حول آية التطهير
محمد - الأحساء - 22/03/2014م
سماحة السيد منير الخباز - حفظه الله -

هذا المقال يرد على ما يذهب إليه الشيعة الإماميّة من نزول آية التطهير في الخمسة أصحاب الكساء، وهو ردّ على ما ذكره بعض علمائنا، وأريد منكم أن تردوا عليه بالجواب الشافي سائلا المولى الجليل أن يحفظكم ويرعاكم:

«أولا»: إن آية التطهير ليست آية كاملة بل هي جزء من آية، جاءت في سياق خطاب نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ؛ والصحيح أنها نازلة في نساء النبيّ خاصة بصريح القرآن، ولا علاقة لها بعليٍّ وفاطمةَ وحَسنٍ وحُسين «عَلَيْهِم السَّلامُ»، وتغيّر الضمير هو لدخول النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ معهنَّ، والإرادة تشريعيّة، و«إنما» تعليلية لحصر الهدف من التشريع لا لحصر المستهدَف، وتغير الضمير لا يخرج الآية عن سياقها أو مدلولها.

«ثانيًا»: الردّ على ما ذكره بعض علماء الشيعة حول آية التطهير:

1 - «مقتضى سياق الاية»: قال بعض علمائهم: عندنا اصطلاح في علم الاُصول، يقولون: بأنّ السياق قرينة في الكلام، أي أنّه متى ما أردنا أن نفهم معنى كلام أو معنى كلمة، نراها محفوفةً بأيّ كلام، وفي أيّ سياق، فالألفاظ التي تحفّ بهذه الكلمة، والسياق الذي جاءت الجملة في ذلك السياق، يكون معيناً لنا أو معيّنا لنا على فهم المراد من تلك الكلمة أو الجملة، هذا شيء يذكرونه في علم الاصول، وهذا أيضاً أمر صحيح في مورده ولا نقاش فيه. إلاّ أنّ الذين يقرّرون هذه القاعدة، ينصّون على أنّ السياق إنّما يكون قرينة حيث لا يكون في مقابله نصّ يعارضه، وهل من الصحيح أن نرفع اليد عمّا رواه أهل السنّة في صحاحهم وفي مسانيدهم وفي سننهم وفي تفاسيرهم، عن اُمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما من كبار الصحابة: أنّ الاية مختصّة بالنبيّ وبالأربعة الاطهار من أهل البيت، نرفع اليد عن جميع تلك الاحاديث المعتبرة المعتمدة المتفق عليها بين المسلمين، لأجل السياق وحده، حتّى ندّعي شيئاً لاُمّ سلمة أو لعائشة، وهنّ ينفين هذا الشيء الذي نريد أن ندّعيه لهنّ؟!

[الجواب]: كان من الواجب عليكم أولاً أن تفهموا القرآن من خلال القرآن وسياق الكلام والقرائن المحيطة بجوّ الآية ثم تردّوا أحاديث الكساء جميعها لمعارضتها القرآن، لا أن تقدّموا هذه الأحاديث لتخرجوا جزءًا من الآية عن سياقه ومدلوله فتجعلونه نصًّا مُقحمًا بلا وجهٍ معقول ولا قرينة مقبولة مما يُحدِث خدشًا صارخًا في البلاغة القرآنية.

أمّا أحاديث الكساء فباطلة موضوعة مكذوبة بأجمعها ولا قيمةَ لتواترها مع معارضتها القرآن.

ثمَّ إنّ من يريدُ تعريفَ الناس بأهل بيته لا يختبئ في دار أم سلمة مستغلا انشغالها بالصلاة ثمّ يخفي نفسه وأهله تحت الكساء لئلا يراهم أحد ويقول: «اللهم هؤلاء أهل بيتي...» بل يخرج إلى الناس مُعرفًا بهم.

