درس الأصول | 112

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الصحيح عندنا: ان المنجز للواقع المحتمل هو احتمال التكليف قبل الفحص، وأدلة وجوب التعلم لمن تمت عنده هذه الادلة دلالة وسنداً. ويتم ذلك ببيان أمرين:

الأمر الأول: إن تعدد المنجز للواقع مما لا مانع منه عقلاً، خلافاً للمحقق العراقي «قده» الذي أفاد: بأنه لا يعقل تعدد المنجز للواقع، لأن المتنجز لا يتنجز، فتنجز المتنجز تحصيل للحاصل، وتحصيل الحاصل محال، فلا يعقل ان يتنجز الواقع بعدة منجزات.

ولكن يلاحظ على كلامه «قده»: أن هناك فرقا بين تعدد العلل لمعلول واحد، وتعدد الموضوعات للحكم العقلي الواحد، فإن تعدد العلل التكوينية لمعلول واحد محال، باعتبار اما لقاعدة السنخية وإما لأن المعلول بعد تحصله لا يعقل تحصيله بعلة أخرى حيث إن تحصيل الحاصل محال.

فهناك منظوران: المنظور الاول: أن ننظر للمعلوم قبل تحقق، فنقول: لا يعقل ورود علل عليه بغرض تحقيقه لقاعدة السنخية. المنظور الثاني: وإما أن ينظر للمعلول بعد تحقق، فلا اشكال انه بعد تحققه لا يمكن تحقيقه بعلة أخرى، لأنه تحصيل للحاصل. وأما بالنسبة للحكم العقلي، فهل يمكن ان يكون للحكم العقلي موضوعات متعددة؟ اذ من الواضح ان نسبة الموضوع للحكم العقلي ليست نسبة العلة للمعلول كي يرد فيه محذور تعدد العلل لمعلول واحد، وإنما نسبة الموضوع للحكم العقلي نسبة المقتضي لمقتضاه وليست نسبة العلة لمعلولها، مثلاً: إذا شك المكلف في حرمة لحم الارنب بعد الفحص، فهنا يقال: إن المكلف معذور عقلاً في ارتكاب لحم الأرنب، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، للبراءة الشرعية، لأصالة الحل، ولا يرد هنا إشكال بأن المعذورية لا معنى لأن تتعدد موضوعاتها، او أن المعذورية العقلية تحصيلها بالمعذر الشرعي تحصيل للحاصل. بل يقال: بأن حكم العقل بالمعذرية واحد، وليس متعدداً، لكن حكم العقل بالمعذرية تقتضيه البراءة العقلية، لو لم تقتضيه البراءة الشرعية، وتقتضيه البراءة الشرعية لو لم تقتضيه اصالة الحل، وحينئذ فحكم العقل بالمعذورية مستند الى مجموع هذه المقتضيات او مستند لكل مقتضٍ بحد ذاته لو لم يكن المقتضي الآخر كافياً في الاقتضاء. فهذا النحو الذي نقول به في المعذرية نقول به في المنجزية لا فرق بينهما من حيث كونه حكما عقليا، فنقول: حكم العقل بمنجزية الواقع، أي التكليف الواقعي المحتمل قبل الفحص، له عدة محتملات: 1 - الاحتمال من دون مؤمن موضوع للمنجزية، 2 - امر الشارع با لاحتياط بناء على استفادة الوجوب الشرعي الطريقي من التوقف والاحتياط، 3 - ادلة وجوب التعلم. فلا مانع من ان يكون حكم العقل بمنجزية الواقع، أي حكم العقل على استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع على فرض وجود واقع، حكم العقل بذلك له عدة مقتضيات، منها: أن احتمال التكليف قبل الفحص بلا مؤّمن، فيكون منجزاً للواقع من باب دفع الضرر المحتمل، واما لدليل وجوب التعلم، واما لدليل وجوب الاحتياط، بناء على استفادة الوجوب الشرعي، فحكم العقل مستند الى المجموع، او الى كل واحد ان لم يكن الآخر كافيا في المنجزية او المحركية او الباعثية. الامر الثاني: بعد المفروغية عن امكان استناد المنجزية لعدة مقتضيات نقول: فرق بين المنجز العقلي والمنجز النقلي من حيث السعة والضيق، بيان ذلك: أن المنجز النقلي الا وهو ادلة وجوب التعلم فإنها ظاهرة في ان المتنجز الواقع الذي يقبل التعلم لا مطلق الواقع، فعندما يقول: «ما عملت، فيقول: ما علمت، فيقال هلا تعلمت حتى تعمل»، ظاهر في أن الذي تنجز عليه الواقع الذي يقبل التعلم، فلو لم يكن للواقع طريق يعلم به ويوصل اليه من خلاله لم يكن متنجزا، المتنجز الواقع القابل للتعلم، أي الواقع الذي لو فحص عنه لأمكن العلم به لا مطلق الواقع، هذا بلحاظ الدليل النقلي. أما بلحاظ الدليل العقلي وهو الاحتمال، حيث ذكرنا ان الاحتمال قبل الفحص منجز للواقع، اما من باب دفع الضرر المحتمل بناء على ان دفع الضرر وجوب عقلي لا فطري، وإما من باب شكر المنعم بناء على ان شكر المنعم واجب عقلاً، وإما من باب حق الطاعة، فإن الذي يقول بحق الطاعة بعد الفحص من باب اولى يقول به قبل الفحص، اذن بالنتيجة احتمال التكليف قبل الفحص منجز، ما من باب دفع الضرر المحتمل أو من باب شكر المنعم، وإما من باب حق الطاعة، لكن هذا المنجز العقلي لا فرق فيه بين ان يكون هذا الواقع قابل للتعلم ام غير قابل للتعلم. يعني حتى لو فرضنا ان الواقع المحتمل غير قابل للتعلم، بمعنى أن المكلف لو فحص عنه لم يصل اليه، مع ذلك هذا الواقع منجز قبل الفحص، بحيث لو أن المكلف ارتكب ذلك الواقع وكان في الواقع محرما لكان مستحقا للعقوبة والسر في ذلك: أن منجزية الاحتمال للواقع قبل الفحص ليست منوطة بالفحص، وإنما هي منوطة بنكتة عقلية وهي دفع الضرر المحتمل او شكر المنعم او حق الطاعة، ولا فرق بين هذه النكات العقلية بين كون الواقع قابلا للتعلم او غير قابلا للتعلم، المهم ان هذا الواقع قابل للاصطياد عبر الاحتياط، أي ان المكلف قادر على نجنب الواقع بالاحتياط، فما دام المكلف قادرا على تنجب الواقع بالاحتياط، فاحتمال هذا التكليف منجز قبل الفحص كان لهذا الواقع طريق ام لم يكن، نعم لا يمكن للمكلف ان يرتكب الشبهة قبل الفحص لتنجز الواقع، لكن لو فحص فلم يجد طريقا لذلك الواقع شمله قبح العقاب بلا بيان، بناء على القول بالبراءة العقلية، فهذا الواقع المحتمل قبل الفحص منجز، بحيث لو ارتكبه لاستحق العقوبة عليه، وهو بعد الفحص وعدم وجود البيان عليه ليس منجزا بمقتضى شمول قبح العقاب بلا بيان لمثله.

