درس الأصول | 009

دوران الامر بين الاقل والأكثر في الشبهة المصداقية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الشك في المحصّل، وأن الشك في المحصل هل هو مجرى للبراءة او للاشتغال، وذكرنا أن هناك اتجاهين: الاتجاه الاول: ما ذهب اليه المشهور من أن الجاري عند الشك في المحصل هو الاشتغال مع غمض النظر عن كون المحصل شرعياً او عقلياً او عرفياً. وذكرنا أن المحقق النائيني «قده» استدل بمسلك المشهور من جريان قاعدة الاشتغال بوجهين، مضى الكلام في الوجه الاول.

الوجه الثاني: إشكال المثبتية. وبيان ذلك:

اذا شك في المحصل فجريان البراءة عن الشرط المشكوك لا يثبت حصول المحصَّل وتحققه. مثلاً: إذا أمر المولى بالصلاة عن طهارة، وكان مقصوده بالطهارة المسبب عن الوضوء، أي عن الغسلات والمسحات، فإذا شككنا في أن الترتيب في المسح بين الرجلين هل هو شرط في حصول الطهارة أم ليس بشرط؟

فهنا لا تجري البراءة عن الشرطية لانها اصل مثبت، باعتبار ان جريان البراءة عن شرطية الترتيب في المسح بين الرجلين لا يثبت تحقق الطهارة بالوضوء الخالي عن الترتيب، فأصالة البراءة في المقام مثبت لأن المفروض ان ما امر به المولى هو المسبب وهو الطهارة، فجريان البراءة عن دخل شيء في السبب شرطاً او جزءا لا يثبت تحقق المسبب في الوضوء الخالي عن ذلك الشرط المشكوك او الجزء المشكوك.

وهذا الكلام من المحقق النائيني «قده» متين ما خلا ما سيأتي في بيان الاتجاه الثاني.

وذهب شيخنا الاستاذ «قده» الى انه يمكن الاستدلال لمسلك المشهور من جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في المحصل الى ان الجزئية مما لا تقبل التنجز. وبيان ذلك:

أن المكلف إذا شك في جزئية شيء او شرطيته، فهو لا يدري ان الترتيب بين الرجلين حال المسح شرط ام لا؟ او لا يدري ان غسل ما فوق المرفق جزء من الوضوء ام لا؟ فالجزئية والشرطية مشكوكة، وجريان البراءة عن الحكم المشكوك فرع قابلية هذا الحكم للتنجز حتى ينفى تنجزه بأصالة البراءة، فهل الجزئية والشرطية قابلان للتنجز ام لا؟

فيقول: إن الشرطية او الجزئية ليست امرا قابلا للتنجز لا بلحاظ ذاته ولا بلحاظ ملاكه، اما بلحاظ ذاته: فإن الجزئية بمثابة المعنى الحرفي لأن الجزئية أي جزئية شيء لشيء او شرطية شيء لشيء بتعبير هي بمثابة المعنى الحرفي فلا نفسية لها أي لم تلاحظ الجزئية او الشرطية على نحو موضوعي نفسي وإنما الجزئية من اجل اتمام المركب او الشرطية من اجل اتمام المشروط والا فالجزئية والشرطية في حد ذاتها لا معنى لها فهي معنى حرفي بتعبير او عنوان انتزاعي بتعبير آخر.

فبما انها لا نفسية لها اذن بما هي نفسية لا تدخل في عهدة المكلف فلا تكون امر قابلا للتنجز، واما بلحاظ ملاكها: فالملاك في الجزء لا الجزئية، أي غسل الوجه مثلا جزء من الوضوء فالمصلحة في الجزء وهو غسل الوجه لا في جزئية غسل الوجه للوضوء، او مثلا شرطية الترتيب في المسح بين الرجلين فان الملاك وهو المصلحة في الترتيب نفسه لا في شرطيته.

اذن الشرطية لا بلحاظ ذاتها قابلة للتنجز لكونها معنى حرفيا لم يلحظ في حد ذاته، ولا بلحاظ ملاكها قابلة للتنجز لأن ملاكها ليس فيها وإنما في الجزء أو في الشرط، لا في الجزئية او الشرطية، فاذا لم تكن الشرطية او الجزئية امراً قابلا للتنجز في نفسه فلا وجه لجريان البراءة عنه والتأمين منه سواء كانت براءة عقلية ام شرعية.