2 - قال بعض علمائهم:... الارادة تارةً تكوينيّة وأُخرى تشريعيّة، وكلا القسمين واردان في القرآن الكريم، ولله سبحانه وتعالى إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، ولا خلاف في هذه الناحية أيضاً. لكن المراد من «الارادة» في الاية لا يمكن أن يكون إلاّ الارادة التكوينيّة، لان الارادة التشريعيّة لا تختص بأهل البيت، سواء كان المراد من أهل البيت هم الاربعة الاطهار، أو غيرهم أيضاً، الارادة التشريعيّة لا تختصّ بأحد دون أحد، الارادة التشريعيّة يعني ما يريد الله سبحانه وتعالى أن يفعله المكلَّف، أو يريد أن لا يفعله المكلّف، هذه الارادة التشريعيّة، أي الأحكام، الاحكام عامّة تعم جميع المكلّفين، لا معنى لان تكون الارادة هنا تشريعيّة ومختصّة بأهل البيت أو غير أهل البيت كائناً من كان المراد من أهل البيت في هذه الاية المباركة، إذ ليس هناك تشريعان، تشريع يختصّ بأهل البيت في هذه الاية وتشريع يكون لسائر المسلمين المكلّفين، فالإرادة هنا تكون تكوينيّة لا محالة. «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس» و«الرجس» إذا رجعنا إلى اللغة، فيعمّ الرجس ما يستقذر منه ويستقبح منه، ويكون المراد في هذه الاية الذنوب، «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس»، أي إنّما يريد الله بالإرادة التكوينيّة أن يذهب عنكم الذنوب أهل البيت، ويطهّركم من الذنوب تطهيراً، فهذا يكون محصّل معنى الاية المباركة.

[الجواب]: لقد تكلّف هؤلاء القوم في إثبات هذا المعنى الساقط الذي لا يوجد إلا في مُخيّلتهم فلا أحدَ يفهم من الحصر في الآية ما ذكروه من الاختصاص بل هو معنى غير واردٍ أصلا؛ فكُلّ من يقرأ الآية مهما كان مستواه العلمي يفهم المعنى التالي: يقول تعالى مخاطبًا أزوج النبيّ: والْزَمْنَ بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ولا تُظهرن محاسنكن كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى سابقًا وأدِّين - يا نساء النبيّ - الصلاة كاملة في أوقاتها وأعطين الزكاة كما شرع الله وأطعن الله ورسوله في أمرهما ونهيهما إنما أوصاكن الله بهذا؛ ليزكيكنَّ ويبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي «أي زوجاته» ويطهِّر نفوسكم غاية الطهارة.

هذا هو معنى الآية كما يفهمه الجميع وتغيّر الضمير لا يخرج المقطع عن سياقه ومدلوله وإلا سقط بلاغيًّا. فالإرادة هنا تشريعية والحصر في الآية لا يدلّ على اختصاص ولا أحد يفهم هذا المعنى الذي ذكروه بل هو معنى غير وارد مطلقًا؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

«مثال توضيحي» «ومن المعضلات توضيح الواضحات»: لو سمع الناسُ شخصًا ينصح أحد أبنائه قائلا: «لا تغضبْ لا تيأسْ لا تستعجلْ؛ إنما أريدُ لك الخير - يا بُنَي - والصلاح». فمع أنَّ الخطاب موجّهٌ لأحدِ الأبناء ولكنَّ أحدًا من الناس لا يفهم من كلمة «إنّما» هُنا أنَّ هذا الأب الناصح قد حصر وقصر إرادته الخير والصلاح لهذا الولد وحدَه دون أبنائه الآخرين أو الأشخاص الآخرين لمجرّد خطابه هذا ولكن لما كان الكلام مُوجّهًا لهذا الابن جاز أن يُعلّل له نصحه ويحصره في هدف واحد وهو أنَّ سبب نصحه له إرادة الخير له مع عدم امتناعها عمّن سواه.

فمن أين فهم هؤلاء القوم أنَّ الحصر في الآية دالٌّ على ما ذكروه من معنى لا يخطر في ذهن أحد؟!

