درس الأصول | 014

دوران الامر بين الاقل والأكثر في الشبهة المصداقية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان الشيخ الأعظم «قده» أفاد بأن المكلف إذا علم إجمالاً بدوران الامر بين الجزئية والمانعية، كما إذا علم بأن الجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة إما جزء فهو واجب، وإما مانع فهو محرم. فهنا أفاد الشيخ «قده» بأن العلم الإجمالي غير منجز، ووظيفة المكلف هي التخيير، لأن المقام من دوران الامر بين المحذورين، حيث إن المكلف في هذه الصلاة لا محالة إما فاعل وإما تارك، ولا يتصور له شقٌ ثالث، فبالتالي العلم الإجمالي ليس منجزاً في حقه.

وأفاد في تقرير آخر له: ان البراءة العقلية تجري بلحاظ التكليف المردد حيث إن أصل التكليف وهو وجوب الصلاة لا معنى لجريان البراءة عنه، لأنه معلوم، والأجزاء المتيقنة من الصلاة أيضاً لا وجه لجريان البراءة عنها، فإنها معلومة الجزئية. ولكن هذا التكليف المردد بين الجزئية والشرطية أي لا ندري ان هنا أمراً بالجهر أم أن هنا نهيا عن الجهر، فهذا التكليف المردد بينهما مما لم يقم عليه بيان، فيجري بلحاظه قبح العقاب بلا بيان.

هذا ما افاده الشيخ الاعظم.

وأورد عليه عدة إيرادات في كلام الأعلام:

الإيراد الأول: ما ذكره المحقق النائيني «قده» من أنه انما يدور الامر بين المحذورين إذا لم يقدر المكلف لا على الموافقة القطعية ولا على المخالفة القطعية، كما إذا دار الأمر بين ان رد السلام على الكافر واجب أم محرم؟ فهنا يمكن أن يقال: بأن المورد من دوران الامر بين المحذورين، وأما في محل كلامنا حيث وجبت الصلاة على المكلف ولا يدري ان الجهر بالقراءة مطلوب أم ان الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة مانع من صحة الصلاة؟

فهو وإن لم يتمكن من المخالفة القطعية إذ لا يمكنه في صلاة واحدة ان يجهر وأن لا يجهر، إما جاهر أو لا؟ لكنه متمكن من الموافقة القطعية، بأن يصلي تارة مع الجهر وأخرى مع عدمه فيحرز موافقة التكليف، فما دام متمكنا من الموافقة القطعية فليس المقام من دوران الامر بين المحذورين كي تكون وظيفته التخيير.

نعم، بلحاظ حرمة إبطال الصلاة أي لو قلنا _وإن كان هذا القول شاذاً_ يحرم إبطال الصلاة مطلقاً، أي حتى الصلاة التي لا يحرز المكلف حدودها مع ذلك يحرم ابطالها، فهذا الإنسان هذ المكلف لا يستطيع ان يحتط، لانه وإن كرر الصلاة فأتى بها تارة مع الجهر وأخرى مع الإخفات الا انه يقطع بأنه ابطل احدى الصلاتين، اما ابطل الأولى بالجهر مع ان المطلوب هو الاخفات، أو ابطل الثانية الاخفات مع ان المطلوب الجهر، على أية حال ابطل احدى الصلاتين، ارتكب المحرم، فهو وإن وافق الاحتياط من جهة حيث احرز امتثال التكليف الواقعي لكنه خالف الاحتياط من جهة اخرى لانها ابطل احدى الصلاتين. إذن بالنتيجة: ان قلنا بحرمة الإبطال في كل صلاة وإن لم يحرز المكلف صحتها فالمكلف لا يمكنه الاحتياط من تمام الجهات.

إذن فهو مخير بين ان يحرز الاحتياط من جهة صحة الصلاة أو يحرز الاحتياط من جهة تجنب حرمة الإبطال.

