نص الشريط
الدرس 41 | فلسفة النقد عند كانت وبرجسون
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 21/11/1442 هـ
مرات العرض: 3343
المدة: 00:50:52
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (177) حجم الملف: 14.5 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

حديثنا حول فلسفة النقد عند «كانتْ» وبرجسون، وهنا نقطتان:

النقطة الأولى: في فلسفة نقد العقل عند الفيلسوف الألماني «كانتْ» «ت 1804م».

يقول أحد الباحثين: ”بدأ فرانسيس بيكون بنقد العلم والفلسفة في النصف الثاني من القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر، وواصل جون لوك نفس المسيرة واقتحم الميدان بركلي بأسلوب آخر وعمق أسس الأسلوب وأوضحها هيوم، وكان هؤلاء جميعاً من الإنجليز، ثم ورد الساحة الفيلسوف الألماني «كانتْ» وفتح صفحة جديدة من المعرفة بإصلاح الأخطاء وإكمال النقائص، وهناك اهتمام كبير من العلماء الأوروبيين بفلسفة «كانتْ» بل عبّر عنها بعضهم أنها جبلٌ قد شُيّدَ من الفلسفة، ولما كانت فلسفة «كانتْ» مُنْصَبّة على نقد العقل سُميت بفلسفة النقد“، والحديث عن فلسفة النقد أو نقد العقل عند «كانتْ» يتم ببيان ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الفلسفة الأولى.

«كانتْ» يقول: لا قيمة للفلسفة الأولى، والفلسفة الأولى هي المعقولات التي قامت عليها المدرسة العقلية عند ديكارت ك «امتناع التناقض، مبدأ الهوية، مبدأ العلية»، وهذه الفلسفة الأولى وقوامها هي بنظر «كانتْ» لا قيمة لها، فما يُعبّر عنه ديكارت بالفطريات ويعتبرها قواعد التفكير هي عند «كانتْ» أصلا ليست علماً حتى يكون لها قيمة، وإنما هي مجرد ألفاظ ينسجها الذهن، وحتى يتضح لنا المنطلق - أي منطلق «كانتْ» في نقده للفلسفة الأولى وقوله بأنه لا قيمة لها - نتعرض إلى الخلاف الفلسفي بين «كانتْ» وبين الفلاسفة قبله.

س: ما هي أهم الفوارق بين فلسفة «كانتْ» ومن قبله من الفلاسفة؟

أهم الفوارق في جهتين:

الجهة الأولى: أن الأصالة لعقل الإنسان لا الواقع.

«كانتْ» هو نفسه يرى نفسه أنه قام بدور كما قام به كوبر نيك، حيث إنَّ كوبرنيك عالم فلك، وكان علم الفلك قبله يرى أن مركزَ الكون هو الأرض، وأن جميع الكواكب السيارة تدور حول الأرض فهي المركز، ونشأ عن هذا الهيكل الفلكي كثير من الأخطاء في علم الفلك، كوبرنيك جاء وغير الخارطة في علم الفلك وذكر أن مركز الكون هو الشمس - طبعا يقصد المجموعة الشمسية التي نحن فيها - والأرض هي من جمل الكواكب التي تدور وتتحرك حول الشمس، وعلى إثر هذا التغيير الذي قام به كوبرنيك في علم الفلك حُلّتْ كثيرٌ من المشكلات المستعصية في علم الفلك، و«كانتْ» يقول أنا مثل كوبرنيك، فأنا غيرت الوجهة تماماً في علم الفلسفة، حيث كانت الفلسفة قبل «كانتْ» - وما زالت الفلسفة في غير فلسفة «كانتْ» خصوصا الفلسفة الشرقية والفلسفة الصدرائية هذا محورها - ترى أن الأصالة للواقع، فهناك واقع خارج الإنسان، وهذا الواقع الذي هو خارج الإنسان الذي يضم العالم المادي وما يتبع العالم المادي هو الأصل، فهو الأصل بمعنى أن الحقائق تُقاس على الواقع فالأصالة للواقع، فكلُّ فكرة وكل مفهوم يَرِدُ على ذهن الإنسان يُطابق مع الواقع؛ لأن الأصالة للواقع، فإذا كان المفهوم مطابقاً مع الواقع والفكرة مطابقة مع الواقع سُميت حقيقة وإلا فهي وَهْمٌ أو كذب أو خطأ، إذن الفلسفة محورها الواقع والأصالة للواقع. جاء «كانتْ» وغيّر الخارطة تماماً، «كانتْ» غير الأصالة من الواقع إلى الإنسان، فالأصالة هي عقل الإنسان لا الواقع، فأنا لا يهمني الواقع ما هو، فعقل الإنسان هو الأصيل.

