هنالك أدلة تثبت وجود الخالق، وهنالك أدلة أخرى تثبت العكس، فمن بدل أن نثبت وجود خالق، أريد إثباتا بأن وجود خالق يتطلب وجود دين علينا تطبيقه أصلا.
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية، لا يوجد أدلة تنفي وجود الخالق، وإنما هناك مناقشة للأدلة، أما بالنسبة للأسئلة، فإجاباتها كالآتي:
وكذلك نقول: أن الذي أوجد كل عوامل الحياة في الكون بدقة رياضية بارعة، يعني ذلك أن له هدفا من إعطاء الحياة، والذي أوجد الإنسان مزودًا بكل عوامل القوة والنشاط وجعله قادرًا على بناء أعظم حضارة، يعني ذلك أن له هدفًا من وجود الإنسان، وذلك الهدف هو إعمار الكون وانتشار العدل، وأن تسود البشرية لغة القيم الإنسانية من الصدق والأمانة والإيثار.
وهذا هو الدين، فإن الدين ليس مجرد طقوس، بل هو القيم والمهارات التي تبعث الحياة، فإن هذا هو الهدف الذي ينسجم مع خالق فجّر ينابيع الحياة في الكون كله. قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي أن الهدف من وجودكم هو إعمار الارض، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»، أي العدالة، وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ»، وتجسيد العدالة قيمًا وسلوكًا هو العبادة التي قال عنها تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
أ. دليل حساب الاحتمالات: وبيانه أن النتيجة إذا كانت أكبر من المقدمة، فإنها تكشف عن تدخل يد من الخارج أسهمت في تحقيق النتيجة، مثلا إذا أرسل لك طفل في السادسة من عمره في الصف الأول الابتدائي رسالة، فقرأتها ووجدت قصيدة بديعة جدًا يحتاج إنشاؤها إلى براعة في الشعر، وخبرة طويلة في فنون الأدب، فإنك بأول وهلة يحكم عقلك أن هناك يدًا أخرى هي التي صاغت القصيدة وليس الطفل، والسبب في ذلك أن النتيجة - وهي القصيدة البديعة - أضخم بكثير من حجم المقدمة - وهي المستوى البدائي للطفل -، فكذلك الأمر في رسالة الإسلام، فإن الإنسان إذا قام بمقارنة بين المقدمة وهي صفات النبي محمد قبل الإسلام، وبين القرآن الذي جاء به، يعرف أن القرآن يستحيل إنشاؤه من قبل النبي ، لأن النتيجة أكبر من المقدمة، فالمقدمة هي: النبي ، وصفاته هي: أنه أمّي لم يحضر عند معلم، ولا استفاد من مدرس، ولم تكن له أي علاقة بعالم الشعر والأدب، ولم يمارس هذه المهارة أبدًا، بل كان مشغولا بتجارة خديجة بنت خويلد، ولم تكن له أية علاقة بعلماء النصارى واليهود حتى يستفيد من معلوماتهم، وإذا بذلك الأمي غير المتعلم المنقطع عن عالم الفكر والبلاغة يأتي الناس بكتاب فريد في ظرف مجيئه، لعدة جهات:
- الجهة الأولى: إن القرآن مملوء بلاغة وفنونًا أدبية راقية متنوعة عجز المجتمع العربي عن مجاراته فيها، رغم رواج فنون الأدب وأساليب البلاغة في المجتمع.
- الجهة الثانية: إن القرآن ضم في ثناياه لائحة قانونية لم يكن لها سابقة في التاريخ البشري، حيث تنوعت إلى قوانين للمعاملات الاقتصادية، وقوانين للإرث والحدود، وقوانين للعبادة والقيم السلوكية.
- الجهة الثالثة: أنه تحدث عن الكون والطبيعة في عدة آيات، وطرح عدة معلومات لم تكتشف إلا في العصر الحاضر.
- الجهة الرابعة: إنه ضم مادة تاريخية مفصلة منذ قصة آدم وحواء إلى يوم النبي .
- الجهة الخامسة: أن القرآن ضم مادة تربوية مؤثرة في تركيزه على القيم الإنسانية.
فإذا لاحظنا عظمة القرآن من حيث عظمة المعلومات التي ضخت فيه، والنسق الأدبي الذي يجمع آياته كلها، فهذه هي النتيجة التي تعني المستوى المتفوق من الفكر القرآني، وإذا قمنا بالمقارنة بين هذه النتيجة والمقدمة وهي مؤهلات النبي ، حصل لنا جزم بأن النبي لا يقدر على صياغة القرآن، وأن هناك يدًا غيبية هي التي صاغت القرآن، وحيث لا يوجد أي ارتباط بين النبي وعلماء الأديان الأخرى، وأن المستوى البلاغي، والتربوي، والقانوني، فوق المستوى البشري المعهود، فإن العقل يحكم بلا تردد بأن يد الغيب الإلهي هي التي أنزلت القرآن على النبي .
ب. أن الدين الإسلامي فيه ما في الأديان الأخرى وزيادة، لذلك ينبغي للعاقل المتأمل أن يسير على طبق هذا الدين وتعاليمه.
وهناك رأي آخر، وهو أن المعجزة ليست ظاهرة متحررة من المنهج العلمي، بل المعجزة هي الظاهرة المستندة لأسباب مادية غير ظاهرة للعيان.