الإيراد الثاني: ما ذكرناه سابقاً، من أنه وقع الخلاف في أن العلم الإجمالي علة تامة للمنجزية كما هو مسلك العراقي، أو مقتضٍ للمنجزية؟ بمعنى أن منجزيته فرع تعارض الأصول في اطرافه، وفي هذا أيضاً وقع الخلاف في أن مناط تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو قبح الترخيص في المخالفة القطعية؟ بأن لا يلزم من جريان الأصول الوقوع في المخالفة القطعية؟ أو ان مناط تعارض الأصول اعم سواء كان ترخيصا في المخالفة القطعية؟ أو ترخيصاً قطيعا في المخالفة؟

فإن قلنا بمسلك العراقي إذن العلم الإجمالي في المقام منجز امكنت مخالفته القطعية أم لا؟ لأن العلم الإجمالي علة تامة للمنجزية، فالمقام وهو دوران الجهر بين الجزئية والمانعية وإن لم يمكن مخالفته القطعية لكن العلم الاجمالي علة تامة للمنجزية.

وإن قلنا بمسلك الاقتضاء واخترنا الاتجاه الاول، وهو اتجاه المحقق النائيني، حيث أفاد:

العلم الاجمالي تنجز إذا تعارض الأصول في طرفيه، والمناط في تعارض الاصول استلزام جريانها معا للترخيص في المخالفة القطعية، فأي مورد لا يمكن فيه المخالفة القطعية لا تتعارض فيه الاصول فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً، والمقام حيث لا يمكن المخالفة القطعية لأن المصلّي إما جاهر أو مخفت، إذن ما دام لا يمكنه المخالفة القطعية فجريان البراءة عن جزئية الجهر لا تتعارض مع جريان البراءة عن مانعية الاخفات، وبالتالي لانه لا يلزم من جريانهما الترخيص في المخالفة القطعية فلا تعارض فلا منجزية للعلم الاجمالي، فالمكلف مخير، كما افاد الشيخ الأعظم.

وأما إذا قلنا بمسلك سيدنا الخوئي «قده» وهو الصحيح، من انه لا فرق في تعارض الأصول بين أن يلزم من جريانها الترخيص في المخالفة القطعية أو لا يلزم، على أية حال ترخيص الشارع لإجراء البراءة في كلا الطرفين ترخيص قطعي في المخالفة وإن لم يقع المكلف في المخالفة القطعية، فهذا كافٍ في التعارض لأن العلم الإجمالي يبقى منجزاً، فأي مبنى يختاره الشيخ؟

إنما يتم كلام الشيخ على المبنى الثاني، وإلا على القول بالعلية أو القول بكفاية الترخيص القطعي في المخالفة لمنجزية العلم الإجمالي يكون العلم الإجمالي منجزاً في المقام.

الإيراد الثالث: ما ذكره السيد الشهيد، بتقريب:

إن كلام الشيخ إنما يتم في التوصليات لا في التعبديات. كما إذا افترضنا ان دفن الميت الذمي واجب توصلي وليس واجباً تعبدياً، فعلى المسلم دفن الميت الذمي الا ان هذا واجب توصلي بحيث لو سترته الريح تحت التراب لكفى.

فاذا كان دفن الميت واجباً توصلياً، ودار الامر هل ان توجيهه الى القبلة شرط في دفنه؟ أم مانع من صحة دفنه؟

فهنا يتم كلام الشيخ الاعظم، التخيير، من ان العلم الاجمالي غير منجز، لعدم التمكن من المخالفة القطعية. إما في التعبديات كالمثال الذي مثّل به وهو ان الجهر في ظهر الجمعة اما واجب واما مانع، هنا يتمكن المكلف من المخالفة القطعية حتى في الصلاة الواحدة، وذلك لان الجهر ان كان واجبا فهو اجب تعبدي، أي يأتي به بقصد القربة، وإلا لا يقع واجباً، فما دام الجهر واجبا تعبدياً لو كان واجبا واقعا إذن المكلف يمكنه التخلص من الأمرين معاً، بأن يأتي بالجهر من دون قصد القربة، فإذا اتى بالجهر من دون قصد القربة خالف التكليف الواقعي جزماً. فإنه إن كان الجهر جزءاً فلم يمتثله لأنه اتى به من دون قصد القربة، وإن كان مانعاً فقد ارتكبه، إذن فهو قد خالف الواقع قطعاً، فالمكلف متمكن من المخالفة القطعية إذا دار الامر بين لجزئية والمانعية في المركبات التعبدية. إذ يأتي بالمشكوك من دون قصد القربة فيكون خالف الواقع سواء كان الواقع وجوباً أو حرمة. وهو كلام صحيح.

