بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث حول المشروع الحسيني، المشروع الذي أقامه الإمام الحسين ابتداء من خروجه من المدينة وحتى شهادته على أرض كربلاء، والحديث عن المشروع الحسيني في محاور ثلاثة:
- فلسفة المشروع.
- المقارنة بين المشروع الحسيني والمشروع الحسني.
- معطيات حركة الحسين
.
المحور الأول: فلسفة المشروع.
عندما نتحدث عن منطلقات وأهداف مشروع الإمام الحسين ، ما هي المنطلقات التي انطلق منها الإمام الحسين في أهداف مشروعه وحركته العظيمة، هنا أمامنا عدة اتجاهات في تحليل هذا المشروع: الاتجاه التعبدي، الاتجاه الحركي، الاتجاه الاجتماعي، الاتجاه التضحوي، والاتجاه القرآني.
الاتجاه الأول: الاتجاه التعبدي.
يقول هذا الاتجاه أن حركة الإمام الحسين هي حركة إمام معصوم، ليس من حقنا أن نتساءل عن علتها أو أن نتساءل عن أسبابها، الإمام المعصوم هو مصدر التشريع وهو مقياس الحق بمعنى أن الحق يقاس به لا أنه يقاس بالحق، نستطيع أن نقول فعل غير المعصوم حق لأنه يطابق فعل المعصوم، ولا معنى لأن نقول فعل المعصوم حق لأنه يطابق كذا وكذا، فعل المعصوم هو المقياس، هو الحق، ورد عن الرسول : ”علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار“.
إذن فعل المعصوم لا يعلل ولا يسأل ما هي أسبابه أو ما هي أهدافه، فعل المعصوم هو مصدر التشريع، هو مصدر الحق لا أنه يعلل بالحق، فلماذا نطرح أسئلة عن ما هي العلة أو ما هي المبررات التي دعت بالحسين إلى تأجيج هذا المشروع العظيم الذي قام به.
وهذا الاتجاه عليه ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: أن الإمام الحسين بنفسه علل حركته، الإمام الحسين لم يطرح حركته طرحاً تعبدياً، هو بنفسه ذكر مبررات وذكر أسباب لمشروعه، وقال: ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح. فإذا كان الإمام الحسين بنفسه قد تصدى لبيان علة مشروعه، لبيان أهداف مشروعه إذن حينئذ ينفتح الباب أمام السؤال عن علة المشروع وعن أهدافه وعن أسبابه ما دام الإمام الحسين نفسه تصدى لبيان المبررات.
الملاحظة الثانية: صحيح أن حركة الإمام الحسين ومشروعه هي حركة تعبدية لكن هذا لا يمنع أن نتساءل عن الحكمة من وراء الحركة، لا يمنع أن نتساءل عن فلسفة الحركة وإن كانت الحركة صادرة من الإمام، ممن هو مصدر الحق، ممكن هو مصدر التشريع، لكننا يمكن لنا أن نستجلي الحكمة وأن نعرف الفلسفة في هذه الحركة من خلال النصوص والروايات الواردة عن الإمام الحسين أو الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الحركي.
وهو الذي يقول أن حركة الحسين ثورة كان هدفها رفض بيعة يزيد بن معاوية، الإمام الحسين عندما استدعاه أمير المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان فدخل الإمام الحسين على أمير المدينة فنعى إليه الأمير معاوية، ثم قال له: وقد أُخذت البيعة إلى ابنه يزيد ومطلوب منك أن تبايع. فقال الإمام الحسين: يا أمير إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله.
من هذه الرواية عُلم أن هدف الحسين من مشروعه رفض بيعة يزيد بن معاوية، إذن هذا هو الهدف الحركي الذي كان وراء المشروع الحسيني للإمام .