3 - «الارادة التكوينية والجبر» قال بعض علمائهم: ويبقى سؤال: إذا كانت الارادة هذه تكوينيّة، فمعنى ذلك أن نلتزم بالجبر... وقد أجاب علماؤنا عن هذه الشبهة في كتبهم بما ملخصه: إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا علم أنّ هؤلاء لا يفعلون إلاّ ما يؤمرون، وليست أفعالهم إلاّ مطابقةً للتشريعات الالهيّة من الافعال والتروك، وبعبارة أُخرى: جميع أفعالهم وتروكهم تكون مجسّدة للتشريعات الالهيّة، جميع ما يفعلون ويتركون ليس إلاّ ما يحبّه الله سبحانه وتعالى أو يبغضه ويكرهه سبحانه وتعالى، فلمّا علم سبحانه وتعالى منهم هذا المعنى لوجود تلك الحالات المعنويّة في ذواتهم المطهّرة، تلك الحالة المانعة من الاقتحام في الذنوب والمعاصي، جاز له سبحانه وتعالى أن ينسب إلى نفسه إرادة إذهاب الرجس عنهم. وهذا جواب علميّ يعرفه أهله ويلتفت إليه من له مقدار من المعرفة في مثل هذه العلوم، والبحث لغموضه لا يمكن أن نتكلّم حوله بعبارات مبسّطة أكثر ممّا ذكرته لكم...

[الجواب]:

أولا: هذه ليست شبهة بل هي حقيقة واقعة فالقول بأنّ الإرادة في آية التطهير تكوينيّة يعني الالتزام بمنطق الجبر الباطل.

ثانيا: بالنسبة لجوابهم عن هذا الإشكال:

إن كان المراد منه أنّ الإرادة المرتبطة بتكليف الأئمة «عَلَيْهِم السَّلامُ» هي في الأصل إرادة تشريعيّة فلما عَلِمَ الله أنَّ أفعالهم وتروكَهم ستكون مطابقةً للتشريعات الإلهيّة حوّلها سبحانه من إرادة تشريعية إلى إرادة تكوينية. فإن كان هذا المعنى هو المقصود من جوابهم فحيث علم الله من هؤلاء أنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة والعبودية، تعلقت إرادته التكوينية بهم فطهّرهم من كلّ رجس، فعِلمه بهم منشأ لهذه الإرادة التكوينية.

فهذا الجواب لا ينفي إشكالية الجبر بل يُرسّخها ويظل الإشكال قائمًا.

أمّا إذا كان المقصود من جوابهم هذا أنّ الإرادة المرتبطة بتكليفهم «عَلَيْهِم السَّلامُ» هي إرادة تشريعية فلما عَلِم الله منهم طاعتَهم المطلقة عبّر عن هذه الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية تعبيرًا مجازيًّا أو نَسبها إلى نفسه بالإرادة التكوينية نِسبةً مجازيّة. فمن المعلوم أنَّ التعبير المجازي عن الشيء لا يُغيّر من حقيقته فإن كانت الإرادة تشريعية بقيت كما هي والتعبير عنها بالتكوينية مَجازًا لا يُحوّلها إلى تكوينية حقيقة فلا ينفي هذا الجواب إشكاليّة الجبر بل لا علاقة له بأصل الإشكال.

وهكذا ترى أنَّ جوابهم هذا ليسَ جوابًا علميًّا ولا منطقيًّا بل هو أقربُ إلى الهذَيَان؛ لذلك لم يُقبَل من بعض العلماء فبحثوا عن جوابٍ غيره وتعددت الأجوبة غير المقنعة.

[تتمة]: أعرض الشيخ الفاضل اللنكراني في بحثه حول آية التطهير عن هذا الجواب وعن أجوبة أخرى ساقطة واتّجه اتجاهًا آخر أرادَ منه أن يُخرج الآية من هذا الإشكال العويص؛ فادّعى أنّ مُتعلق الإرادة هو إبعاد الذنب عن أهل البيت لا منعهم عن ارتكابه، وقد أجهد نفسه في توضيح هذا المعنى بلا طائل؛ إذ ليس ثمّة فرق بين الأمرين.
الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