كيف تكون الأصالة لعقل الإنسان وليست للواقع؟

يقول أن الإنسان عنده طريقة تفكير يفكر بها الأشياء ويستنتج بها الأشياء، فكل صورة وكل مفهوم وكل قضية وكل معلومة تردُ على ذهن الإنسان يقوم بتقريرها أو استنتاجها أو بلورتها بحسب القواعد والقوانين التي عنده؛ لذلك لا يهمنا الواقع الخارجي ما هو وهل أن الفكرة تحكي الواقع أو لا وهي مطابقة للواقع أم لا، فالذي يهمنا أن هذه الفكرة تنسجم مع القواعد الموجودة في عقل الإنسان، إذن لا نقول للفكرة أنها حقيقة إلّا إذا انسجمت مع القوانين والقواعد الموجودة في عقل الإنسان، أما أنها تحكي الواقع أو لا فليس لنا دخل بذلك.

”و «كانتْ» جعل الأصالة للعقل حيث إنه يرى الأشياء مطابقة لما في العقل لا العقل مطابق لما في الخارج“، فهذه الأفكار مطابقة لما عند العقل أم لا، ”مطابقة لما عنده من قوانين وقواعد للتفكير“.

هذا الذي ذكره «كانتْ» لا يختص به كما يقول الشهيد المطهري، فيقول هذا فيلسوف بروتوقوراس في القرن الخامس يقول: ”الإنسان هو مقياس كل الأشياء لا الواقع“، فكيف تثبت أن هذه المعلومة صحيحة ك «الإنسان حيوان ناطق، الشجر نبات»؟ تثبت ذلك بالنظر هل أن هذه المعلومات صحيحة وهل هي متطابقة مع القواعد المختزنة في ذهن الإنسان أم لا، وهذا هو المعيار والمقياس في كونها حقائق، فالإنسان هو مقياس كل الأشياء.

ما هو الدليل على أن الأصالة لعقل الإنسان حيث إن الفلسفة تقول أن الأصالة للواقع؟

يقول «كانتْ» غيرتُ هذه الخارطة لأنه لا يُمكن للعقل أن يصنعَ حُكْماً تركيبيا من مفهومين مُختلفين للأشياء الخارجة عنه حتى مع الاستعانة بالمفاهيم الفطرية، فالعقل لا ينال الخارج فإن هذا عالم وهذا عالم آخر، فالعقل وجودٌ نفسي والخارج وجودٌ مادي، والعقل لا ينال الخارج كي تجعلوا الأصالة للواقع الخارجي فيكون ما طابقه حقيقة وما خالفه خطأ، فالعقل قاصر لأن هذا عالم وهذا عالم آخر، لذلك العقل لا يستطيع أن يصنع حكما تركيبياً من مفهومين مختلفين للأشياء الخارجية، فنأتي إلى مفهومين حتى يصبح الحكم تركيبياً لأنه إذا لم يكونا مختلفين يصبح الحكم تحليلياً وليس تركيبياً، فإذا جئت لتحلل عنواناً معيناً فتحلل معنى الإنسان فإن هذا مفهوماً تركيبياً فهذا مفهوم واحد تقوم بتحليليه فهذه قضية تحليلية، ونحن لا نتكلم في القضايا التحليلية فالقضايا التحليلية العقل يقتدر عليها، وإنما نتكلم عن القضايا التركيبية وهو أن تجمع بين مفهومين مختلفين، مثل «النار علة للحرارة» فهناك «نار» وهناك «حرارة» وهذه النار علّة للحرارة، والحرارة سبب للغليان، فالحرارة شيء والغليان شيء آخر وهما مفهومين مختلفين، فهل يستطيع الذهن أن يقوم بهذه القضية التركيبية بأن يصوغ قضية مركبة من مفهومين مختلفين؟