هذا الاتجاه أيضاً عليه ملاحظة:
الملاحظة: رفض بيعة يزيد هي أثر من آثار المشروع؛ بمعنى أنها هدف من الأهداف وإلا فالمنطلق الأساس للمشروع الحسين أعمق من ذلك، وأبعد من ذلك، افترض لو أن يزيد بن معاوية قال: أنا لا أريد من الحسين أن يبايعني هل سيسكت الحسين؟ لن يسكت، حتى لو لم تُطلب منه البيعة، ليس المبرر لمشروعه رفض البيعة فقط؛ بمعنى أن يزيد بن معاوية لو تنازل وقال أنا لا أطلب بيعة من الحسين، اتركوا الحسين حراً، بايعني أو لم يبايعني هو محترم لا تتعرضوا له. مع ذلك كان الحسين سيخرج وسيؤسس هذا المشروع، إذن المشروع الحسيني أبعد وأعمق من رفض بيعة يزيد بن معاوية في تلك الفترة، بل كان مشروعه أشمل وأوسع من ذلك.
الاتجاه الثالث: الاتجاه الاجتماعي.
وهو يعني أن الحسين خرج ليطالب بالسلطة ومن حقه أن يطالب بالسلطة، هدفه من المشروع أن يكون هو خليفة المسلمين، أن يكون هو رأس السلطة آنذاك، وهذا من حقه، الإمام الحسن حينما عقد الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وصار الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الإمام الحسن وبين معاوية بن أبي سفيان، ومن ثم كُتبت الوثيقة بين الطرفين، فمن جملة ما كُتب في تلك الوثيقة أن الخلافة تكون لمعاوية، فإذا مات تعود إلى الإمام الحسن
؛ لأنه الوريث الشرعي للخليفة الشرعي ألا وهو الإمام أمير المؤمنين علي
، فإذا حدث للحسن حدث وتوفي فإن الخلافة تؤول لأخيه الحسين، وهو أمر منصوص عليه في الاتفاق بين الإمام الحسن ومعاوية، فالإمام الحسين من حقه أن يطالب بهذا الاتفاق، لأن مقتضى الاتفاق أن تؤول الخلافة للإمام الحسين إذا مات معاوية، فانطلاقاً من هذا الاتفاق طالب بالخلافة وقام بمشروعه الذي أججه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الاتجاه ليس اتجاهاً صحيحاً:
أولاً: الإمام الحسين لا يحتاج إلى اتفاق بينه وبين معاوية، بالنتيجة هو الإمام الشرعي الذي نص عليه الرسول الأعظم وقال: ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“.
الحسين ما كان ليطالب بالسلطة لأنه كان يعلم بمقتله وشهادته التي لا مفر منها، كان الحسين يعلم بأنه سيقتل على كل حال، أبلغه بذلك جده رسول الله
وأبوه أمير المؤمنين علي
وقد صرح الحسين بشهادته من قبل المعركة بشهور، الإمام الحسين قال: ”والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي“ وقال: ”لقد رأيت جدي رسول الله
وهو يقول إن لك لدرجة في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة“
فمسألة الشهادة مسألة حتمية، حتى لو لم يقم الإمام الحسين بحركته، مسألة قتل الإمام الحسين مسألة حتمية لابد منها حتى لو بقي في المدينة كان سيقتل ويُغتال، تحرك أو لم يتحرك، كان اغتياله أمراً حتمياً من قبل السلطة الأموية آنذاك، فالإمام الحسين كان يعلم بشهادته لذلك ليس له معنى المطالبة بالسلطة وهو سيكون شهيداً على كل حال، وقد وقف على جبل الصفا عندما أراد أن يخرج من مكة المكرمة إلى العراق وقال: ”خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلا بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين“ أنا لست جازعاً من المعركة بالعكس متلهف لهذه المعركة لأني سألتقي بأسلافي محمد وعلي وفاطمة، وما أشوقني إليهم اشتياق يعقوب إلى يوسف.
إذن الحسين كان يعلم بشهادته ومقتله، ومن يعلم بشهادته لا معنى لأن يخطط إلى الوصول إلى السلطة والكرسي، إذن هذا الاتجاه أيضاً محل تأمل.
الاتجاه الرابع: الاتجاه التضحوي.