أما الشبهة الأولى فترد عليها عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: إن السياق القراني  كأي سياق آخر  إنما هو حجة في القدر المشترك بين الآيات، وليس حجة في الخصوصية، فمثلاً إذا افترضنا أن خطيباً تحدث في خطابته عن موعظة التذكير بعذاب القبر، وتحدث عن موعظة التحذير عن أكل الربا، وتحدث عن موعظة التذكير بعواقب عقوق الوالدين، وأمثال ذلك؛ فإن سياق خطابه بحسب قواعد علم البلاغة قرينة على معنى مشترك بين هذه المقاطع كلها، وذلك المعنى المشترك بين المقاطع كلها هو أنه في مقام الموعظة والتحذير، ولا يكون المقطع الأول قرينة على أن المراد من المقطع الثاني هو نفس خصوصيات المقطع الأول، فهذا لم يقل به أحد، فالسياق القراني  كأي سياق آخر  إنما هو قرينة على وجود معنى مشترك بين المضامين المذكورة في الآيات، سواء كانت في آيات سورة أو في جُمل آية واحدة، لا أنه قرينة على اتحاد جميع الفقرات في جميع الخصوصيات، فهذا يتنافى مع قواعد علم البلاغة، وبالتالي هذه الآية القرانية الواردة في الحديث مع زوجات النبي سياقها قرينة على وجود جامع مشترك ومعنى مشترك بين الحديث عن نساء النبي وبين الحديث عن أهل البيت وهم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، والجامع المشترك هو إرادة كون بيت النبي المؤلف من زوجاته وذريته هو القدوة لجميع بيوت المسلمين، فهو في مقام بيان هذا المعنى وأن هذا البيت هو قدوة لجميع بيوت المسلمين، فتحدث في فصل من هذا السياق عن نساء النبي، وفي فصل آخر عن ذرية النبي من أهل البيت.

الملاحظة الثانية: إنه لا يمكن الاستناد إلى دلالة السياق مع اختلاف القرينة اللفظية؛ فإن القرينة اللفظية  كما يذكر علماء البلاغة  أقوى ظهوراً من القرينة السياقية، ومع وجود قرينة لفظية في نفس الآية؛ حيث غيّر ضمير المخاطب، فبعد أن كان يخاطب بنون النسوة ويقول ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، عبّر بضمير الجمع حيث قال ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فمع وجود قرينة لفظية على أن المراد بالمقطع الثاني غير المراد بالمقطع الأول لا يمكن الرجوع إلى القرينة السياقية؛ فإن القرينة اللفظية أقوى ظهوراً وحاكمية على القرائن السياقية.

الملاحظة الثالثة: لا يمكن الرجوع في تفسير الكتاب إلى ألفاظ الكتاب وحده، بل لابد من الرجوع إلى السنة؛ فإن الكتاب نفسه قد حث على الرجوع إلى السنة؛ حيث قال ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وقال في آية أخرى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وقال تبارك وتعالى ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إذن فالكتاب نفسه حثّنا على أن لا نقتصر في فهم الكتاب على ألفاظ الكتاب وحدها، بل لابد من الرجوع إلى السنة النبوية كمفسر لهذا الكتاب.

وهذه الأخبار الواردة في أحاديث الكساء هي مفسر للكتاب وليست معارضاً له.

الملاحظة الرابعة: إنه لو كانت النسبة بين هذه الأخبار ولبين الكتاب نسبة التباين لأمرنا بطرحها؛ فإن القاعدة التي تقتضي طرح الخبر المعارض هو ما إذا كان مضمونا الخبر مصادماً مع مضمون الكتاب، لا ما إذا كان مضمون الخبر مفسّراً لمضمون الكتاب؛ فإذا قالت الآية المباركة ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وجاءتنا رواية عن النبي «نهى النبي عن بيع الغرر» فلا يمكن طرح الرواية بدعوى أنها مصادمة للكتاب؛ لأن الكتاب أحل كلَّ بيع، وجاءت الرواية عن النبي تفسر لنا أن البيع الذي يكون موضوعاً للحلية في الآية إنما هو البيع غير الغرري، فهذه الرواية يؤخذ بها كمفسّر للرواية لا كمعارض له.

وفي المقام قالت الآية المباركة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، ويحتمل أن المراد بأهل البيت مثلاً نساء النبي، ويحتمل أن المراد بأهل البيت ذرية النبي، فجاءت الرواية لتبيّن أن المراد بأهل البيت هم خصوص ذريته، فليس هناك أي مصادمة؛ لأن اللفظ المذكور في الكتاب مطلق، والرواية مقيِّد، ولا تعارض ولا تباين بين المطلق والمقيّد.