إذا الذهن خالي الوفاض وليس عنده شيء ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا[1] ، فهو لا يستطيع لأنه ليس لديه مخزون فلا يمكن للذهن البشري أن يصنع قضية تركيبية بدون الاستزادة من المخزون، ولكن الكلام فيما لو كان يملك مخزوناً - كما يراه ديكارت من أن كل إنسان عنده فطريات [2]  - فهل الإنسان بهذا المخزون - وهي القضايا الفطرية الموجودة عنده - يستطيع أن يصنع حكماً تركيبيا بأن يقول «حرارة الماء سبب الغليان» أو يقول «كل متحرك حادث»؟ [3] 

لا يمكن للذهن أن يصنع حكماً تركيبياً حتى مع الاستعانة بالقضايا الفطرية، فلا يقدر الذهن أن ينطلق إلى خارجه فالذهن هو قوقعة لا يخرج منها إلى خارجه فلا ينال شيئاً من الخارج حتى يصنع مفاهيم أو أحكاماً تركيبية.

الجهة الثانية [4] : أن «كانتْ» يقول بالعجز الكيفي فضلاً عن الكمي.

عندما نرجع إلى الفلاسفة نسألهم، ما هي الحكمة؟ ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[5] ؟

يقولون الحكمة هي العلمُ بالحقائق في حُدودِ الطاقة البشرية، فالعلم بالحقائق هو الحكمة، وغاية ما في الأمر أن هذا العلم بحدود الطاقة البشرية، فكل بحسب طاقته يُدرك حجم الحقائق، وهذا الكلام من الفلاسفة ماذا يعني عندما يقولون حدود الطاقة البشرية؟ هذا يعني أن الفلسفة تعترف بالعجز الكمي، أي كمية الحقائق التي يدركها الإنسان هي محدودة، أي كمية الحقائق بمستوى الطاقة البشرية، وهذا اعتراف من الفلاسفة بالعجز الكمي. جاء «كانتْ» وقال أن هناك ما هو أعظم من العجز الكمي، فالكم لا يكون إلّا إذا كان هناك إدراك، فإذا أدركتم شيئاً قلنا نقول بعدها هناك عجز كمي والحال أنكم لم تُدركوا شيئا، ولذلك بعض الباحثين يقول أن «كانتْ» حاول أن يفلسف حدود الطاقة البشرية، فأنتم تقولون حسب الطاقة البشرية وهنا «كانتْ» يعيّن حدود الطاقة البشرية، وهذه الحدود هي أن العقل صومعة لا يخرج منها فلا يستطيع أن يرى ما هو خارج.

إذن بالنتيجة «كانتْ» يقر بالعجز الكيفي لا الكمي، والعجز الكمي فرع وجود إدراك الكيفي وهو يقول لا وجود للكيفي فضلاً عن الكمي، فهو خالف الفلاسفة في هاتين الجهتين وبناء على ذلك أن قوام الفلسفة الأولى - عند الفلسفة الشرقية والصدرائية وديكارت - بهذه المبادئ الثلاثة - مبدأ امتناع التناقض، مبدأ الهوية، مبدأ العلية - فيقول من أين أتيتم بها؟ فهذه التي تعتبرونها قوام الفلسفة الأولى لا دليل على أنها علم أساساً كي يكون لها قيمة؛ فمن المحتمل أن العقل جُبل على نسجها كي يكون قادراً على التفكير والاستنتاج، فأنت ترى أن العقل لا يقدر أن يستنتج دون مبدأ امتناع التناقض ولا يقدر أن يستنتج دون مبدأ الهوية ولا يقدر أن يستنتج دون مبدأ العلية، فهو كالكمبيوتر تركب هكذا حتى يستنتج وإلا لا واقع لها، فمن المحتمل أن هذه المبادئ صيغت مع العقل حتى يستطيع أن يستنتج وإلا لا واقع لها، وهذا مثل لما يأتي هذا المخترع فيصنع الكمبيوتر أو أي جهاز فهو يصنعه في ضوء قانون معين يسير عليه الجهاز، وهذا لا يعني أن هذا القانون له واقع لكن لا بُد منه حتى يعمل الجهاز، فلعل العقل هكذا حيث نُسجت فيه هذه أفكار حتى يعمل كالكمبيوتر وإلا لا واقع لها، فبالنتيجة لا دليل على أنها علم حتى يكون لها قيمة، وهذا كل ما ذكره «كانتْ» في الفلسفة الأولى قسم معلومات الفلسفة الأولى.

الأمر الثاني: الرياضيات.