فتلخص: ان هناك منجزين نقليا وعقليا، ولكن يختلفان من حيث السعة والضيق. ولكن أشكل على المنجز العقلي وعلى المنجز النقلي. أما الإشكال على المنجز العقلي، بما افاده المحقق الاصفهاني «قده»، وبيان مطلبه بذكر مقدمتين: المقدمة الاولى: ان احتمال التكليف قبل الفحص لا يصلح ان يكون محركا وموجبا للفحص، والسر في ذلك: اذا افترضنا ان هذا التكليف لا طريق له، يعني حتى لو فحص لا يصل الى هذا التكليف، فأنتم تقولون ان احتمال التكليف موجب لاستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع، إذن لا دور للفحص، فهو على حال سيستحق العقوبة، بما أنكم تقولون احتمال التكليف قبل الفحص منجز بمعنى لو ارتكب الشبهة لصادف الواقع استحق العقوبة إذن لا اثر للفحص، بالنتيجة هذا يستحق العقوبة على كل حال فحص ام لم يفحص، فاذا افترضنا ان هذا الواقع ايضاً مما لا يمكن الوصول اليه، إذن فوجوب الفحص حينئذٍ لغو ولا معنى له، فاحتمال التكليف قبل الفحص لا يصلح ان يكون موجبا للفحص، اذ الفحص وعدمه على حد سواء، باعتبار ان احتمال التكليف موجب لاستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع، فحص أم لم يفحص. بينما احتمال الحجة مؤثر، فإن احتمال الحجة، أي احتمال الطريق منجز لانه موجب للفحص، بحيث لو فحص لكان للفحص اثر اما للنفي او بالاثبات، ففرق بين احتمال التكليف واحتمال الحجة، فعندما نقول بان احتمال الحجة يتميز على احتمال التكليف باعتبار ان احتمال الحجة له اثر وهو انه محرك نحو الفحص عن تلك الحجة، والفحص له دور بالنفي او الإثبات، بخلاف احتمال التكليف قبل الفحص اذ لعل الواقع لا طريق له ولا يمكن الوصول اليه بالفحص، بينما الواقع مستحق للعقوبة على كل حال.

