درس الأصول | 113

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان الاحتمال قبل الفحص منجز للواقع، وإن كان هذا الواقع لا طريق اليه، فيستحق المكلف العقوبة على مخالفة الواقع وإن كان لا بيان عليه، بل قد يجد البيان على عدمه لو فحص. مثلا إذا شك المكلف في حرمة أكل الأرنب أو الوطواط أو القنافذ، أو الفهود، فإن احتمال الحرمة قبل الفحص منجز موجب لاستحقاق العقوبة، فلو فرضنا أن المكلف اقتحم الشبهة قبل الفحص، فأكل لحم الارنب ثم فحص لم يجد دليلا على الحرمة بل وجد دليلا على الحلّية، كما في صحيحة محمد بن مسلم: «سألته عن القنافذ والوطواط والأرانب والفهود؟ فقال: ليس بحرام، انما الحرام ما حرم الله في كتابه، قال تعالى: قل لا اجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون دما أو لحم خنزير...»، فإنه حتى لو وجد دليلا على الحلية بعد الفحص ما دام الحكم الواقعي هو الحرمة وقد خالفه من دون عذر أي خالفه قبل الفحص فإنه مستحق للعقوبة. وهنا كلامان: كلام للمحقق النائيني والآخر للسيد الخئوي في أجود التقريرات:

أما ما ذكره المحقق النائيني «قده»، فمحصله: لابد ان نبحث عما هو المنجز قبل الفحص، فتارة ندعي أن المنجز قبل الفحص هو العلم الإجمالي، فنقول: بما أن المكلف يعلم إجمالا بتكاليف في الواقع، فهذا العلم الإجمالي هو المنجز لتلك التكاليف يعلم اجمالا بتكاليف في الواقع فهذا العلم الاجمالي هو المنجز لتلك التكاليف والموجب لاستحقاق العقوبة عليها، لأن العلم الاجمالي بيان مصحح للعقوبة على مخالفة الواقع حتى لو أن المكلف فحص فلم يجد دليلا على الحرمة مع ذلك ذاك العلم الإجمالي كان منجزا وموجبا لاستحقاق العقوبة. اما إذا افترضنا ان العلم الاجمالي منحل والشبهة شبهة بدوية ليس فيها علم اجمالي وليس أمامنا الا اخبار التعلم، فإن مفاد أخبار التعلم، وجوب طريقي، ومخالفة الوجوب الطريقي لا توجب استحقاق العقوبة فغايته انه خاف الامر بالتعلم فلم يتعلم، فارتكب الشبهة وأكل لحم الارنب من دون تعلم، الا انه خالف واقعا طريقياً لا واجبا نفسيا، والواجب الطريقي الذي لا غرض فيه الا ايصال الواقع لا يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته، إذ المفروض ان الواقع لا يقبل الايصال، فوجوب التعلم انما هو وجوب طريقي بغرض ايصال الواقع، فاذا لم يكن الواقع قابلا للإيصال، لأنه لا يوجد بيان عليه، لا بيان وجداني ولا بيان تعبدي، فإذن مخالفة وجوب التعلم لا توجب استحقاق العقوبة.

لكن سيدنا «قده» في تعليقته على الاجود: قال لابد من تحديد ماهي القاعد الأولوية في الشبهة، وما هي القاعدة الثانوية، فاذا رجعنا الى القاعدة الاولية، فهل الأصل الأولي في حق هذا المكلف هو قاعدة قبح العقاب، أم الأصل الأولي في حق هذا المكلف هو المنجزية. فقال: الأصل الأولي في حق هذا المكلف قبل الفحص قبل العقاب بلا بيان، لأن هذا المكلف وان لم يلتفت الى قبح العقاب لا بيان، وان لم يتلفت الى هذا القبح ولا الى هذا الحكم العقلي، اما ان هذا المكلف مصداق لهذه القاعدة وهي قبح العقاب بلا بيان، لأن المفروض ان التكليف الواقعي ليس عليه بيان، بل لو فحص قد يجد دليلا على الخلاف، فاذا كان الواقع مما ليس عليه بيان فاللا بيان صادقة واقعا في حق هذا المكلف وان لم يلتفت الى ذلك، فاذا صدق اللا بيان في حقه كان مصداقا لحكم العقل بقبح العقاب. فالعقاب قبيح عليه فهو وان خالف الواقع الا انه خالف واقعا لا بيان عليه، هذا بحسب الاصل الاولي.