وهو الذي يقول أن الهدف من الحركة والمشروع الحسيني هو الشهادة، هدفه أن يكون شهيداً، هدفه أن يراق دمه على أرض كربلاء، هذا هو الهدف الذي كان ينظر إليه مثله مثل من خرج معه، العباس خرج لكي يكون شهيداً، الأكبر خرج لأن يكون شهيداً، الحسين خرج من أجل تحصيل هذا المنصب والوسام العظيم ألا وهو وسام الشهادة، هدفه هو الشهادة.
هذا الاتجاه أيضاً ليس صحيح، الشهادة ليست هدف بل هي وسيلة لهدف أكبر، الشهادة طريق لهدف أكبر، الشهادة طريق لهدف أعظم، لم تكن الشهادة هي نفسها الهدف، نعم الحسين يعلم بأنه سيكون شهيداً وسيحصل على وسام سيد الشهداء، وسيكون في قمة الجنان وحوله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، يعلم بذلك تماماً، لكن الشهادة ليست هدف بل هي طريق ومعبر، وسيلة وليست وغاية.
الاتجاه الخامس: الاتجاه القرآني.
وهو فلسفة المشروع الصحيح، فلسفة المشروع الحسيني وهدف الحركة الحسينية يتلخص في الاتجاه القرآني، الحسين انطلق من منطلق قرآني، الحسين انطلق من القرآن الكريم، تعرفون أن مشروع الحسين ومشروع الإمام علي شوهه بنو أمية منذ ذلك الوقت، إلى يومنا اليوم، الإمام علي
عندما كان حياً كانت هناك إشاعات اتجاه مشروعه وحركته، كانوا يقولون أن علي
يقاتل من أجل الكرسي والسلطة، يقاتل من أجل البقاء في الحكم، هذه الكلمات رددها بنو أمية وأتباعهم منذ زمان الإمام علي
مع أن الإمام علي لم يقاتل بل قوتل، الإمام علي اعتُدي على دولته لم يعتدِ على أحد، الإمام علي تعرضت دولته لثلاثة حروب طاحنة: حرب الجمل، حرب صفين، وحرب النهروان. هو قوتل ولم يقاتل، هو اعتُدي عليه ولم يعتدِ على أحد، دولته المباركة لم تستقر أبداً، دولة الإمام علي كانت في أربع سنوات وأشهر فقط، أرادوا الإجهاض عليها، أرادوا القضاء عليها بصور مختلفة فأججوا حولها ثلاثة حروب طاحنة أكلت الآلاف من المسلمين، من أجل الإطاحة بدولة الإمام أمير المؤمنين علي
، وكانوا يقولون علي يحب السلطة، ويحب البقاء في السلطة، ويصر على البقاء في السلطة، لذلك الإمام علي واجه هذه الدعايات المغرضة الأموية منذ زمانه، وتحدث عن مشروعه، وقال: ”والله لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا على سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقظمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى!“.
الإمام علي أوضح عدم رغبته بالسلطة، بل لأنه قامت الحجة عليه والله أخذ على العلماء أن لا يسكتوا على ظلم مظلوم، وأن لا يقاروا على كظة ظالم ولا على سغب مظلوم.
وقال : ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله“ الإمام علي حاول أن يبدد هذه الإشاعات الأموية ويبرز أهدافه بكل وضوح، كذلك الإمام الحسين منذ أن تحرك جاءت الإشاعات الأموية، الحسين خرج من أجل السلطة، الحسين يريد أن يشق عصا الأمة، الحسين يريد أن يفرق الأمة، حتى شُريح القاضي الذي كان قاضياً في دولة الإمام علي
لكنه تبع الاتجاه الأموي وأفتى بقتل الحسين، وأفتى بإهدار دم الحسين
، وقال: إنه خرج لشق عصا المسلمين فلابد من قتله. إلى هذا المستوى بلغت الأمور، لهذا الإمام الحسين رأى أنه لابد أن يشرح أهدافه ويوضح أسباب حركته فقال: ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي.
أي أن الحسين يقول أن المنطلق عندي هو القرآن، أنا خرجت امتثالاً لأمر القرآن الكريم، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104]
ويقول: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]
ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]
من المنطلق القرآني انبثقت حركة الإمام الحسين، انبثق المشروع الحسيني ألا وهو مشروع الإصلاح، إذن الحسين حتى لو ترك ولم يطالب بالبيعة كان سيخرج على كل حال انطلاقاً من نداء القرآن وتحقيقاً لأهداف القرآن كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
المحور الثاني: المقارنة بين المشروع الحسيني والمشروع الحسني.