المقدمة الثانية: حيث لا يعقل تنجز الواقع بما هو هو، أي حيث لا يعقل استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بما هي، حيث انه عقاب بلا بيان، ولا يعقل استحقاق العقوبة على مخالفة الطريق بما هو طريق، فإن الطريق بما هو طريق وجوبه طريقي فلا معنى لاستحقاق العقوبة على مخالفته، إذن بالنتيجة: استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع فرع وجود منجز للواقع، لابد ان نفترض ان هناك منجز للواقع كي يقال يستحق المكلف العقوبة على مخالفة الواقع لو اقتحم الشبهة لصادف الواقع، اما استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بما هو، او استحقاق العقوبة على مخالفة الطريق بما هو فهذا امر غير معقول، لانه عقاب بلا بيان، اذن لابد ان نفترض منجزاً كي يقال خالف المنجز فخالف الواقع فاستحق العقوبة. لا يوجد امامنا قبل الفحص منجز الا الاحتمال، لكن هذا الاحتمال اما ان يكون منجزا لأنه احتمال للواقع، او يكون منجزا لانه احتمال للطريق، فيكون احتمال الطريق منجزا للطريق الذي هو منجزا للواقع، لكن الاول وهو ان يكون احتمال التواقع بما هو هو، هو المنجز غير تام، لأننا ذكرنا ان احتمال الواقع بنفسه لا يصلح ان يكون محركاً وباعثاً نحو الفحص عن الواقع فكيف يكون منجزا للواقع، فتعين ان يكون المنجز هو احتمال الطريق واحتمال الحجة، لا احتمال الواقع، وهذا يقتضي ان احتمال الحجة إنما يكون منجزا فرع وجود حجة يمكن الوصول اليها. ولكن يلاحظ على ما افيد: بان وجوب الفحص عقلا ليس مرتبا بالمنجز. بيان ذلك: ذكروا الاعلام في اول مسألة في المنهاج: عمل المكلف ولا احتياط ولا اجتهاد باطل، ومعنى انه باطل ليس المقصود به البطلان الواقعي، قد يأتي بالعمل ويكون عمله صحيحا صدفة واقعاً، ولكن المقصود بالباطل يعني لا يمكن الاجتزاء به عقلا، فلأجل ذلك اذا احتمل المكلف الواقع وهو لم يجتهد حتى يفحص، ولم يرجع الى التقليد، ولم يحتط لأنه غير قادر على الاحتياط، فهذا المكلف قبل الفحص العقل يقول العمل الذي تأتي به الآن من دون اجتهاد ولا احتياط ولا تقليد لا يمكن الاجتزاء به عقلا، فلأجل ان يتخلص المكلف من هذا الحكم العقلي وهو عدم الاجتزاء بالعمل عليه ان يفحص، فوجوب الفحص ليس منبعثا عن المنجز ولا ربط له بالمنجز، وجوب الفحص فقط وجوب طريقي للتخلص من حكم العقل بعدم الاجتزاء بالعمل، فأن العقل يقول له أي عمل تقول به الآن لا تقدر ان تجتزأ به عقلا، لأنك لم تجتهد ولم تقلد ولم تحتاط، فكيف تجتزأ عقلا بذلك الواقع المحتمل، فإذا أردت ان تجتزأ بعملك عقلا فإما ان تحتاط او ترجع الى التقليد أو أنك تصبح مجتهدا وتفحص، وتصل الى النتيجة. فلكي يتخلص من هذا الحكم العقلي يقوم بالفحص، فوجوب الفحص وجوب عقلي من هذا الطريق، لا أن وجوب الفحص مستند الى الاحتمال كي يقال اذا لم يترتب وجوب الفحص على الاحتمال فالاحتمال ليس منجزا للواقع، فهذا مما لا معنى له، ولا ربط بينهما. وأما منجزية الاحتمال فهي نابعة لا من حيث ايجاب الفحص وعدمه بل هي ذات قيمة اما لوجوب شكر المنعم، وإما لحق الطاعة، وإما لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل، إذن احتمال التكليف قبل الفحص منجز عقلاً، وسبب تنجزيه عقلا حق الطاعة. وإن تقولوا بحق الطاعة فلا اقل تقولوا بشكر المنعم، وإذا لم تقولوا بشكر المنعم لا أقل من حكم العقل بدفع الضرر المحتمل، فمن هذا الباب انه منجز للواقع عليه طرق ام لم يكن عليه طريق. وأما وجوب الفحص فهو وجوب عقلي للتخلص من حكم العقل بعدم الاجتزاء بالعمل، فعدم سببية الاحتمال لوجوب الفحص لا يكسر منجزية الاحتمال كي يتعين ان يكون المنجز هو احتمال الطريق او احتمال الحجة. وأما المنجز النقلي: وهو أدلة وجوب التعلم، فقط اشكل المحقق النائيني على ذلك: بأن العقاب حينئذ على ترك التعلم المؤدي لمخالفة الواقع لا على ترك التعلم ولا ترك الواقع، فأتى بكلام جديد في البين. يأتي عنه الكلام إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.