درس الأصول | 107

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصلنا فيما سبق: إلى أن سيد المنتقى «قده» أفاد: بأن مفاد أخبار التعلم هو الإيجاب الطريقي، ولكن ليس المقصود بالإيجاب الطريقي هو تنجيز الواقع، وإنما المقصود بالإيجاب الطريقي هو تنجيز الطريق، أي ان أخبار التعلم واسطة لتنجز ذلك الخبر الذي لو فحص عنه لظفر به، فذلك الخبر الذي هو بمثابة الطريق للواقع هو المنجز على المكلف، فالنتيجة: ان اخبار التعلم أمر بداعي تنجيز الطريق للواقع، فالواقع في نفسه ليس متنجزاً وإنما المتنجز هو الواقع بالطريق.

ويلاحظ على ما أفيد:

أولاً: إن ظاهر اخبار التعلم هو تنجيز نفس الواقع، حيث قال في المعتبرة: «يسئل العبد ما عملت؟ فيقول: ما علمت، فيقال: هلا تعلمت حتى تعمل ولله الحجة البالغة». فإن جعل الغاية والغرض من الأمر بالتعلم أو المعاتبة على التعلم، هو العمل، «ما عملت» فالغاية والغرض المنظور هو العمل. «ما علمت، فيقال: هلا تعلمت حتى تعمل»، فبما ان المنظور اليه في اخبار التعلم هو العمل، وان الإدانة على لعمل لا لنفسه وإنما على العمل، فهذا ظاهر ان الايجاب المستفاد من اخبارا لتعلم ايجاب بداعي تنجيز العلم على المكلف أي تنجيز الواقع لا تنجيز الطريق إلى الواقع.

ثانياً: إذا كان المدعى ان المستفاد من اخبار التعلم تنجز الطريق وهو ذلك الخبر الذي هو في معرض الوصول بحيث لو فحص المكلف عنه لوصل اليه. فالسؤال: هل أن تنجيز الواقع ملحوظ في تنجيز الطريق أم لا؟ فإن قيل بأن تنجيز الواقع ليس ملحوظاً في تنجيز الطريق فهذا خلف كونه طريقا، اذ لا معنى للطريقية إلا تنجز الواقع، أي لا معنى للطريقية إلا أن يكون المقصود بالأصالة هو تنجيز الواقع، وإلا لم يكن طريقاً، وأما إذا كان الملحوظ في تنجيز الطريق هو تنجيز الواقع، فما هو الموجب لتبعيد المسافة واتخاذ عدة منجزات، فليكن من الأول المستفاد من اخبار التعلم هو ذلك المنظور الاقصى أو المنظور بالأصالة الا وهو تنجيز الواقع، فدعوى ان الأمر بالتعلم تنجيز للطريق، والغرض بالأصالة من تنجيز الطريق هو تنجيز الواقع، فإن هذا تبعيد للمسافة، فليكن من الاول الغرض الاقصى والمقصود بالأصالة من اخبار التعلم هو تنجيز الواقع، لا تنجيز الطريق ليكون الواقع متنجزاً، والمقصود الأصلي بذلك هو تنجيز الواقع. وسيأتي تعميق لهذا المطلب في مناقشة مسلك المحقق الاصفهاني «قده».

فإن سيد المنتقى «قده» إنما ذهب إلى أن مفاد أخبار التعلم هو تنجيز الطريق استنادا وانتقائاً من كلام المحقق الاصفهاني فإنه هو الذي تعرض لهذا المطلب بصياغة اخرى. فقال: المحتمل بدوا في مفاد أخبار التعلم محتملان:

المحتمل الاول: أن يكون مفاد اخبار التعلم إرشاداً إلى تنجز الطريق، لا أن مفاد أخبار التعلم الإيجاب والباعثية. وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن الآخوند الخراساني «قده» أفاد بأن الوجوب تارة: وجوب نفسي، وتارة: وجوب مقدمي، وتارة: إيجاب للغير. وهو ما عبر عنه بالإيجاب الطريقي. أي ان الإيجاب الطريقي يمتاز عن الإيجاب النفسي والإيجاب المقدمي بأنه إيجاب للغير. فالمحقق الاصفهاني ناقش شيخه الخراساني في هذا التقسيم. وهذا التقسيم هو تقسيم لكل الاصوليين، وهذا ما ناقشه المحقق الأصفهاني «قده»، فقال: هذا التقسيم غير صناعي. والسر في ذلك: ان الايجاب ما كان إنشاء بداعي جعل الداعي، أي بداعي الباعثية والمحركية للمكلف، فبناء على ذلك: يرد السؤال: إنما تتصور المحركية إذا كان في الفعل المدعو اليه مصلحة، إما مصلحة نفسية أو مصلحة مقدمية لشيء آخر، وإلا ما لم يكن في الفعل مصلحة فلا معنى للباعثية نحوه ولا معنى لإيجابه، فإن كان في الفعل مصلحة نفسية كان الواجب نفسيا، وإن كان في الفعل مصلحة مقدمية كان الواجب غيريا، فليس هنا قسم ثالث. فدعوى أن هناك قسما ثالثاً لا هو واجب نفسي ولا هو واجب غيري هو إيجاب للغير، فهذا مما لا معنى له، فإن الإيجاب تحريك نحو العمل، والتحريك نحو العمل فرع غرض في الفعل، فإذا لم يكن في الفعل لا نفسي ولا مقدمي فلا معنى للإيجاب نحو الفعل، إذن تصوير شق ثالث وهو الإيجاب للغير من دون ان يكون في الفعل مصلحة نفسية أو مقدمية، هذا خلف حقيقية الإيجاب، فإن الإيجاب تحريك وباعثية نحو العمل، وما لم يكن في العمل غرض او مصلحة لا وجه للإيجاب والمحركية نحوه.

المقدمة الثانية: حيث إن التعلم خالٍ من المصلحة النفسية والمصلحة المقدمية، فليس في التعلم نفسه مصلحة نفسية، وليس في التعلم مصلحة مقدمية، لما ذكرناه أمس من ان التعلم نفسه ليس مقدمة وجودية للعمل، إذ قد يحصل التعلم ولا يحصل عمل، فليس التعلم في سلسلة علل العمل، يعني العلل الوجودية للعمل، نعم، التعلم مقدمة لإحراز العمل وليس مقدمة لنفس العمل، ولذلك قد يكون الانسان يعمل صدفة عملا موافقا للأوامر الشرعية وإن لم يكن متعلماً، مما يكشف عن ان التعلم ليس من مبادئ نفس العمل، كي يكون مشتملا على مصلحة مقدمية، فيكون واجبا مقدمياً، وبالتالي عندما لا يكون التعلم مشتملا لا على مصلحة نفسية ولا على مصلحة مقدمية، إذن التعلم ليس واجبا لا نفسيا ولا مقدمياً، والنتيجة الغرض من الأمر بالتعلم هو إيصال الواقع بالطريق، فيتنجز الواقع بالطريق، لا أن الواقع يتنجز بنفسه، والسر في ذلك: ان تنجيز الواقع بنفسه غير معقول، لابد ان يتنجز الواقع بشيء، ولا منجز له في البين إلا ذلك الخبر الذي لو فحص عنه لظفر به، فإن الوصول إلى ذلك الخبر وصول إلى الواقع تنزيلا، فلما كان التعلم خارجا مع غض النظر عن الأمر به، إما طريق للعلم الوجداني بأن يحصل له قطع بالواقع، أو طريق للعلم التعبدي بأن يحصل له علم بالخبر، كان الأمر بالتعلم إيصالاً لذلك الواقع، لا إيصالا للواقع بنفسه، بل إيصالاً للواقع بطريقه، الا وهو الخبر الذي اذا تعلمه المكلف كان ذلك التعلم وصولاً تنزيلياً للواقع، فليس مفاد اخبار التعلم سوى ان الأمر بالتعلم ارشاد إلى تنجز الواقع بطريقه، فإن المقصود الاساس بأخبار التعلم سوى ان الامر بالتعلم إرشاد الى تنجز الاوقع بطريقه، فإن المقصود الأساس بأخبار التعلم إيصال ذلك الواقع بذلك الطريق المحتمل إيصالاً تنزيلياً. لا ان مفاد اخبار التعلم هو الوجوب كي يكون إيجاباً للغير، لا هو إيجاب نفسي ولا هو إيجاب مقدمي.