الرياضيات من اليقينيات - أي أنها أفضل من مبادئ الفلسفة الأولى - لأنها من صُنْع العقل لا ما جُبِلَ على نسجه، أي هو الذي صنعها، ففرق بين أن يولد العقل وفيه هذه المبادئ الثلاثة التي سبقت، وبين أن العقل هو الذي قام بصنعها واختراعها، فالرياضيات من القسم الثاني، فلم يولد وهو يدرك هذه المعلومات الرياضية، بل العقل هو الذي صنع المعلومات الرياضية ولذا صارت يقينية.

ما هو الدليل على أنها من صنع العقل؟

قال بملاحظة جهتين يُدرك ذلك:

الجهة الأولى: علم الرياضيات.

علم الرياضيات يقول علمٌ موضوعه الكميات وليس له دخالة بالكيفيات، فلا علاقة له بكيفية الحرارة ولا كيفية الجسم، فعلم الرياضيات موضوعه الكم سواء كان هندسة أو معادلات فإن موضوعه الكم، فهذه الأشكال الهندسية - كالمثلث والمربع ومستطيل.. - مقاييس لكم الجسم، أيضا المعادلات الرياضية كلها مقاييس لاكتشاف كمية الأشياء، فالرياضيات علم موضوعه الكم، لكن هل للكم واقع أم لا؟ لو كان له واقع لقلنا الرياضيات موضوع يرتبط بالواقع الخارجي إلّا أنه ليس له واقع، فالكم مقولة اخترعها وصنعها الذهن، والكميات لا وجود لها خارجا.

الجهة الثانية:

إذا كان موضوع الرياضيات صنعه الذهن فالرياضيات أيضا من صنيعة الذهن، فالذهن هو الذي صنع هذه المعادلات والأشكال والأبعاد وأحكامها وقوانينها فهي كلها صنعها الذهن بشكل مباشر لا بواسطة الحس، لذلك صار العقلُ على يقين بها؛ لأنها منه إليه، مثل أي إنسان يقوم بفعل معين فثملا أقوم الآن بحك جسمي فأنا على يقين بهذا العمل لأنه مني، فبما أنه فعلي فأنا على يقين منه، وبما أنه صنعي فأنا على يقين منه، فالرياضيات صنع العقل لذلك العقل على يقين منها، بخلاف تلك المبادئ - امتناع التناقض والهوية - فالعقل هو لا يقدر أن يفكر إلّا بها لكن مع ذلك يحتمل أنها لا واقعَ لها، فيحتمل أنها أيٌّ كذا خُلقت.

الأمر الثالث: الطبيعيات.

الماء يغلي، الشمس تُشرق، فإن هذه القضايا الطبيعية حتى نفهم رأي «كانتْ» فيها نذكر فيها عدة قضايا:

القضية الأولى: إن الذهن قادر على إدراك الأعراض والظواهر[6] ؛ لأنها عن طريق الحس وهو عاجز عن إدراك الذوات فهو يدرك هذا ولا يدرك هذا التي هي موضوعها لقصور الحس عن نيلها، يعني أنا الآن الذي أدرك منك - مثلاً - صوتك وحركتك وإذا كان عندك رائحة معينة أدركها، فكل ما أدركه منك هو أعراض وظواهر، أما نفس الذات التي هي وراء هذه الأعراض والظواهر أنا لا أدركها؛ لأنه لا طريق لي لإدراك الواقع الخارجي إلّا بالحس والحس لا ينال الذوات وإنما ينال ظواهرها وأعراضها.

القضية الثانية[7] : يبين علاقة الإحساس بالعقل، فيقول أن الإحساس مُمَوّن يُمَوّن العقل بالمواد، أما الذي يصنع الصورة هو العقل، كالحطاب والنجار، هذا الحطاب يأتي بالخشب من الغابة لكن الذي يصنع السرير هو النجار، فالحس مُمَوّن أما الذي يصنع الصورة والهيكلية هو العقل، مثلا ليس هناك أوضح من صورة الشمس التي نراها، فهذه الصورة الني نراها ليست هي الصورة، فالحس نقل لنا اللون والضوء والحرارة، فلما وصلت هذه المادة إلى العقل قام العقل بتركيبها وصنع منها صورة الشمس التي نراها صورة بديهية.