الحسن والحسين هما إمامان وأخوان، وقد كان الإمام الحسن إماماً على الحسين ، يقول المؤرخون ما تكلم الحسين والحسن جالساً قط، هما إمامان كما ورد عن الرسول
: ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“ لماذا اختلف موقف الإمامان؟
الإمام الحسن خرج للقتال، قاد الجيش للقتال بعد مقتل أبيه الإمام أمير المؤمنين علي ، خرج الجيش من الكوفة بقيادة الإمام الحسن
حتى بلغ المدائن في مواجهة مع جيش معاوية بن أبي سفيان، ولكن انتهت المعركة بهذا الاتفاق بين الحسن ومعاوية أن الأمر يأخذه معاوية إلى أن يموت ثم يعود للإمام الحسن بشروط اشترطها الإمام الحسن في اثني عشر شرطاً، منها أن لا يقترب من أصحاب الإمام علي
، منها أن يسلم للحسن خراج دار أبجرد في كل عام، منها أن الأمر يؤول له، فإن توفي فإلى الحسين...، إذن لماذا أبرم الصلح؟ لماذا لم يستمر الإمام الحسن إلى أن يُستشهد ويصفى هو ومن معه؟ لماذا أبرم اتفاقية الصلح بينه وبين معاوية؟
اختلف موقف الحسين عن الحسن، الحسن كان رئيس دولة، أما الحسين عندما خرج لم يكن بيده رئاسة الدولة، وهذا يعني أن الإمام الحسن لو خاض المعركة إلى الأخير لن يُقتل هو وبنو هاشم فقط، بل ستكون مجزرة في المسلمين جميعاً بلا تردد، كانت الخطة الأموية هي إبادة كل شيعة أهل البيت الذين التحقوا بالإمام الحسن ، الهدف لم يكن مجرد إسقاط دولة الإمام الحسن بل الهدف هو الإبادة الجماعية، القضاء على كل من التحق بذلك الجيش، الجيش بالآلاف والقضاء عليه يعني القضاء على الكوفة، بمعنى أن يدخل جيش معاوية الكوفة ويسلب وينهب ويقتل ويفعل ما يشاء وبالتالي تعريض الآلاف من المسلمين للإبادة آنذاك، من هنا لو كانت المعركة ستنتهي بقتل الحسن فقط أو ستنتهي بمقتل من معه فقط ربما الإمام واصل القتال والإمام أعلم بموقفه لكن المعركة ما كانت ستنتهي بقتل الحسن فقط، بل بإبادة جماعية ولذلك قال الحسن
: ”إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي.“ وقال في حديث آخر: ”إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو حق لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها“.
وقال في حديث ثالث: ”والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سراً فلأن أسالمه وأنا عزيز أحب إلي من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي بالعفو فتكون سبة على بني هاشم لا يزال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت.“
بينما موقف الإمام الحسين، الإمام اختار الصفوة من أصحابه ما قَبِلَ كل شخص يلتحق معه، اختار الصفوة من أصحابه ممن هم على استعداد للتضحية، اختارهم وذهب بهم إلى أرض كربلاء وقبل أن ينزل كربلاء أبان للناس بما ستنتهي به المعركة، لن يوجد فوز مادي أو نصر عسكري في المعركة، لن يوجد إلا الشهادة «ألا فمن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»
ولذلك عندما خرج الحسين من مكة خرج معه الآلاف، وقبل أن يصل إلى كربلاء تفرقوا عنه عندما سمعوا بمقتل مسلم بن عقيل، وصل إلى كربلاء عنده مئات، ولما جاء اليوم العاشر لم يبقَ معه إلا مئة وعشرون رجلاً بما فيهم بنو هاشم، لأن الحسين خيرهم، قال لهم أنتم بالخيار إذا اخترتم الشهادة تكونون معي، وإذا اخترتم السلام فاخرجوا من كربلاء، ”من سمع واعيتنا فلم يجبنا أكبه الله على منخره في النار“
فالإمام الحسين قابل الموت هو والثلة المنتخبة من أصحابه لم يقابل يزيد بآلاف من المسلمين، قابل الموت هو وثلة من أصحابه، خاضوا تلك المعركة الاستشهادية عالِمين بنتيجتها وعارفين نهايتها ألا وهي الشهادة، لذلك اختلف موقف الحسين
عن موقف أخيه الحسن صلوات الله وسلامه عليهما.