المحتمل الثاني: قال: قد يقال بأن مفاد اخبار التعلم إيجاباً نفسياً، والسر في ذلك: أن ظاهر اللوم والعتاب، «اما عملت؟ قال ما عملت، قال: هلا تعلمت حتى تعمل ولله الحجة البالغة». فإن ظاهر ذلك ان هناك ايجاب وان هناك تكليف لا مجرد الارشاد والاخبار، لأجل ذلك نقول: التفقه واجب من خلال اخبار التعلم خصوصاً الأخبار التي عبرت بأن طلب العلم فريضة، فإنه لا يحتمل ان يكون هذا المفاد مجرد إرشاد بل هو تكليف وإيجاب، فاذا كان تكليفا وإيجابا فهل هو تكليف نفسي؟ أو تكليف غيري؟

قال: قد يقال: بأن الفرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري، ان ما كان مطلوبا في ذاته فهو واجب نفسي، وما كان مطلوبا في غيره فهو واجب غيري، أو ما كان حسنا في نفسه فهو واجب نفسي، وما كان مقدمة للحسن فهو واجب غير، يقول وكلاهما غير صحيح، اذ لا يوجد عندنا في الشريعة مطلوب نفسي أو حسن في نفسه غير معرفة الله عز وجل؛ فإن جميع التكاليف إنما هي مطلوبة لغيرها، وحسنة لحسن في غيرها، وإلا لا يوجد عندنا في الشريعة شيء مطلوب في ذاته حسن في نفسه إلا معرفة الباري تعالى، فإنها مطلوبة في نفسها حسنة في نفسها، وبالتالي هل يمكن الالتزام بأن جميع الواجبات الشرعية واجبات غيرية؟! هذا دليل على عدم صناعية هذا التعريف للواجب النفسي او الواجب الغيري، فالتعريف الصناعي للواجب النفسي والواجب الغير هو: ما وجب لا لواجب آخر «القيد سلبي» فهو واجب نفسي، وإن كان ليس مطلوبا في نفسه بل مطلوبا في نفسه، بل مطلوب في غيره، ليس حسنا في نفسه بل حسن لحسن غيره، لكنه في مقام الانشاء والاعتبار لم يوجب لواجب آخر، فهو واجب نفسي، وما وجب في مقام الاعتبار والإنشاء لواجب آخر فهو واجب غيري. وبالتالي هل التعلم في أخبار التعلم وجب بواجب آخر؟ كلا، حيث لم يذكر في اخبار التعلم ان هذا وجب لأجل ذلك الواجب. إذن هو واجب نفسي وليس واجبا غيريا.

غاية ما في الباب ان الواجب النفسي على قسمين: حيث إن الواجب النفسي واجب حقيقي، وواجب تنزيلي. فالواجب الحقيقي كوجوب الصلاة، والواجب التنزيلي كالواجب الطريقي. فإن الوجوب الطريقي هو وجوب نفسي، لأنه وجوب لا لأجل واجب آخر، ولكنه في نفس الوقت ليس واجبا حقيقيا بل واجب تنزيلي، كالأمر بالاحتياط أو الأمر بالتصديق بخبر الثقة، فإن أمر الشارع بالاحتياط وجوب نفسي لأنه ليس وجوباً لأجل واجب آخر، غاية ما في الباب انه واجب لا لأجل العمل به في نفسه بل ليكون العمل به ايصالا للواقع. ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.