة الشكل ولا شيء قبلها، إذن ليست وجودا ذهنيا مرآتيا لشيء وراءه، بل هو وجود خارجي بنفسه، أي أن هذا الوجود الذي صنعته النفس هو وجود خارجي ذو أثر، يحتاج إلى شيء يحكيه لا أنه يحكي عن شيء آخر.

كيف أصنع في نفسي الحقد والبغض؟ أحيانا الإنسان هو الذي يصنع الحب والبغض، فأنا أحاول أن أوجد حبا لفلان، وتارة أنا أحاول أن أوجد حقدا على فلان، فالذي أصنعه ليس وجودا ذهنيا بل وجود خارجي له أثر في نفسي، فلو كانت هذه الكليات مصنوعة للنفس من دون توقف على تصور مسبق لكانت وجودا خارجيا ذا أثر على النفس وليست وجودا ذهنيا حقيقته الحكائية والمرآتية لما وراءها، مع أنها بالوجدان وجود ذهني مرآتي، فالحرارة ينتقل ذهني منها إلى الحرارات الخارجية، «الحبيب» ينتقل ذهني إلى الحبيب الخارجي.

إذن ما دامت وجودا ذهنيا فإما أن تتوقف على تصور مسبق أو لا، إن توقفت فهذا مدّعانا من الانتزاع، وإن لم تتوقف فهي وجود خارجي وليست وجودا ذهنيا، وهذا خُلْفُ حَقيقتها المَرْئِية بالوجدان.

فنخلص من هذا الدليل: أن إدراك الذهن للكليات منتزع من الجزئيات وليس مصنوعا ابتداء في النفس.

لكن هذا الدليل أخص من المدعى، فهذا الدليل غاية ما يثبت أن الكليات التي تحكي عن أمور خارجية هي منتزعة من الحسيات، أما الكليات التي تحكي عن أمور خارجية هي منتزعة من الحسيات، أما الكليات التي لا تحكي عن أمور خارجية، فمن أين أتت؟ فإذن لابد أن نتحدث أيضا عن القسم الثاني، وهذا المفروض أن يكون المحور الرابع: نظرية انتزاع الكليات الابتدائية من غير الصور المحسوسة، وهو ما يعبر عنه بعلاقة العلم الحصولي بالعلم الحضوري، وهذا البحث الآتي هو أهم أبحاث هذه النظرية «علاقة العلم الحصولي بالعلم الحضوري»، ووجدت أسئلة ناشئة عن فهم هذا المطلب، كيف نفرق بين القوة والفعل؟ وبين الإجمال والتفصيل؟ وكيف نفرق بين النظرية الصدرائية وبين النظرية العقلية؟ وهذا كله يبتني على علاقة العلم الحصولي والعلم الحضوري ونتكلم عنه في الجلسة القادمة، وقد تعرض له العلامة المطهري «طاب ثراه» في أسس الفلسفة[9] .

والحمد لله رب العالمين

[1]  نهاية الحكمة ص277.
[2]  الأسفار ج8 ص222.
[3]  أي: فعل القوى.
[4]  أي: فعل النفس
[5]  وهذا هو المتعلق ببحثنا.
[6]  أصول الفلسفة ج1 ص219.
[7]  وهذه قد ذكرناها في الجلسة السابقة من أن عندنا مراحل ثلاث: «الحس ثم الخيال ثم التعقل»، والآن نريد أن نستفيد من تلك المعلومة في تحرير الدليل الثاني.
[8]  كما يقول العرب.
[9]  أسس الفلسفة ج2 ص48.

الدرس 3 | المفاهيم الفطرية بين ديكارت والملا صدرا
الدرس 5 | نظرية الانتزاع الذهني للمعرفة عند الملا صدرا