فالعقل هو الذي يقوم بعملية التنظيم بضم مادة لمادة، وخلق الصورة ضمن أبعادٍ معينة، وحتى الأبعاد هو الذي يخترعها حتى يُدرك الصورة، فتكون الصورة قابلة للإدراك.

القضية الثالثة: إن الذهن لا يُمكن أن يُدرك الصور إلّا ضمن الزمان والمكان، فلا تستطيع أن تُدرك صورة من عالم المادة إلّا إذا أدركت معها زمانا ومكاناً، فأنا أدرك الآن صورة «الإمام الخوئي»، فأنا ما أن أتصوره فلا محال أتصور مكانه وأيضا أتصوره في زمان معين، فبالنتيجة الذهن لا يُمكن أن يُدرك أي صورة إلّا ضمن بعدين «زمن ومكان»، وهذان ليس لهما واقع ولكن صاغهما العقل كما صاغ الرياضيات، فالزمن والمكان بعدان صاغهما العقل ليتمكن من إدراك الصور، حيث رأى أنه لا يستطيع أن يبلور الصورة إلّا إذا جعل لها بعدين «زمن ومكان» فاخترعهما من أجل دخالتهما في صنع الصور، ولهذا يقول أن الذهن والحس مثل المعدة مع الغذاء، فأنت تُدخل إلى المعدة أغذية متفرقة، والمعدة تقوم بهضمها إلّا أن المعدة لا تقوم بهضمها بدون عصارات، فالمعدة تقوم بإضافة عصارات من عندها كي تكون قادرة على هضم الغذاء وتفريقه على الجسم، كذلك العقل، فالعقل يتلقى مواداً وهو يقوم بصنع الصور ولا يستطيع أن يقوم بصنع الصور إلّا إذا اخترع الزمن والمكان.

القضية الرابعة: إن كل مدركات الحواس جزئية متغيرة، أي أن الكليات لا يُدركها الحس - وهذا تقول به الفلسفة - فالحس يُدرك الجزئيات المتغيرة، فهو يُدرك حركة متغيرة وضوء وحرارة، إلّا أنه كيف لها أن تتحول إلى معقولات كلية؟ الحس نقل إلى العقل ضوء الشمس، والحس نقل إلى العقل ضوء النار، والحس نقل إلى العقل ضوء القمر، الحس نقل إلى القمر ضوء الكهرباء، فهذه كلها متغيرات جزئية، فجاء العقل وصاغ منها شيئاً كليا وسماه «الضوء» وأعطاه تعريفاً معيناً، وصياغة هذه المتغيرات الجزئية وتحويلها إلى قوانين كلية أو قوانين أضيف لها من قبل العقل قوانين حتى يُمكن أن يصوغها بشكل كلي، أي لا يستطيع العقل أن يصوغ الجزئيات بشكل قانون كلي إلّا إذا أضاف إليها قوانين من عنده، وهذا مثل التجريد، حيث يقوم العقل بتجريد ضوء الشمس من الشمس، وتجريد ضوء النار من النار وضوء الكهرباء من الكهرباء، فنتيجة تجريد كل صورة من خصوصياتها يصوغ قانوناً أو مفهوماً كلياً اسمه الضوء، وعملية التجريد هي من القوانين التي وُلدت مع العقل ولذلك يستخدمها حتى يستخرج القانون الكلي، وكذا حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فالعقل يقول أنا وجدت أن عدد الذين ماتوا منذ آدم إلى الآن 8 مليار إنسان، العقل يقول بعدما مات 8 مليار إنسان إذن كل إنسان يموت؛ لأن الإنسان الذي هو قادم مثل الإنسان الذي ذهب وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، وهذه أتى بها العقل واخترعها حتى يتوصل بها إلى صياغة المفاهيم الكلية.

وهذا كان كلّه تقرير كلام «كانتْ»، ورأيتم من خلال التقرير تميز «كانتْ» على غيره، ف «كانتْ» عنده فكر شمولي، استيعاب لعدة نقاط، وعنده ذهن جوال في عدّة قضايا وعدّة أفاق، ولذلك اعتبروا «كانتْ» أنه شيد جبلاً من الفلسفة.

النقطة الثانية: الفرنسي برجسون «ت 1941م».

