نص الشريط
الدرس 82
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/4/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 2480
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (239)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم: أنّ سيّدنا أفاد: أنّ المشهور أفتى بصحة الصلاة في فرض الإخلال بالقبلة إذا كان الانحراف ما بين اليمين واليسار، وكان الإخلال عن جهل. واستند في ذلك: إلى صحيحة زرارة التي فيها: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه». ثم ذكر أن هذه الصحيحة معارضة بصحيحة زرارة الأخرى التي فيها «استقبل القبلة بوجهك، ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك». وقال: بل يمكن القول: بأنّ صحيحة زرارة الأولى مقدمة على الأخرى لموافقتها للكتاب. وسبق أن ذكرنا وجهين للتأمل في كلامه.

الوجه الثالث: أن يقال: بأنّه لا تعارض أصلاً، بين صحيحة زرارة الدالة على شرطية الاستقبال في قوله: «استقبل القبلة بوجهك»، وبين صحيحة زرارة الدالة على التوسعة في قوله: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كله». والوجه في ذلك: أنّ التعارض بينهما إنّما يتمّ لو كان مفاد صحيحة زرارة الدالة على التوسعة إلغاءً لمفاد صحيحة زرارة الدالة على شرطية الاستقبال، وهذا غير منطبق على المقام، وذلك: لانّ لسان صحيحة زرارة لسان الحكومة على نحو التوأم كما في تعبيرات العراقي، ومعنى ذلك: أنّ الدليل الحاكم: تارة يكون حاكما على نحو التوسعة، كما في قوله «لا صلاة إلّا بطهور»، فيقول بعده: «الطواف بالبيت صلاة»، فالحكومة على نحو التوسعة، أي إثبات الحكم من الموضوع واحد إلى الموضوع أثنين.

وتارة على نحو التضييق: كما في: ﴿وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وقال الآمر: «لا ربا بين الوالد وولده»، فإنّ مفاد الدليل الثاني تضييق حرمة الربا لغير الربا بين الوالد وولده.

وأحيانا يكون مفاد الدليل الحاكم: التوسعة من جهة والتضييق من جهة. فهو موسع بلحاظ ومضيق بلحاظ آخر، ومن أمثلة ذلك ما هو محل كلامنا فإنّه إذا قال: استقبل بوجهك القبلة، أو قال: «فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام»، ثم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه». فإنّ هذا الدليل بلحاظ لسانه - وهو لسان التوسعة - مفاده: أنّ القبلة لا تختصّ واقعاً باستقبال جرم الكعبة، بحيث لو خرج سهم من الجبهة لابّد أن يقع على جرم الكعبة بل أنّ القبلة تشمل واقعاً طرفي الكعبة بمستوى «45 درجة»، وهي في نفس الوقت تضييق لأنّ مفادها اعتبار شرطية استقبال جرم الكعبة في حال الاستدبار، فكأنّ مفادها عدم اعتبار استقبال جرم الكعبة ما بين اليمين واليسار، وأمّا في فرض استدبارها فإنّ شرطية استقبال الكعبة محفوظة. ولأجل ذلك: لا يكون مفاد الدليل مصادما للأول حيث إنّه يتحفظ على مدلوله في فرض الاستدبار، وإنّما يكون مفاده موسعا باعتبار ومضيقا باعتبار آخر، ويؤكد ذلك: ذيل الرواية حيث إنّ سيّدنا لم ينقله. فقد ورد ما عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا صَلَاةَ إِلَّا إلى الْقِبْلَةِ قَالَ قُلْتُ وأَيْنَ حَدُّ الْقِبْلَةِ قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ كُلُّهُ قَالَ قُلْتُ فَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أو فِي يَوْمِ غَيْمٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ قَالَ يُعِيدُ.

فإنّ ظاهر الذيل التحفظ على الشرطية في فرض آخر وهو فرض الاستدبار. إذاً: سواء قلنا بشمول صحيحة زرارة وهي «استقبل بوجهك القبلة» أم لا، فعلى كل حال لا نرى تناف بين المدلولين، بل يوجد حكومة بينهما حكومة توأمية.

فإن قلت: إذا لم تتحقق المعارضة بين صحيحة زرارة الدالة على التوسعة والدالة على الاستقبال، فهناك معارضة بين صحيحة زرارة الدالة على التوسعة وصحاح أخرى.