المحور الثالث: معطيات حركة الحسين
.
عدة معطيات نذكرها:
- المعطى الأول: أن حركة الإمام الحسين
أفرزت تحرير إرادة الأمة، كانت الأمة مجمدة تحتاج إلى دم يُبذل وإلى دم يضحي، فالإمام الحسين وهو أغلى دم ضحى بنفسه كي يحرر ويحرك إرادة الأمة، قبل مقتل الحسين كانت الأمة مجمدة متخدرة نائمة، أراد الحسين أو يوقظها ويحرك إرادتها فلم يجد سبيل لتحريك إرادتها إلا هذا الطريق، وفعلاً بمقتل الحسين انفجرت الثورات والحركات، توالت من بعده، فصارت حركة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وصارت حركة المختار الثقفي، وحركة زيد بن علي، وحركة الحسين بن علي صاحب معركة فخ... توالت الثورات والحركات امتداد لثورة كربلاء وحركة كربلاء.
- المعطى الثاني: إعادة العزة للأمة، الإمام الحسين أعاد للدين عزته، أعاد للدين نبضه، أعاد للدين رونقه وبهجته، وهذا ما ركز عليه يوم عاشوراء، قال: "ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» لأن الله يقول في كتابه: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]
- المعطى الثالث: تربية الأمة على رفض الظلم ورفض الطغيان، في يوم عاشوراء لما خطب فيهم قال: ”أيها الناس لقد سمعنا ممن سمع من رسول الله
أنه قال من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله فلم يغير عليه بقول ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً.“ وأقدم على ذلك المشروع وعلم الأمة هذا الهدف وهذه القيمة ألا وهي رفض الظلم والطغيان.
- المعطى الرابع: التضحية والبذل من أجل الدين، علمنا الحسين أن نبذل أموالنا، أن نبذل أوقاتنا، أن نبذل جهودنا، أن نبذل ما عندنا في سبيل الدين، لا يوجد شيء أغلى من الدين، تضحيته تعليم للأمة للبذل والعطاء من أجل الدين، قال
: ”ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر، وأيم الله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكون أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون.“
- المعطى الخامس: الوصول بالأمة آنذاك إلى مرحلة التسليم، علماء الأخلاق يقولون: مراتب الارتباط بالله ثلاث: التوكل، الرضا، والتسليم.
الإنسان إذا أصابته مصيبة أو ألمت به نائبة يرتبط بالله، في المرتبة الأولى التوكل على الله ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] التوكل على الله أي أن يفوض الأمر لله لأن الله سيفعل به ما هو خير له.
وفي المرتبة الثانية الرضا، أن يرضى بالمصيبة، وهي مرتبة صعبة على الإنسان، وفي المرتبة الثالثة ألا وهي مرتبة التسليم وتعني أن تعتبر نفسك مُلْكاً لله والله يتصرف في ملكه بما يريد، أن تصل إلى مرتبة التسليم هو أعلى المراتب، الحسينيوم عاشوراء وصل إلى هذه المرتبة بل أبان هذه المرتبة التي وصل إليها وقال: اللهم رضى بقضائك وتسليماً لأمرك، يا غياث المستغيثين، هون ما نزل بي أنه بعين الله.
صحيح قتلت أطفالي وأولادي وأهلي لكن ذلك كله قربة لله وفي سبيل الله، ”هون ما نزل بي أنه بعين الله تبارك وتعالى.“ وقال: ”أنا الحسين بن علي آليت أن لا أنثني أحمي عيالات أبي، أمضي على دين النبي“