قال: ”إن الحس والعقل ليسا وسيلة لكشف الحقائق“، أي هو يقول أنه لا أصالة للحس ولا العقل، بل هناك وسيلة أخرى أقوى من العقل وهي الاستبطان والشهود الباطني، وهذا الاستبطان وعملية الشهود الباطني أعلى الوسائل حيث إن الإنسان بواسطة التفكير في ذاته - وهذا كما يقول العرفاء - بحيث يقصر الإنسان تأمله على ذاته، فإذا قصر تأمله على ذاته وقرأ نفسه وأحوال نفسه استطاع أن يصل إلى الحقائق المطلقة وقوام الفلسفة الأولى - امتناع التناقض، الهوية، العلية - يكتشفها من خلال الشهود الباطني والتأمل في ذاته، فإذا اكتشفها صارت هي الطريق لإدراك كل الحقائق الأخرى.

بعض الملاحظات على ما ذكره الفيلسوفان.

الملاحظة على برجسون.

لا يمكن للشهود الباطني أن يُدرك كل الحقائق لأن الحقائق في نفسها متنوعة، فكل صقع من الوجود له مجموعة من الحقائق، فهناك حقائق طبيعية، فالغليان لا يُمكن أن يُدركه الإنسان بالشهود الباطني، شروق الشمس لا يُمكن أن يُدركه الإنسان بالشهود الباطني لأن الحقيقة هي حقيقة مادية، وهناك حقائق عقلية لا يُمكن أن يُدركها الإنسان إلّا بحركة العقل كبطلان الدور وبطلان التسلسل، فهذه مدركات حقائق عقلية لا يُمكن أن يُدركها الإنسان بدون حركة العقل، فلا يمكن أن يُدركها بشهود النفس أو ما نعبر عنه بالعلم الحضوري.

الملاحظة على «كانتْ».

وهنا عدّة ملاحظات على ما ذكره «كانتْ»:

الملاحظة الأولى: أفاد بأن قوام الفلسفة الأولى - وهي المبادئ الثلاث مثلا - مما جُبل عليها العقل، وبالتالي لا ندري أنها واقع أم ليست بواقع، وهنا ترد الملاحظة [8]  وهي أن كل المعلومات وحتى المبادئ الأولية للفلسفة لم يُدركها العقل ابتداءً، فالعقل قوة خالية، وهذه المبادئ مبادئ انتزاعية، وشرحنا كيف أن العقل انتزعها من المعلومات الحسية، سواء بالحس الداخلي أو الحس الخارجي [9] ، فهذه المبادئ قوام الفلسفة الأولى، حقائق انتزاعية انتزعها العقل من مدركاته الحسية الأولية سواء كانت بالحس الداخلي - كإدراكه لنفسه - أو بالحس الخارجي، لا أنها مما ولدت مع العقل أو جُبل عليها العقل حتى يُقال أننا لا ندري من أين أتت، بل العقل انتزعها والمنشأ واضح وهو المدركات الحسية.

مضافاً إلى أن «كانتْ» يُسلم أنه لا يمكن أن تُدرك الحقائق إلّا بهذه المبادئ، فهل يُعقل أن ما لا تُدرك الحقيقة إلّا به ليس بحقيقة؟! فهذا غير معقول، فبما أن أداة إدراك الحقيقة هو إدراك هذه الأمور فلا يُعقل ألا تكون هذه الأمور حقائق.

الملاحظة الثانية: ولقد فرّق بين الرياضيات وبين مبادئ الفلسفة مع أن الذهن متساوي النسبة، أي أن الذهن يرى نفسه تجاه القضايا الرياضية كما يرى نفسه تجاه هذه المبادئ وهو الإدراك، فالذهن لا يرى نفسه صانعاً بل مُدركاً، فأنت الآن تُعطي معلومات خلاف الطبيعة الذهنية، فالذهن يرى نفسه مُدركاً إلى أن «4×4= 16» ولا يرى نفسه صانعاً، وهذا تماماً كما يرى الذهن نفسه مدركاً إلى «النقيضان لا يجتمعان» فإنه يرى نفسه مُدرك ل «4×4= 16»، فإن دور الذهن تجاه الرياضيات وتجاه الفلسفة الأولى دور واحد وهو دور الإدراك، غايته أنه إدراك تحليلي أو إدراك تركيبي وهذا محل كلام وقلنا سابقاً أن هذا إدراك تحليلي، فأنت لما تأتي إلى القضية الرياضية وتحلل 16 تُصبح «4×4» فهي قضية تحليلية، كذلك «النقيضان لا يجتمعان» فهي قضية تحليلية، فما إن تحلل النقيضين تخرج «لا يجتمعان»، فعدم الاجتماع مستبطن في عنوان النقضين، فمن أدرك النفي والإثبات أدرك أنهما لا يجتمعان، وهذا مفهوم تحليلي، فإدراك الذهن للقضية الرياضية كإدراك الذهن لامتناع التناقض إدراك تحليليٌ واحد، فإذا كان هذا صنع فإن هذا صنع، وإذا كان إدراك فهذا إدراك، وإذا كان هذا جبلة فهذا جبلة ولا فرق بينهما من هذه الجهة.