الملاحظة الخامسة: إن هذه أحاديث صحيحة، وليست أحاديث مكذوبة وموضوعة؛ فقد رواها مسلم في صحيحه، ورواها أحمد بن حنبل، ورواها الترمذي، ورواها الحاكم في مستدركه، فبعد رواية أكثر المصادر لها، بل المصادر الصحيحة عند أهل السنة فدعوى أنها موضوعة مكذوبة تكذيب للأحاديث التي ثبتت عن النبي .

الملاحظة السادسة: عن النبي لم يكن في مقام التعريف بأهل البيت حتى يخرج إلى الناس ويعرفهم، فإن لكل مقام مقالاً يناسبه، فإن النبي لمّا كان في مقام التعريف بأهل البيت ذكر ذلك أمام الملأ، فقال في حديث الثقلين «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وقد قاله في حجة الوداع، ورفع يد علي بن أبي طالب في غدير خم وقال «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه»، وقال في حديث المنزلة مخاطباً علياً «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، وقال في حديث الدار «من منكم يؤازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم» فأحجم القوم إلا علي فقال «اشهدوا أن هذا أخي ووصيي وخليفتي»، إذن الأحاديث التي كانت في مقام التعريف بأهل البيت صدرت من النبي في الأجواء العامة التي تجمع المسلمين، وأما هذا الحديث  الذي هو حديث الكساء  فقد صدر لتعريف نساء النبي أنهن لسن من أهل البيت، ولم يكن في مقام تعريف أهل البيت لعامة المسلمين، بل كان في مقام بيان أن نساء النبي لا يدخل ضمن عنوان أهل البيت، فلذلك أسدل الكساء وقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي» ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

وأما الشبهة الثانية فيرد عليها:

إن الآية المباركة دلت على حصر إرادة الله سبحانه وتعالى في شؤون أهل البيت بإرادة تطهيرهم، فلا يخلو إما أن تكون الإرادة تشريعية، أو إرادة تكوينية، ولا يوجد قسم ثالث للإرادة.

فلو كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية، فالإرادة التشريعية هي عبارة عن الأمر والنهي، ومن الواضح أن الأمر بالطهارة لا يختص بأهل البيت بل يعم جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أراد تطهير جميع المسلمين كما ذكر في قوله عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، وقال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، فلو كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية فلا معنى لحصرها، بل يكون الحصر منافياً مع الواقع، حيث إن الإرادة التشريعية للتطهير لا تختص بأهل البيت ، فلا محالة من أن مقتضى حصر الإرادة في تطهيرهم أن المراد بالإرادة هي الإرادة التكوينية، بمعنى أنه جعلهم طاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإلا لجاء إشكاله في قوله عز وجل ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فنقول لا دليل على كون الإرادة في هذه الآية تكوينية! ومجرد الحصر لا يدل على كونها تكوينية! مع أنه لا يشكّ عاقل يفهم القران الكريم في أن المراد بهذه الإرادة في الآية الكريمة إرادة تكوينية؛ إذ لا معنى لحصر أمره في إرادة التكوين ما لم تكن الإرادة إرادة تكوينية، وكذلك الأمر في المقام.

وأما الشبهة الثالثة فيرد عليها:

أولاً: لا ملازمة بين كون الإرادة تكوينية وبين الجبر؛ فإن هذا ناشئ عن عدم فهم معنى العصمة، فالعصمة التي هي بمعنى الطهارة ناشئة عن العلم، وغرس العلم في نفس العالم لا يوجب جبره على الالتزام بعلمه، فهذا نظير أن الله عز وجل غرس في قلب النبي علم القران حيث قال ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194»، فهل معنى ذلك أن النبي مجبور على العمل بهذه المعلومات القرآنية التي غُرست في قلبه؟! وهل معنى ذلك أن إرادة نزول القران على قلب النبي كانت إرادة تشريعية؟! بل كانت إرادة غرس علم القران في قلب النبي إرادة تكوينية، ولم يترتب عليها الجبر؛ لأن متعلق هذه الإرادة هو العلم، وليس متعلقها هو العمل، ففرق بين أن تتعلق الإرادة بالعمل وبين أن تتعلق بالعلم.