ولكن يلاحظ ما أفيد: نعم الشرطية او الجزئية بما هي هي كحكم وضعي لا يقبل التنجز، ولكن بما ان مفاد أدلة البراءة عدم وجوب الاحتياط، أي ان مفاد أدلة البراءة المعذرية وعدم وجوب الاحتياط من جهة الامر المشكوك، فيكفي في جريان البراءة عن شيء يعني المعذرية من جهته وعدم وجوب الاحتياط عند الشك فيه يكفي في ذلك ان يترتب عليه اثر تكليفي ولم يكن في نفسه اثرا، والجزئية والشرطية لا شك انهما موضوع لأثر تكليفي، فجزئية الشيء يترتب عليها وجوب الاتيان بالجزء، وشرطية الشيء يترتب عليها وجوب الاتيان بالمشروط. فبما انهما موضوعان لأثر تكليفي فهذه الموضوعية كافية لأن يكونا مشمولين لأدلة البراءة ما دام مفاد أدلة البراءة مجرد المعذرية وعدم إيجاب الاحتياط، نعم يأتي اشكال المثبتية الذي ذكره المحقق النائيني من ان جريان البراءة عن الشرطية او الجزئية لا يثبت حصول الطهارة بما كان خاليا عن هذا الجزء او عن هذا الشرط. إشكال المثبتية هو الوارد وليس اشكال عدم قابلة الجزئية والشرطية لعدم التنجز.

هذا مما يتعلق بالاتجاه الاول وهو إثبات مسلك المشهور من أن الجاري عند الشك في المحصل قاعدة الاشتغال.

وأما الاتجاه الآخر: الذي يرى جريان البراءة عند الشك في المحصل ولو في الجملة، فله بيانات ثلاثة:

البيان الاول: ما نسب للسيد المجدد الشيرازي «قده» من أن البراءة تجري في المحصل الشرعي دون المحصل العقلي والمحصل العرفي. وبيان ذلك بمقدمتين:

المقدمة الاولى: ان المحصَّل اذا كان شرعيا كما اذا امر المولى بالصلاة عن طهارة، واراد بالطهارة المسبب عن الوضوء «الغسلتين والمسحتين» فهنا اما ان يعتبر الشارع المسبب او يعتبر السبب، اما ان يدخل في عهدة المكلف المسبب وهو الطهارة واما ان يدخل في عهدة المكلف السبب وهو الوضوء «الغسلتان والمسحتان» لأن الجمع بينهما لغو، إذ لا حاجة لأن يجعل السبب والمسبب، يكفي اعتبار احدهما. وبما ان المسبب وهو الطهارة ليس فعلا من افعال المكلف لان المسبب نتيجة وليس من سنخ الأفعال الاختيارية، فلا معنى لإدخال المسبب في عهدة المكلف، لانه ليس من سنخ افعاله الاختيارية كي يكون قابلا لإناطة عهدة المكلف به.

إذن يتعين ادخال السبب الا وهو ادخال المسحتان والغسلتان لكونهما من سنخ الافعال الاختيارية، فبما ان السبب هو الذي يدخل والسبب فعل للمكلف فإذا دار امر السبب بين الأقل والأكثر، لا ندري ان ما دخل في عهدة المكلف وضوء بترتيب ام وضوء لا بشرط من جهة الترتيب؟ جرت البراءة عن الشرطية.

المقدمة الثانية: إذا كان المحصَّل عقلياً او عرفياً، لا شرعياً. كما اذا قال المولى: عظّم الهاشمي، والتعظيم ماهية عرفية لها اسبابها العرفية من القيام له او من إكرامه او من قضاء حاجته.

او كان المحصَّل عقليا: أي امر تكويني، كما اذا قال: اقتل الكافر الحربي، والقتل امر تكويني له اسبابه التكوينية، في هذين الموردين وهما ما اذا كان المحصل عرفيا او كان المحصل عقليا لا ربط للشارع بذلك، أي ان السببية ليست سببية شرعية بل هي اما سببية عقلية او عرفية، فإذا لم تكن السببية شرعية فلا تنالها يد الوضع كي تنالها يد الرفع، اذ ما دامت السببية عرفية او عقلية فليس وضعها بيد الشارع كي يكون رفعها بيده، لأجل ذلك لا وجه لجريان البراءة عند الشك في السببية العقلية او السببية العرفية، فاذا لم تجر البراءة وصلت البراءة لقاعدة الاشتغال. هذا ما نسب للسيد المجدد.

ويلاحظ على ما أفيد: مضافا الى ان المسبب وهو الطهارة «النتيجة» قابل لأن يدخل في عهدة المكلف، لكونه مقدورا بالواسطة وان لم يكن مقدورا بنفسه، فهو وإن كان نتيجة، لكنه مقدور بواسطة القدرة على سببه، فبما انه مقدور بواسطة القدرة على سببه امكن ادخاله في عهدة المكلف. مضافاً لذلك ما سبق من اشكال تلميذه المحقق النائيني: من أنّ جريان البراءة عن شرطية شيء في السبب الشرعي او جزئية شيء في السبب الشرعي لا يثبت تحقق المحصَّل بالفرد الخالي منه.

