درس الأصول | 008

دوران الامر بين الاقل والأكثر في الشبهة المصداقية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام فيما اذا شك في المحصل، فهل تجري قاعدة البراءة ام تجري قاعدة الاشتغال. وقلنا هناك اتجاهين: الاتجاه الاول: جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في المحصل سواء كان المحصل شرعيا ام عرفيا ام عقليا. وهذا المسلك هو مسلك المشهور، وقد استدل عليه المحقق النائيني «قده» ببيانين:

الأول: يتعلق بما اذا كان المحصل عقلياً واقعياً، كما اذا افترضنا ان الشارع أمرنا بذبح هدي مذّكى، أي أن المأمور به في حق المحرم للحج أن يطعم الفقراء هدياً مذكى، وافترضنا ان التذكية صفة واقعية في اللحم، ولكن السبب الذي يؤدي الى هذه الصفة الواقعية هو الذبح بشرائط معيّنة، فما هو المأمور به اطعام الفقراء هديا مذكى والتذكية محصل واقعي سببه هو الذبح بشرائطه، فإذا شككا في بعض الشرائط هل ان الذبح بالحديد دخيل في حصول التذكية واقعاً ام لا؟

فهل تجري حينئذٍ أصالة البراءة ام لا؟ فهنا افاد المحقق النائيني بان اصالة البراءة لا تجري والوجه في ذلك:

انه ما دام المسبب أمراً تكوينياً فسببية الذبح اليه سببية تكوينية، والسببية التكوينية لا تنالها يد الشارع وضعا فلا تنالها رفعا، فبما ان السببية امر تكويني لا يقع تحت يد الشارع جعلاً ووضعاً، إذن فلا يمكن رفعها بأدلة البراءة، لأن الرفع إنما يصح فيما هو قابل للوضع، وما ليس قابلا للوضع فلا تشمله أدلة الرفع، فإذا لم تشمله أدلة الرفع وشككنا هل تتحقق التذكية الواقعية بذبح غير الحديد ام لا؟ فمقتضى قاعدة الاشتغال الاقتصار على الذبح بالحديد.

ولكن يلاحظ على ما افيد في كلمات المحقق «قده» ما يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: ان دور الشارع الشريف لا ينحصر بالجعل والتعبد بحيث كل امر لم يكن قابلا للجعل فلا علقة للشارع به، وإنما كما أن الشارع الشريف يتوصل الى أغراضه اللزومية او الراجحة بالجعل والتعبد فقد يصل الى اغراضه اللزومية أو الراجحة بالإرشاد الى أسبابها التكوينية او العرفية. وبالتالي لا ينحصر الامر بما كان مجعولاً من قبِل الشارع، وإنما لابد أن يلاحظ كل مورد بحسبه، فإن كان مما يتعلق الجعل به نفينا دخالة أي شرط مشكوك فيه بالاطلاق اللفظي للادلة او الاطلاق المقامي، وان كان أيضاً مما لا تناله يد الشارع لكن من شأن الشارع بيانه لدخالته في أغرضه اللزومية او الراجحة، فإن مقتضى الإطلاق اللفظي او المقامي للدليل عدم دخل ما هو مشكوك الدخل من جزئية او شرطية.

المقدمة الثانية: كما يتمسك بالإطلاق المقامي للأدلة الاجتهادية بأن ينفى بها ما هو مشكوك الدخل، كذلك يتمسك بالإطلاق المقام لأدلة البراءة لنفي ما هو مشكوك الدخل من شرطية او جزئية. وبيان ذلك:

ان أدلة البراءة على نوعين: النوع الاول: ما كان لسانه لسان الرفع. النوع الثاني: ما كان لسانه مجرد بيان المعذورية وعدم وجوب الاحتياط لا اكثر من ذلك.

فما كان لسانه لسان الرفع كما في حديث الرفع: حيث قال: «رفع عن امتي ما لا يعلمون» سواء قلنا مفاده الرفع الواقعي كما ذهب اليه سيد المنتقى «قده» او قلنا ان مفاده الرفع الظاهري حقيقة. يعني ان هناك رفعاً حقيقياً من قبِل الشارع لكن في مرحلة الظاهر، كما ذهب اليه سيدنا «قده» في «مصباح الاصول».

