نص الشريط
الدرس 57
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 7/3/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 3106
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (322)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم أنّ المشهور القائلين: بأنّ المكلف إذا لم يعلم أين وجه القبلة يصلّي إلى أربع جهات قد استندوا إلى أحد وجهين:

الوجه الأول: دعوى منجزية العلم الاجمالي. وقد اجاب عن ذلك سيّدنا: بأن المبنى اما ان القبلة عين الكعبة، فمقتضى ذلك الاتجاه إلى سبع جهات لا أربع، واما توسعة القبلة لما يشمل ما بين المشرق والمغرب فمقتضى ذلك الاكتفاء بالصلاة إلى ثلاثة جهات.

ولكن يمكن القول بقول الثلاثة وهو: ما مضى بحثه من انه يمكن اختيار ان القبلة عين الكعبة ولكن يكفي في تحقق الاستقبال المحاذاة العرفية لا الحقيقية والمحاذاة العرفية تتحقق باستقبال الجهة، وقد ذكرنا ذلك عندما ذكرنا مطلب النائيني، فبما ان المحقق هو استقبال الجهة فمقتضى منجزية العلم الاجمالي: الصلاة إلى أربع جهات لا سبع ولا ثلاثة، وهو الموافق لكلام كثير من فقهاؤنا المتأخرين.

الوجه الثاني: الذي نُسب إلى المشهور جملة من الاخبار:

منها: مرسلة الصدوق في الفقيه قال: روي لمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة انه يصلي إلى أربع جوانب.

ومنها: مرسلة الكليني قال: وروي انه يصلي إلى أربع جوانب.

ومنها: مرسلة خراش «أو خداش» عن أبي عبد الله قال «قلت: جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه».

قال سيدنا في مناقشة هذا الاستدلال:

المناقشة الأولى: «ولكنها بأجمعها مراسيل لا يعوّل عليها، مع احتمال كون الأُوليين رواية واحدة. على أن الأخيرة ضعيفة السند بخراش أيضاً، فإنه لم يوثق، ودعوى انجبار ضعف هذه الأخبار بعمل الأصحاب، مدفوعة بمنع الكبرى بل وكذلك الصغرى، لعدم ثبوت استنادهم إليها، ولعلهم اعتمدوا على ما عرفت من قاعدة الاشتغال».

المناقشة الثانية: أنّها غير تامة الدلالة. قال: «وقاصرة الدلالة، إذ مفادها وجوب الصلاة إلى الجوانب الأربعة حتى مع التمكن من الاجتهاد وتحصيل الظن، وهو خلاف المذهب المشهور، بل الظاهر أنّه لا قائل به.

وبكلمة واضحة: مفاد الرواية عدم جواز العمل بالظن، ووجوب الصلاة إلى الجهات الأربع، وهو خلاف ما يراه المشهور من اختصاص ذلك بمورد العجز عن تحصيل الظن، بل وخلاف صريح صحيح زرارة الدال على جواز العمل به لدى حصوله».

إلّا أن يناقش بأن المشهور يقول هذه الروايات مقيدة بالنصوص الدالة على تقديم الظن عند امكانه ومع عدم امكانه، فنعمل بمقتضى هذه الروايات فوجود مقيد لها لا يعني طرحها في مقام الاستدلال.

أمّا مبنى السيد الخوئي فقال: «فالأقوى إذن الاكتفاء بصلاة واحدة كما دلت عليه صريحاً صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر «أنه قال: يجزئ المتحير أبداً أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة». ولا مجال للنقاش فيها، تارة سنداً بجهالة طريق الصدوق إلى زرارة ومحمد ابن مسلم مجتمعين. وتارة أُخرى متناً، نظراً إلى أن الوارد في بعض نسخ الفقيه «التحري» بدل «المتحير». فتكون الرواية حينئذ من أدلة حجية الظن بالقبلة لدى العجز عن تحصيل العلم، ولا دلالة لها على اكتفاء المتحيّر بالصلاة إلى إحدى الجهات؛ لاندفاع الأول بأن الاقتصار على صورة الانفراد يكشف عن الاتحاد وأن طريقه إليهما مجتمعين هو بنفسه الطريق إليهما منفردين كما لا يخفى. وحيث‌ إن طريقه إلى زرارة صحيح وإن كان إلى ابن مسلم ضعيفاً فلا جرم تصبح الرواية معتبرة». واندفاع الثاني بأن الشائع من نسخ الفقيه هو الأول بحيث يطمأن بالتصحيف في تلك النسخة، على أنّها لا تنسجم مع قوله: «أينما توجه» وإنّما يتناسب ذلك مع النسخة المشهورة كما لعله ظاهر.

وتدل عليه أيضاً صحيحة معاوية بن عمار: «أنه سأل الصادق عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالًا، فقال له: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير ﴿ولِلّٰهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ.». وهي بمعونة الذيل صريحة في المطلوب؛ بيد أن جملة من المحققين «ومنهم الهمداني» طعنوا على الاستدلال بها باحتمال كون الذيل من كلام الصدوق نفسه.

ولكنّه، كما ترى في غاية البعد، فإنّ إدراج الاجتهاد وإلحاقه بالحديث من غير نصب قرينة أو ذكر فاصل بمثل، انتهى. أو أقول نوع خيانة في النقل، تجلّ ساحة «الصدوق المقدسة» عمّا دونها بكثير، فلا ينبغي الإشكال في صحة الاستدلال بها كالأُولى التي هي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم. «وتؤيدهما مرسلة ابن أبي عمير عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عن قبلة المتحير، فقال: يصلّي حيث يشاء». تم كلام السيد الخوئي في هذا المطلب.