البيان الثاني: ما ذكره السيد الشهيد «قده»: من أن البراءة تجري عند الشك في المحصل الشرعي او المحصل العقلي، نعم لا تجري عند الشك في المحصل العرفي. وبيان ذلك بذكر مطالب ثلاثة:

المطلب الاول: إذا كان المحصل عرفياً، كما اذا قال: عظم الهاشمي. وشك في أن التعظيم يحصل بالقيام له او بالسلام عليه؟ شك في السبب المحصل لهذا الامر العرفي. فهنا لا تجري البراءة، بل تجري قاعدة الاشتغال، والسر في ذلك:

أن كون المحصَّل عرفياً قرينة على ان الشارع اوكله الى العرف وانه لا ربط له به، لأنه امر عرفي له اسبابه العرفية، فكونه عرفيا ذا اسباب عرفية بنفسه قرينة على ان الشارع لا ربط له به وانما هو موكول لنظر العرف فلا وجه لإجراء البراءة فيه مع انه لا علقة للشارع به، فلأجل ذلك اذا لم تجري فيه البراءة وشككنا هل ان التعظيم يحصل بكذا او بكذا، فمقتضى قاعدة الاشتغال تحصيله بأسبابه المتيقنة المحرزة، ولا مجال لجريان البراءة.

المطلب الثاني: اذا كان المحصل شرعيا كالأمر بالصلاة عن طهارة، او عقليا: كما اذا قال له: يجب على المحرم ان يطعم الفقراء في اليوم العاشر بهدي مذكى، وافترضنا ان التذكية امر تكويني في اللحم، وهذا الأمر التكويني وهو الذكاة له اسبابه، من اسبابه الذبح بشرائطه، فحينئذ: اذا كان المحصل شرعي او كان المحصل عقلي تكويني، فهذان لا يعرفان الا من قبل الشارع، اما المحصل الشرعي فواضح، لأنّ الشارع امرنا بطهارة وقال: الطهارة مسبب عندي بغسلتين ومسحتين، فبما انه مسبب لا يعرف حدوده ولا اسبابه الا من قبل الشارع فلابد فيه من الرجوع الى الادلة الشرعية.

وكذلك اذا كان المحصل عقليا «تكوينياً مبهماً» كما اذا قال: يجب على المحرم ان يطعم الفقراء بثلث من هدي مذكى، والتذكية أمر تكويني لكن لا نستطيع الوصول اليها، فالتذكية وإن كانت امراً تكوينياً لكن لا يمكن الوصول اليها الا من خلال ارشاد الشارع لأسبابها، إذن لابد من الرجوع هنا الى الشارع أيضاً. وهذه نفسها يعني كونهما «المحصل الشرعي والعقلي» امرين مبهمين لا تعرف حدودهما الا من قبل الشارع، نفس هذا قرينة على ان اهتمام الشارع بهذين بمقدار ما بيّن من أسبابهما، حيث لا يعرفان الا من قبله، إذن اذا شككنا ما هو المقدار الذي اهتم به الشارع من الطهارة، ما هو المقدار الذي اهتم به الشارع من الذكاة، لا يعرف مقدار اهتمام الشارع بهما الا بمقدار ما بيّن من اسبابهما، إذ لا يعرف امرهما الا من خلال بيان اسبابهما فمقدار اهتمام الشارع بهما لا يعلم الا بمقدار ما بين من اسبابهما.

بناء على هذا المطلب: وهذا بنفسه قرينة على ان ما ادخل في عهدة المكلف هو السبب وليس المسبب.

إذ ما دام المسبب مبهم لا تعرف حدوده الا من قبل الشارع فهذا يعني ان مقدار اهتمام الشارع بمقدار ما بين من سببه، واذا كان كذلك اذن ما ادخله الشارع في عهدة المكلف هو السبب وليس المسبب، فالسبب دائر بين الاقل والاكثر بين وضوء مشتمل على الترتيب ام لا؟

المطلب الثالث: إن كان لدليل الوضوء اطلاق لفظي او اطلاق مقامي ننفي به الجزئية او الشرطية المشكوكة فبها، وان ان لم يكن لدليله اطلاق لفظي ولا مقامي ينفى به الجزئية او الشرطية فنرجع لدليل البراءة، حيث إنها جزئية او شرطية مشكوكة فيما دخل في عهدة المكلف الا وهو السبب، فمقتضى دليل البراءة التأمين منهما. ولا يرد اشكال المثبتية، لان ما دخل في العهدة هو السبب وليس المسبب، فلا شغل لنا بأنه اذا جرت البراءة عن شرطية الترتيب فلا تثبت حصول الطهارة، لان الطهارة لم يدخلها الشارع في عهدتنا وإنما ادخلها السبب. فحيث ان السبب لم يدخل في عهدة المكلف فلا حاجة إلى إثباته بل يكفينا اجراء البراءة عن الشرطية او الجزئية المشكوكة بلحاظ نفس السبب.

والحمد لله رب العالمين.