فحينئذ يصح ان يقال: ان الرفع الشرعي سواء كان رفعا واقعيا او رفعا ظاهرياً، بالنتيجة هو رفع حقيقي، إنما يصح فيما يصح فيه الوضع، فإذا كانت السببية مما لا يتعلق بها الوضع إذن لا تنالها يد الرفع.

وإذا لاحظنا النوع الثاني: _من الادلة، أي ادلة البراءة_ كقوله: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» مما لسانه لسان البيان المعذّرية وعدم وجوب الاحتياط، او قلنا بان الرفع في حديث الرفع ما هو الا كناية عن المعذرية وعدم وجوب الاحتياط كما ذكره الشيخ الاعظم في الرسائل. فبناءً على ذلك ما دام دور الشارع _كما ذكرنا في المقدمة الأولى_ لا ينحصر بالجعل بل دوره ان يبين ما هو دخيل في اغراضه سواء كان بالجعل او بالإرشاد ولذلك نتمسك بالاطلاق المقامي في الادلة اللفظية لنفي ما يشك في دخله وإن لم يتعلق به الجعل. كذلك مقتضى الاطلاق المقامي للنوع الثاني من ادلة البراءة الذي مفاده مجرد المعذورية وعدم وجوب الاحتياط، مقتضى الاطلاق المقامي شموله للأسباب التكوينية الدخيلة في أغراض الشارع. فاذا شككنا في هذا السبب التكويني الا وهو الذبح ولا ندري ان غرض الشارع يتوقف على الذبح بالحديد ام لا؟ وحيث لم يردنا بيان يبين لنا ان الذبح بالحديد دخيل في غرضه. إذن مقتضى إطلاق قوله «ما حجب الله علمه عن العباد» انه لا يجب علينا الاحتياط من جهة جزئية او شرطية الذبح بالحديد، مقتضى ذلك عدم وجوب الاحتياط والمعذورية من هذه الجهة. لولا اشكال المثبتية الذي سيأتي بيانه في المجعول الشرعي. هذا من ناحية المحصل العقلي.

البيان الثاني: ما افاده المحقق النائيني «قده» وهو ما اذا كان المحصل شرعياً لا عقلياً، كما اذا افترضنا ان المولى امرنا بالصلاة عن طهارة، والطهارة مسبب شرعا عن الغسلات والمسحات، بمعنى ان للشارع اعتبارين: اعتبار للسبب وهو الغسلات والمسحات، واعتبار للمسبب، بأن يقول: اذا حصل السبب الكذائي فأنا اعتبرك طاهراً.

فالمحصل الشرعي: حقيقته اعتبار شرعي للمسبب عند حصول السبب. فهنا اذا شككنا في دخل شيء في السبب، هل ان الترتيب بين الرجلين في المسح دخيل في سببية الوضوء في حصول الطهارة أي المسبب الشرعي ام لا؟ فهل تجري البراءة عن الشرطية حينئذٍ ام لا؟ فهنا أفاد المحقق النائيني «قده» وجهين لبيان عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء للسبب او شرطيته:

الوجه الاول: ما هو المجعول الشرعي في المقام، هل الشارع تعلق جعله بالسبب، فقال: جعلت الوضوء سببا لحصول الطهارة ام ان الشارع تعلق جعله بالمسبب، بأن قال جعلت الطهارة في حق من أتى بالسبب.