فمعنى إرادة العصمة أن الله عز وجل أراد العصمة تكويناً بمعنى أنه غرس في قلوب هؤلاء الصفوة علماً يقينياً بثمرات الطاعة ومفاسد المعصية، فأصبحوا يعلمون بثمرات الطاعة وبمفاسد المعصية كما يعلمون عدد أصابعهم الخمسة، فإن العصمة بمعنى الطهارة منشؤها علمٌ يقيني بدرجة حق اليقين الذي إذا حصل للإنسان انصرفت نفسه بشكل اختياري عن مداولة المعصية، وانصرفت نفسه بشكل إرادي إلى ممارسة الطاعة.

وهذا نظير أن يعلم الإنسان علماً حسيّاً بقذارة البول وقذارة المني؛ فإن علمه بقذارة البول وبقذارة المني لا يجبره على ترك البول والمني، بل ما زال ترك شرب البول وترك شرب المني أمراً اختيارياً للإنسان، إلا أن علمه بقذارتهما علماً بديهياً واضحاً أو جب أن ينصرف عن شربهما باختياره، كما أن علم الإنسان علماً بديهياً واضحاً بلذة التفاح مثلاً لا يجبره على أكل التفاح وإنما يوجب أن تنصرف نفسه إلى أكل التفاح انصرافاً اختيارياً.

فالعصمة هي طهارة ناشئة عن علم يقيني بنحو حق اليقين، وهذا العلم اليقيني لا يوجب الجبر ولا انسلاب الإرادة، بل يوجب انصراف النفس إلى فعل الطاعة وترك المعصية عن اختيار وإرادة، كما هو حاصل بالنسبة لعلم الإنسان بقذارة البول والمني.

فإذا كانت هذه هي العصمة فإرادتها من الله إرادة تكوينية لا تستلزم الجبر أصلاً كما أوضحناه.

ثانياً: إن حمل الألفاظ على المجاز من دون قرينة يتنافى مع أسس علم البلاغة، فمقتضى حجية الظهور أن يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة صارفة عن ذلك، وحمل هذه الألفاظ الواردة في الآية على معانيها الحقيقية هو المتطابق مع أصالة الحقيقة، ولا موجب لحملها على المعنى المجازي.

وأما الشبهة الرابعة فيرد عليها:

إن المقصود الشيخ اللنكراني قدس سره أن الإرادة التكوينية تعلّقت بإعدادهم بنحو يبتعدون عن الذنوب باختيارهم، ولم تتعلق بمنعهم عن مزاولة الذنوب، نظير علم الله بفعل الإنسان؛ فإن هذا السؤال يرد على صاحب هذه المناقشة فيقال له: إذا فعل الإنسان المعصية:

فإما أن الله كان يعلم أن هذا سيفعل المعصية، فلابد أن يفعل المعصية حتى لا يلزم انقلاب علم الله إلى جهل، والله عالم بكل شيء.

وإما أن لا يعلم بفعل العبد للمعصية، وهذا مستلزم لجهله تبارك وتعالى.

والجواب عن هذه الشبهة: أن ما تعلق به علم الله عز وجل هو فعل العبد للمعصية عن اختياره، فقد تعلق علم الله تبارك وتعالى بالمشروط بما هو واجد لشرطه، ولم يتعلق بالنتائج، بل تعلق بفعل العبد للمعصية بشرط اختياره لها، فإذا تعلق بهذا المشروط فلابد أن يتحقق المشروط نفسه؛ إذ لو تحققت المعصية من دون اختيار من العبد لتخلف معلوم الله عمّا حصل في الخارج، وهذا يستلزم نسبة الجهل إليه.

فكما أن الله في علمه بأفعال العباد قد علم بها بما هي مشروطة بالاختيار، فكذلك علم الله عز وجل بفعل المعصوم، فهو قد علم بأن المعصوم ينصرف إلى الطاعة وينصرف عن المعصية باختياره الناشئ عن ذلك العلم اليقيني الذي وهبه الله إيّاه، وهذا هو مقصود الشيخ اللنكراني.

السيد منير الخباز
أرسل استفسارك