ولكن هل يوجد رافع لهذا الاصل أم لا؟ يعني هل يوجد بيان مصحح للعقوبة نرفع به اليد عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أم لا؟

فنقول: اما العلم الإجمالي الذي ادعاه المحقق النائيني وهو انه بيان مصحح للعقوبة فالمفروض انه منحل، لأن الفقيه بعد ان يستفرغ وسعه ويمحص الأدلة ينحل له العلم الإجمالي عنده، فلا يبقى عنده بالوجدان علم إجماليي، فإذ وردت عليه شبهة جديدة فهي شبهة بدوية وليست شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، إذن الشبهة قبل الفحص بعد انحلال العلم الإجمالي لا يصلح العلم الإجمالي فيها ان يكون بياناً مصححا للعقوبة لانحلاله، فليس امامه اما اخبار التعلم أو اخبار الاحتياط. إذ المفروض ان العلم الإجمالي منحل، فإذا جئنا لأخبار التعلم، فمفادها: تنجيز الواقع القابل للتعلم، «أفلا تعلمت حتى تعمل» فالواقع القابل للتعلم بعلم وجداني أو بعلم تعبدي هو المنجز، والمفروض ان الواقع هنا ليس قابلا للتعلم لأنه ليس عليه بيان، بل البيان على العكس، إذن فارتفع كون اخبار التعلم بيانا مصححا للعقوبة.