فإن كان المجعول الشرعي هو الاول: يعني ان الشارع تصدى لجعل السبب، قال: اتعبدكم بأن الغسلات والمسحات سبب للطهارة، فما تعلق جعله به هو السبب. فحينئذٍ اذا شككنا في ان الترتيب بين الرجلين في المسح هل هو دخيل في السبب ام ليس بدخيل؟

فيقال حينئذ لا وجه لجريان البراءة لنفي ذلك. والسر في ذلك: ان الشرطية أو الجزئية من السبب ما هي الا امر انتزاعي، والامر الانتزاعي لا يمكن وضعه ولا رفعه الا من جهة منشأ انتزاعه، فشرطية سببية الوضوء لحصول الطهارة بالترتيب هذه الشرطية عنوان انتزاعي، فرع وجود سببية، اذ لولا وجود سببية للوضوء لتحقق الطهارة لما صح ان نعبّر عن الترتيب في المسح بين الرجلين بانه شرط في السبب. إذن الشرطية في السبب فرع وجود سبب، فبالنتيجة الشرطية عنوان انتزاعي منشأ انتزاعه سببية الوضوء لحصول الطهارة. فبما ان الشرطية عنوان انتزاعي اذن لا يمكن للشارع ان يتصرف فيه الا بتصرف منشأ انتزاعه، فكما أنه لا يمكن جعل شرطية الترتيب إلا بعد جعل سببية الوضوء بحيث تكون الشرطية مجعولة بالتبع لا بالاستقلال، كذلك لا يمكن رفع شرطية الترتيب للمسح بين الرجلين الا برفع منشأ الانتزاع وهو رفع سببية الوضوء، إذ العنوان الانتزاعي لا يمكنه رفعه او وضعه الا بالتصرف في منشأ انتزاعه، فإذا رجعنا الى منشأ الانتزاع، قلنا: شرطية الترتيب بين الرجلين منتزع من سببية الوضوء المشتمل على الترتيب _اما الوضوء الفاقد للترتيب كيف يكون موضوع لمنشأ انتزاع شرطية الترتيب؟! _، والوضوء المشتمل على الترتيب معلوم السببية، إذ لا شك لنا في أن الوضوء المشتمل على الترتيب قطعا سبب للطهارة، إنما نشك في الوضوء الفاقد للترتيب. فإذا كانت شرطية الترتيب أمرا منتزعا لا يمكن رفعه مستقلا ومنشأ انتزاعه الوضوء المشتمل على الترتيب والوضوء المشتمل على الترتيب لا الوضوء الفاقد له، والوضوء المشتمل على الترتيب معلوم السببية فكيف يرفع؟!

إذن بالنتيجة: لا يعقل رفع شرطية الترتيب لا مستقلا لانه عنوان انتزاعي لا يمكن رفعه مستقلا، ولا برفع منشأ انتزاعه لأن منشأ انتزاعه الوضوء المشتمل على الوضوء، والوضوء المشتمل على الترتيب معلوم السببية فكيف يرفع؟ فالنتيجة: هي عدم امكان شمول دليل البراءة لشرطية الترتيب. هذا كله اذا كان المجعول شرعا هو السببية.

أما اذا كان المجعول المسبب، كمن حصل الوضوء منه يجعله الشارع طاهراً، فهو لم يجعل سببا بل يجعل المسبب، ولا معنى بعد المسبب بعد جعل السببية، فإنه لغو، إذ بعد ان قلت من حصل له الوضوء الكذائي فأنا اعتبره طاهراً فلا معنى لاعتبار السببية بعد اعتبار المسبب، لانه لغو. إذن حيث إن الشارع اعتبر المسبب وهو حصول الطهارة ولم يعتبر السبب، فاذا شككنا في الترتيب في المسح بين الرجلين دخيل في المسح ام لا؟ فقد شككنا في امر لا علاقة له بالشارع، فإن ما له علقة بالشارع هو جعل المسبب، وأما أن الوضوء الدخيل في هذا المسبب الوضوء المشتمل على الترتيب في المسح بين الرجلين ام لا؟ لا ندري، والمفروض ان هذا الموضوع لا يتكفل الشارع باعتباره، لان ما تكفل الشارع باعتباره هو المسبب دون السبب، فكيف تجري البراءة عن شرطية الترتيب مع انه امر لا علاقة للشارع الشريف به.

فنتج عن ذلك كله: انه اذا شك في دخل شيء في المحصل الشرعي لا تجري البراءة سواء كان المجعول شرعا هو السبب او كان المجعول شرعا هو المسبب عند تحقق السبب.