الإيراد الرابع: ما ذكره سيد المنتقى «قد» من أن المسألة لا تبتني على المسالك في مجزية العلم الاجمالي وذلك لدوران الامر بين تكليفين استقلاليين بمركبين. فإن المكلف إذا شك في ان الجهر واجب أو محرم فقد علم بتكليفين: إما أنه مأمور بصلاة مشتملة على الجهر أو بصلاة مشتملة على عدمه؟ فيدور الامر بين متباينين لا محذورين، أي بين وجوبين لمركبين، وجريان البراءة عن الاول معارض بالبراءة عن الثاني فالعلم الاجمالي منجز على كل حال.

ولكن هذا تغيير في الصياغة ليس الا وإلا الإشكال وارد، لانه إذا قلنا بأن منجزية العلم الإجمالي اقتضائية، أي فرع تعارض الأصول وأن المناط في تعارض الاصول استلزام الجريان للترخيص في المخالفة القطعية فالعلم الاجمالي غير منجز فيه، لانه لا يلزم من البراءة في كليهما الترخيص في المخالفة القطعية، فلو اجرى البراءة عن الصلاة المشتملة على الجهر، والبراءة عن الصلاة المشتملة على عدمه، فعلى أية حال هو لابد ان يصلي، لان البراءة لا تشمل ترك اصل الصلاة لانه معلوم، فلا محالة إنما تجري البراءة عن تقيد الصلاة بالجهر أو تقيد الصلاة بعدمه، ولو اجراهما معا لا يصل الى المخالفة القطعية لانه على أي حال اما جاهر أو مخفت، فلا يلزم من جريان البراءتين الترخيص في المخالفة القطعية. فعلى القول بأن مناط المنجزية هو ذلك فالعلم الإجمالي ليس بمنجزاً، لفقدان مناطه، فتغيير الصياغة لا يغير المطلب.

الإيراد الخامس _الأخير_: ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» من ان لازم كلام الشيخ في المقام ان لا يكون العلم الاجمالي في القصر والتمام منجزاً، أو لو علم المكلف اما مطالب بالقصر لكونه مسافرا أو بالتمام لكونه حاضرا، ولا يدري هو مسافر أو حاضر. كما كان يستشكل شيخنا الاستاذ في طلبة العلم، فإن طالب العلم ليس مسافرا لحرفة أو مهنة، فإذا لم يدري انه مسافر لحرفة أو مهنة فتكون وظيفته التمام؟! أو لا لمهنة فتكون وظيفته القصر؟ فهل مقتضى العلم الإجمالي هنا ان يجمع بين القصر والتمام أم لا؟

فعلى مبنى الشيخ الاعظم لا يكون العلم الاجمالي منجزاً في المقام، لأن مرجع دوران الأمر بين القصر والتمام الى دوران التسليم بين الجزئية والمانعية، فإن كان المطلوب هو القصر كان التسليم جزءاً، وإن كان المطلوب هو التمام كان التسليم مانعاً، فدوران الأمر بين القصر والدوران يرجع الى دوران التسليم بين الجزئية والمانعية.

فاذا قال بأن دوران الامر بين الجزئية والمانعية من دوران الامر بين المحذورين والعلم الإجمالي غير منجز في البين، إذن على كلامه اما ان يقصر أو يتم مع انه التزم بحثا وفتوى بالجمع بينهما. فهذا هو النقض عليه.

والحمد لله رب العالمين.