أقول: يلاحظ هنا:

أولاً: على فرض تمامية صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم يجزي المتحير أبداً اينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة فعلى مبنانا انه متى ما كان منشأ عقلائي على الخلاف فلا مقتضي للحجية ففتوى المشهور على خلاف هذا النص مع وجوده في أيدهم منشأ عقلائي على الخلاف.

ثانيا: قد يقال بأنّ هذه الصحيحة يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم اين وجه القبلة، مع غض النظر عن اختلاف نسخ الفقيه فأنّ الرواية أوردها الكليني والتهذيبان بهذا اللفظ يجيز التحري أبداً إذا لم يعلم اين وجه القبلة.

الصدوق في نقل اخر يجزي المتحري ابدا اينما توجه إذا لم يعلم جهة القبلة. فقد فيقال ان مقتضى تعدد الطريق تعدد الرواية.

ولكن، وحدة المتن، ووحدة الراوي المباشر وهو زرارة منشأ لاحتمال عقلائي للعكس وهو أن الرواية واحدة لم يحرز اللفظ الوارد عنها هل هو التحري أم المتحير ومقتضى ان اللفظ هو التحري عدم كفاية الصلاة إلى أي جهة بل لابد من التحري وان يأخذ بالاحتمال الأحرى، ومقتضى نقل الفقيه يجزي المتحير هو كفاية الصلاة إلى أي جهة.

وأما دعوى سيدنا: أنّ الصدوق تجل ساحته عما دون ذلك بكثير، فنحن على مسلك السيد البروجردي والسيد الاستاذ بأنّ الصدوق كثّر التصرف في النصوص. وهناك شواهد عديدة على تصرفه وتدخله في النصوص:

الشاهد الاول: في زيارة الحسين نقلها كامل الزيارات «ص200، باب79»، ونقلها الكافي بهذا اللفظ: «إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ وتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ». وفي الفقيه في «ج2، ص596» نقل الرواية وحذف هذه الفقرة بلحاظ أنها لا تنسجم مع مسلكه في الغلو.

الشاهد الثاني: في الكافي «ج2»: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع جَالِساً وقَدْ سَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ لَحِقَ الشَّقَاءُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى حَكَمَ اللَّهُ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ بِالْعَذَابِ عَلَى عَمَلِهِمْ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيُّهَا السَّائِلُ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بِحَقِّهِ فَلَمَّا حَكَمَ بِذَلِكَ وَهَبَ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ووَضَعَ عَنْهُمْ ثِقْلَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُهُ ووَهَبَ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ لِسَبْقِ عِلْمِهِ فِيهِمْ ومَنَعَهُمْ إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْهُ فَوَافَقُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ ولَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا حَالًا تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ وهُوَ مَعْنَى شَاءَ مَا شَاءَ وهُوَ سِرُّهُ». هذا نقل الكليني.

قال المجلسي في مرأة العقول: «الحديث الثاني: مرفوع وهو في غاية الصعوبة والإشكال، وتطبيقه على مذهب العدلية يحتاج إلى تكلفات كثيرة، والعجب أن الصدوق «قده» رواه في التوحيد ناقلاً عن الكليني بهذا‌ السند بعينه، هكذا: عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا بن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد الله : أيها السائل علم الله عز وجل لا يقوم أحد من خلقه بحقه، فلما علم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ولم يمنعهم أطاقه القبول منه، لأن علمه أولى بحقيقة التصديق، فوافقوا ما سبق لهم في علمه، وإن قدروا أن يأتوا خلالا ينجيهم عن معصيته، وهو معنى شاء ما شاء وهو سر.. ولا أدري أنّ نسخته كانت هكذا أو غيره ليوافق قواعد العدل، ويشكل احتمال هذا الظن في مثله».

الشاهد الثالث: من لا يحضره الفقيه، «ج‌1، ص449»: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ التَّقْصِيرِ - فَقَالَ بَرِيدٌ ذَاهِبٌ وبَرِيدٌ جَائِيٌ.

خَبَرُ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنِ التَّقْصِيرِ فَقَالَ بَرِيدٌ ذَاهِبٌ وبَرِيدٌ جَائِي وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إذا أَتَى ذُبَاباً قَصَّرَ.

أضاف الصدوق إلى هذه الرواية: «وذُبَابٌ عَلَى بَرِيدٍ وإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذا رَجَعَ كَانَ سَفَرُهُ بَرِيدَيْنِ ثَمَانِيَةَ فَرَاسِخَ‌».

ونتيجة هذه الشواهد: أنه لا يحصل الاطمئنان فيما يرويه الصدوق منفرداً في الاحكام الإلزامية مما هو محل الريب وفي فرض التعارض بين نقله ونقل غيره، يقدم نقل غيره، وهذا لا يتنافى مع جلالة الصدوق، لأنّ كتاب الفقيه كتاب فتوى كما صرح في المقدمة. ومقتضى ذلك: أن ينقل رأيه في راوية، والنتيجة انه لم نحرز صحّة يجزي المتحير ابداً، ونقول وظيفة المكلف العمل بالأمارات، واذا لم تكن فوظيفته التحري وبذل الجهد.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 56
الدرس 58