أما اخبار الاحتياط: ان قلنا بأن مفاد أخبار الاحتياط «أخوك دينك فاحتط لدينك» مفادها الوجوب المولوي الطريقي، فنعم، حينئذ نقول يوجد بيان مصحح للعقوبة وهو مفاد أخبار الاحتياط، لأن مفاد أخبار الاحتياط ما تستطيع ان تحتاج من جهته فهو متنجز عليك، والمفروض ان الواقع المحتمل يستطيع الاحتياط من جهته، وإن لم يكن قادرا على تعلمه، لكن يقدر على الاحتياط من جهته، ما دام يقدر على الاحتياط من جهته بأن يسد جميع الاحتمالات فيترك جميع ما يحتمل فيترك جميع ما يحتمل حرمته فأخبار الأحتياط بيان مصحح للعقوبة رافع لقبح العقاب بلا بيان. أما إذا قلنا بأن مفاد اخبار الاحتياط كما هو الصحيح عنده «السيد الخوئي» مجرد الإرشاد الى حكم العقل ليس مفادها إنشاء وجوب مولوي من قبل المولى، بل مجرد ارشاد الى حكم العقل. إذن لابد ان نرجع هل هناك حكم عقلي ترشد اليه اخبار الاحتياط أم لا؟ فإذا رجعنا للعقل وجدنا العقل، يقول: قبح العقاب بلا بيان، فلا يوجد حكم عقلي يوجب الاحتياط في رتبة سابقة كي تكون اخبار الاحتياط ارشادا اليه. فتحصل: أن مقتضى الاصل الأولي قبح العقاب بلا بيان، ولا يوجد بيان رافع له لا العلم الاجمالي لانحلاله، ولا اخبار التعلم، لأنها تنجز الواقع القابل للتعلم وهذا ليس قابلا للتعلم، ولا أخبار الاحتياط، لأنها مجرد ارشاد ولا يوجد حكم عقلي في رتبة سابقة عليها يرشد اليه. هذا ما افاده في «الدراسات» ايضا في نقاش المحقق النائيني «قده». ولكن ذكرنا فيما سبق الجواب عن هذا المطلب مفصلاً، وقلنا: بأن الأصل الأولي ليس هو قبح العقاب بلا بيان، بل الأصل الأولي هو منجزية احتمال التكليف قبل الفحص، والسر في ذلك ان حكم العقل بالقبح فرع التفاته الى الموضوع، فما لم يلتفت الى الموضوع وهو اللا بيان لا يكون حكم العقل بالقبح ثابتا في حقه، لا أننا ندعي مرحلة الظاهر، بل مرحلة الواقع، واقعا لا يحكم العقل بقبح العقاب ما لم يتلفت المكلف الى موضوعه وهو اللا بيان، فحكم العقل بالقبح منتفٍ ظاهراً، بل منتف واقعا، لا قبح في حقه وان كان لا بيان على الواقع لعدم التفات المكلف الى اللا بيان، فالنتيجة: أن قبح العقاب بلا بيان منتفٍ بانتفاء موضوعه في حق هذا المكلف، فالذي هو منجز في حقه هو الاحتمال، ما دام يحتمل التكليف قبل الفحص فاحتمال التكليف منجز في حقه، اما من باب حق الطاعة، إذا قلنا به، واما من باب شكر المنعم إذا قلنا به، واما من باب حكم العقل بدفع الضرر المحتمل، بالنتيجة الاحتمال قبل الفحص منجز في حق هذا المكلف، فاذا خالف هذا المنجز فخالف الواقع استحق العقاب على مخالفة الواقع وان كان لو فحص لم يجد بيانا على الواقع، بل قد يجد بيانا على العكس، الا انه خالف الواقع في مورد كان منجز موجود وهو الاحتمال، اذن الاصل الاولي ليس قبح العقاب بلا بيان، بل الاصل الاولي استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ليس فيه عذر لا عقلي ولا شرعي، اما انه ليس فيه عذر عقلي فلانتفاء قبح العقاب بلا بيان بانتفاء موضوعه، وأما أنه ليس هناك عذر شرعي لانصراف أدلة البراءة، «رفع عن امتي ما لا يعلمون»، عن الشبهة قبل الفحص، بل حتى لو قلنا بانها تشمل الشبهة قبل الفحص، فإن التسمك بها قبل الفحص تسمك بالدليل في الشبهة المصداقية، لأنها قالت «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ولا يستطيع ان يجزم انه ممن لا يعلم، لأنه لم يفحص بعد حتى يعرف انه مما يعلم أو مما لايعلم، فلا يصح التمسك لا بقبح العقاب لعدم الالتفات الى الموضوع، ولا بأدلة البراءة الشرعية لعدم عدم العلم، إذن لا يوجد في حقه لا عذر شرعي ولا عذر عقلي، فالاحتمال حينئذ منجز في حقه، ولو من باب دفع الضرر المحتمل. هذا بالنسبة الى المنجز العقلي.

أما المنجز النقلي، وهو أخبار التعلم: فإن المحقق النائيني قال: لو ان المكلف خالف اخبار التعلم وصادف انه خالف الواقع، فإنه لا يستحق العقوبة لا على مخالفة أخبار الواقع، ولا على مخالفة أخبار التعلم، لا على مخالفة الواقع لأنه لم يقم بيان على الواقع، ومجرد الامر بالتعلم ليس بيان، التعلم بيان، لا ان الامر بالتعلم بيان، مجرد انه مأمور بالتعلم فهذا ليس بيان على الواقع، بل البيان هو التعلم، والمفروض انه لم يتعلم، فيقبح عقابه على مخالفة الواقع من باب قبح العقاب بلا بيان، فإن الأمر بالتعلم ليس بياناً، كما يقبح عقابه على مخالفة اخبار التعلم لأن وجوبها وجوب طريقي وليس نفسياً، ومخالفة الوجوب الطريقي لا توجب استحقاق العقوبة، إنما الذي يوجب استحقاق العقوبة مخالفة التكليف النفسي. إذن كيف يستحق العقوبة؟ يقول: يستحق العقوبة على الترك المؤدي لترك الواقع، فاذا افترضنا انه اكل لحم الارنب وصادف ان لحم الارنب محرم واقعاً، فهنا حيث إن ترك التعلم ادى الى ترك الواقع استحق العقوبة عليه، لأن هذا الترك المؤدي لترك الواقع ينظر اليه تارة بعين الخطاب النفسي وتارة بعين الخطاب الطريقي، إذا نظرنا الى هذا الترك بعين الخطاب النفسي وهو الخطاب الوقعي في قول المولى «يحرم الارنب» لم يكن العقاب حينئذ عقاباً لا على الواقع، بل هو عقاب على مخالفة الواقع، ليس على مخالفة واقع لا بيان عليه، بل لمخالفة واقع لا بيان عليه، بل على مخالفة واقع وصل اليه عبر عدم تحرزه وارتكابه للشبهة. واذا نظرنا اليه عبر الخطاب الطريقي وهو خطاب الأمر بالتعلم، فنقول بأنه لم يخالف تكليفا طريقياً، بل خالف طريقا نفسيا بلحاظ ان هذا الترك ترك للواقع.