ويلاحظ على هذا الوجه الذي افاده «قده»:

أولاً: نختار ان المجعول شرعا هو السبب، على فرض ان المجعول شرعا هو السبب بأن قال الشارع: السبب في حصول الطهارة الوضوء، وشككنا في دخول شيء في هذا السبب، فتارة ندّعي أن العنوان الانتزاعي الا وهو شرطية الترتيب في المسح بين الرجلين _يقول هذا العنوان الانتزاعي مجعول بالتبع لا بالاستقلال_ فظاهر عبارة «الأجود» انه مجعول بالتبع فهو مجعول بالنتيجة، يعني تعلق الجعل به، بالنتيجة اذا التزمتم بأن الشرطية مجعولة تبعا فهي مجعولة يعني جعلا حقيقياً، غاية ما في الامر ليس هناك جعل بالاصالة بل بالتبع، بالنتيجة هي مجعولة، وما تعلق به الجعل وان كان جعلا تبعيا يتعلق به الرفع لانه تعلق به الجعل.

فإن قلتم: لا يمكن رفعه من دون رفع منشأ انتزاعه؟

قلنا: هذا في الرفع الواقعي، فنحن لو كنّا ندعّي الرفع الواقعي، ندعي الرفع الظاهري، فنحن لو كنّا ندعي الرفع الواقعي لقيس على الجعل الواقعي، أي كما لا يمكن رفعه واقعا الا برفع منشأ انتزاعه، لكن ليس المدعى هو الرفع الواقعي كي لا يمكن التفكيك بينهما بل المدعى هو الرفع الظاهري بمعنى ما يترتب عليه عدم وجوب الاحتياط او بمعنى عدم وجوب الاحتياط، على المسلكين الذين اشرنا اليهما، التفكيك في الرفع الواقعي ممكن، ولذلك وجبت علينا الصلاة ولا ندري هل أخذ في الصلاة جزئية السورة ام لا؟ جزئية السورة مرفوعة ظاهراً، مع انهما في الواقع لو كان المركب ارتباطيا لم يعقل التفكيك بينهما في الرفع الواقعي، فالتفكيك بين المترابطين تفكيكا ظاهرياً امر ممكن ليس فيه اشكال، فنقول: بما ان شرطية الترتيب في المسح مجعولة ولو تبعاً لأجل ذلك اذا شككنا فيها فهي مرفوعة ظاهراً، والتفكيك بين منشأ الانتزاع وما هو منتزع منه بناء على جعله ولو تبعاً التفكيك بينهما في مرحلة الظاهر أمر ممكن، هذا واجب، هذا لا يجب الاحتياط من جهته.

وأما اذا نظرنا الى ما هو مراده من انه: يقول، ليس قصدي ما كان مجعولا ولو عقلا، هذا لا معنى له، العنوان الانتزاعي لا جعل له في الواقع، وانما هو مجعول بالعرض والمجاز، فما هو المجعول حقيقة منشأ الانتزاع، وأما العنوان المنتزع فمجرد امر عرضي مجازي، فهو مجعول بالعرض لا بالتبع، أي ان جعله جعل مجازي وليس هناك جعل حقيقي حتى يتعلق به الرفع، فلا يتعلق به وضع لا استقلالا ولا تبعا ولا يتعلق به رفع لا استقلالا ولا تبعا، لأن المفروض انه امر مجازي، يعني ثبوت العناوين الانتزاعية ثبوت مجازي وليس هناك ثبوتاً حقيقياً، فبناء على ذلك كما هو الصحيح يقال نعم أيضاً كذلك: إذ ان النوع الثاني من ادلة البراءة وهو ما كان مفاده مجرد بيان المعذرية وعدم وجوب الاحتياط، نقول: انت لا ادري وانا لا ادري ان الترتيب في المسح بين الرجلين دخيل في حصول الطهارة ام لا؟ نقول فهل يجب عليك الاحتياط من جهته ام لا؟ مقتضى الاطلاق من النوع الثاني من ادلة البراءة عدم وجوب الاحتياط من جهته.

يأتي الكلام في الوجه الذي افاده وهو اشكال المثبتية.

والحمد لله رب العالمين.