الملاحظة الثالثة: أن «كانتْ» قال أنه نحن نعلم أن الواقع الخارجي ذات وأعراض، إلّا أن الحس لا يُدرك الذات بل يُدرك الأعراض، لكن من أين أدركت وجود ذات إذن حيث إن الحس لا يصل إلى الذات؟ لا بُد أن تستد إلى قاعدة «لكل معلول علة»، فبما أن هذه الظواهر تحتاج إلى منشأ وموضوع أدركت أن وراء الظواهر ذات فاستعملت مبدأ العلية في الوصول إلى هذه الحقيقة، فأنت تقول أن مبدأ العلية غير واقع بينما لم يُمكنك الحكم بأن وراء الظواهر ذوات لو لم تُذعن بمبدأ العلية.

الملاحظة الرابعة[10] : اليوم فكل العلوم قائمة على دليل حساب الاحتمالات وهذا هو المنطق العلمي اليوم، فلا يمكن لك أن تُثبت أن الصورة حقيقة إلّا عبر دليل حساب الاحتمالات، فلأجل ذلك لا فرق في هذا الدليل بين أن يتناول الفلسفة الأولى أو يتناول الرياضيات أو يتناول الطبيعيات، فمقياس الوصول إلى الحقيقة هو دليل حساب الاحتمالات لأنه الدليل الوحيد الذي يوصلك إلى اليقين العلمي، وهذا الدليل متساوي النسبة لكل المجالات من طبيعيات ورياضيات وطبيعيات ووجدانيات وغير ذلك، فبما أن المقياس العلمي هو هذا فمتى ما استخدم الذهن هذا ووصل إلى اليقين الرياضي كان ما وصل إليه حقيقة ذا قيمة علمية في أي مجال من المجالات السابقة.

والحمد لله رب العالمين

[1]  [النحل: 78].
[2]  وسبق أقسام الفطريات عند ديكارت من قضايا عقلية والرياضية، العناصر الأولية للأجسام «الكيفية، البعد، الحركة».
[3]  وهنا تم ذكر مثالين هنا لأنه في كل واحد سوف يستعين بمبدأ، فعندما نقول «حرارة الماء سبب للغليان» فهنا استعنا بمبدأ موجود ومخزون عندنا وهو مبدأ السببية وهذا من الفطريات، ولما نأتي إلى «كل متحرك حادث»، فإن كل متحرك حادث لأن الحركة عبارة عن الخروج من القوة إلى الفعل، وبما أن الحركة هي خروج من القوة إلى الفعل إذن الحركة تستبطن انتقال من شيء إلى شيء، والانتقال يعني الحدوث، وهذا كلّه مبني على الهوية واستحالة التناقض وإلا لو قال لك شخص أن الحركة انتقال من القوة إلى الفعل، ومع ذلك القوة والفعل كلاهما قديمان أزليان وليسا حادثين، فهنا أنت تضطر أمامه أن تستعين بمبدأ الهوية واستحالة النقيضين.
[4]  هذه الجهة مترتبة على الجهة الأولى، فإذا تمت الجهة الأولى تمت الجهة الثانية.
[5]  [البقرة: 269].
[6]  «بالياباني: نوموننات» أي الظواهر والأعراض.
[7]  هذه القضية مرت علينا سابقاً، وقد قمنا بشرحها في قسم التصورات.
[8]  وهذه سبقت في مناقشة بعض الأفكار في بعض الدروس.
[9]  وهذا عندما تحدثنا عن نظرية السيد الشهيد.
[10]  وهي الملاحظة السابقة على المدرسة الحسية وجون لوك.

الدرس 40 | هل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟
الدرس 42 | خطأ الحواس لا يلغي قيمة العلم