وهذا أمر ممكن الوقوع، ولا يرفضه العقل، مثلا: عندما قال وزير سليمان - كما ذكر القرآن -: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، فالمقصود بذلك أن نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين ليس حدثًا لا يخضع للمنطق العلمي، بل هو في إطار العلم، ويعني ذلك أن الوزير استخدم وسائل علمية مادية لنقل العرش في لحظة، ولكن هذه الوسائل ليست مقدورة للمجتمع البشري، لذلك اعتبرها القرآن معجزة.
ومن هذا القبيل إسراء النبي من مكة إلى بيت المقدس، فهو ليس حدثًا متحررًا من الأسباب العلمية المادية، بل هو منها، ويعني ذلك أن النبي جهزت له الوسيلة المادية التي تحفظ التوازن، وتهيئ الأكسجين اللازم للحياة، وتتحرر من هيمنة الجاذبية، لكن لما كانت هذه الوسيلة غير ميسورة كان ذلك معجزة له ، وأيضا ولادة عيسى من دون أب كانت عبارة عن استخدام خلية من خلايا الأم لتلقيح بذرة الجسم البشري، وهذا ما يؤكد إمكانه في العصر الحاضر موضوع الاستنساخ، بحيث يتم عبر معالجة لبعض خلايا الأم التي تسهم في تولد الجنين من غير أب.
وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن المعجزة أمر نسبي، فما هو معجزة في زمن للجهل بأسبابه لا يكون معجزة في زمن آخر.
وعند المعروف بين العلماء: أن الإعجاز يبقى إعجازًا حتى مع قدرة العلم على تفسيره وتمكنه من تكراره، لأن هذه المعجزة حين حدوثها اعتمدت على القواعد العلمية، ولكن الوسيلة المعتمدة كانت وسيلة إلهية لا بشرية، وهذا هو وجه الإعجاز فيها، فمثلا إذا لاحظنا الفرق بين القلب الحقيقي والقلب الصناعي، وبين اليد الحقيقية واليد الصناعية، فهنا قد نقول أن الوظيفة الجسدية التي يمارسها القلبان واحدة وهي: تجديد الدورة الدموية، ولكن الوسيلة الإلهية وهي القلب الطبيعي تظل معجزة، لأن البشرية وإن اكتشفت محتواه، وعرفت وظائفه، وتمكنت من صنع مثله، لكن يظل هو الوسيلة الأقوى عملا والأكثر انسجامًا مع الجسم، ومجمعًا للأسرار العلمية والاكتشافات الطبية.
لذلك عندما يسألنا أي إنسان: أين المعجزات الإلهية التي تدل على الإبداع الإلهي، والذي يعجز المجتمع البشري عن تكراره؟ نقول له: ببساطة إن أول معجزة بين أيدينا هي حبة القمح، فإن المجتمع البشري قادر بواسطة التطور التكنلوجي أن يخترع مركبة فضائية، لكنه عاجز عن صنع حبة قمح في المعمل تحمل بين طياتها شرارة الحياة، بل يحتاج وجودها إلى إعداد بشري ومدد إلهي، مع أن المجتمع البشري عارف بمحتوى حبة القمح ودورها، وأعظم من هذه المعجزة: قلب الإنسان، ودماغه، وهكذا.
النقطة الأولى: أن الهدف من الدين ليس هو العبادة فقط، وإنما إعمار الارض ونشر القيم الإنسانية، والصلة بالله.
النقطة الثانية: أن الصلة بالله ليست طقوسًا وممارسات عمياء، بل الهدف من هذه الصلة التي نعبر عنها بالصلاة والصوم: أن تكون حافزًا للإنسان نحو العطاء، ورقيبًا داخليًا يمنع الإنسان من ارتكاب الرذيلة والظلم الاجتماعي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
النقطة الثالثة: أن وجود بعض المناطق في الأرض لا تعرف الدين أمر لا ينافي حكمة الله تعالى، ولا يلغي هدفه من تشريع الدين، لأنه تعالى لا يريد أن تؤمن الناس بالدين وتتعامل به قسرًا ومن دون رغبة، فإن الدين سلوك عملي فاعل، فإذا جاء السلوك من دون رغبة، أو مع الجهل بأهدافه، لم يحقق إنجازًا ولا أثرًا في سعادة المجتمع البشري، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وقال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
وهذا الأمر شائع في عرف القوانين البشرية، فمثلا لو أن الدولة أسّست نظامًا تعليميًا حرًا متقنًا بهدف نشر الوعي والمعرفة، وقامت بتبليغ النظام من خلال جميع وسائل البث، ولكن بقيت مناطق في الدولة تجهل أهداف النظام، أو ترفض التعامل به، فإن ذلك لا يتنافى مع حكمة الدولة، ولا يلغي أهدافها أبدًا، فإنها أرادت إيصال الخير والوعي لمن يرغب فيه من فئات الشعب، ويتفاعل مع أهدافه، وكذلك الله أراد أن يصل صوت الدين لرقعة كبيرة من البشرية، وأن تقوم هذه الرقعة بتبليغه بالطرق الاختيارية المتاحة التي تختلف باختلاف الأزمنة والظروف، فلو بقيت مناطق تجهل الدين أو ترفضه، لم يشكل ذلك خللًا في الدين في نفسه، ولا فشلًا في أهدافه.