ويلاحظ على ما أفاده «قده»: أولاً: إن قبح العقاب بلا بيان، ليس المراد بالبيان، الوصول، لا الوصول الوجداني، ولا الوصول التعبدي، بل صرح بذلك في الفوائد، قال: المراد بالبيان المصحح للعقوبة لا الوصول، كل تكليف قام مصحح على العقوبة عليه فقد قام عليه بيان، لأن المقصود بقبح العقاب بلا بيان: العقاب على شيء لا مصحح للعقوبة عليه ظلم، والظلم قبيح، فقبح العقاب بلا بيان أي قبح العقاب على شيء لا مصحح وإن لم يصل ذلك الشيء لا وجدانا ولا تعبدا، يكفي أنه قام مصحح، فلأجل ذلك لا معنى لأن يقال ما دام هذا الواقع لم يصل بيان عليه لا وجدانا ولا تعبداً والأمر بالتعلم ليس بيانا. لأنه لم يوصل الواقع بعد وإنما يوصل الواقع نفس التعلم، اذن الواقع لم يصل بالامر بالتعلم لا وجدانا ولا تعبداً فالعقاب عليه عقاب بلا بين، ليس المراد بالبيان الوصول، لا الوصول الوجداني ولا التعبدي. المراد بالبيان ان تكون هناك حجة عقلية أو شرعية مصحح للعقوبة، لأن العقاب بلا مصحح ظلم، والظلم قبيح، فيرتفع هذا الظلم بوجود مصحح، فلابد ان نبحث هل هناك مصحح أم لا؟ فنقول: بناء على مسلكه من ان العلم الإجمالي لم ينحل، فحصل لهذا المكلف أو الفقيه علم بتكاليف واقعية، ثم أنحل هذا العلم إلى علم بتكاليف ضمن أخبار الثقات ضمن الكتب المعتبرة، والمفروض ان هذا العلم الاجمالي باقي ولم ينحل بحسب مسلكه، فهذا العلم الإجمالي إن لم يكن وصولا للواقع فهو مصحح للعقوبة رافع لموضوع قبح العقاب بلا بيان، واذا سلمنا كما نحن نقول بأن العلم الإجمالي قد انحل، تصل النوبة الى أخبار التعلم، فإن الأمر بالتعلم وإن لم يكن وصولا للواقع لكنه مصحح للعقوبة على الواقع، «هلا تعلمت حتى تعمل»، وإن لم يتم عنده اخبار التعلم على الاقل تصل النوبة لأخبار الاحتياط، فإن اخبار الاحتياط بيان مصحح للعقوبة على مخالفة الواقع، فإن لم يكن كذلك تصل النوبة الى منجزية الاحتمال، فإن الاحتمال الذي لا مؤّمن منه إذ لا يوجد لا عذر عقلي، وهو جريان قبح العقاب بلا بيان، ولا عذر شرعي لعدم شمول أدلة البراءة الشرعية، إذن بالنتيجة: نفس الاحتمال قبل الفحص بيان لأنه مصحح للعقوبة فلا موضوع للقاعدة. إذن النتيجة: لم يتم ما أفاده المحقق النائيني في المنجز النقلي، ولا ما افاده سيدنا الخوئي «قده» في المنجز العقلي.

والحمد لله رب العالمين.