منها: ما عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ إذا لَمْ تُرَ الشَّمْسُ ولَا الْقَمَرُ ولَا النُّجُومُ قَالَ اجْتَهِدْ رَأْيَكَ وتَعَمَّدِ الْقِبْلَةَ جُهْدَكَ». ولم يقل له ان ما بين المشرق والمغرب قبلة.

وقد يقال: أنّها في مقام بيان مطلوبية التحرّي وأنّه أمارة شرعية.

ومنها: ما عن حَمَّادٌ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنِ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ الْوَقْتُ والطَّهُورُ والْقِبْلَةُ والتَّوَجُّهُ والرُّكُوعُ والسُّجُودُ والدُّعَاءُ قُلْتُ مَا سِوَى ذَلِكَ قَالَ سُنَّةٌ فِي فَرِيضَةٍ».

بأن يقال: أنّ ظاهر هذه الرواية: أنّ القبلة فرض لا يرفع اليد عنه، ومقتضى إطلاقها: أن لا فرق بين العالم والجاهل قاصراً أو مقصراً، وهذا يتنافى مع أنّ «ما بين المشرق والمغرب قبلة كله».

ولكن قد يدعى: أنّ هذه الصحيحة في مقام بيان الفرق بين السنة والفريضة، لا بيان شرطية الاستقبال في عنوانه.

الصحيحة الثالثة: حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ الْيَقْطِينِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ حُرُمَاتٍ ثلاث [ثَلَاثاً لَيْسَ مِثْلَهُنَّ شَيْ‌ءٌ - كِتَابُهُ وهُوَ حِكْمَتُهُ ونُورُهُ وبَيْتُهُ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلنَّاسِ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ تَوَجُّهاً إلى غَيْرِهِ وعِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه واله».

فيقال: أنّ ظاهر هذه المعتبرة حيث قال: «وبيته... ألخ» أنّ القبلة هي عين الكعبة، وهذا يتعارض مع «ما بين المشرق والمغرب قبلة كله».

وقد يجاب عن ذلك: أنّ هذه الرواية بصدد بيان الأئمة، جعل لهم أئمة ثلاثة: «الكتاب، والكعبة، وعترة نبيكم»، فهو في مقام ذم التوجه لغيرهم لا لبيان شرطية الاستقبال. وبالتالي: فهذه الصحاح وغيرها لا تتعارض مع صحيحة زرارة.

فإن قلت: المجموع من هذه الصحاح يدل بالدلالة الالتزامية على شرطية استقبال جرم الكعبة، حتّى صحيحة زرارة الأولى التي قالت «استقبل بوجهك القبلة»، فإنّها وإن كانت بحسب مدلولها المطابقي دالة على قاطعية الالتفات، فإنّها بمدلولها الالتزامي دالة على شرطية القبلة، فبلحاظ المدلول الالتزامي يقع التعارض مع صحيحة زرارة الدالة على التوسعة.

قلت: أنّ المتكلم ليس في مقام البيان من جهة مدلولها الالتزامي، فإنّ من تكلم بكلام فهو بصدد ما يكون الكلام وسيلة لتفهيمه عرفاً، وقدح المراد الاستعمالي في ذهن المخاطب هو المدلول المطابقي، أمّا الالتزامي فيقتنص بالمناسبات كمناسبة الحكم والموضوع وغيره، وبما أنّه يشترط في التمسك بالإطلاق كون المولى في مقام البيان فلا يصح التمسك بإطلاق المدلول الالتزامي ما لم نحرز بقرينة خاصة أنّ المولى في مقام بيانه، والمفروض أنّ التعارض على فرض شمول شرطية الاستقبال لمن صلّى ما بين المشرق والمغرب جاهلاً.

نعم، على فرض التعارض بين صحيحة زرارة الدالة على التوسعة، وبين الصحاح السابقة، يمكن ترجيح الصحاح السابقة بموافقتها للكتاب لأجل الاختلاف مع سيّدنا في المبنى، فإنّ سيّدنا أفاد: بأنّ إطلاق الكتاب لا يصلح للمرجحية كما ذَكرَ في «بحث الحج من الموسوعة» في «ج27، ص159»؛ والسر في ذلك: أنّ الإطلاق ليس ظهوراً لنفس الكتاب، وإنّما هو بحكم العقل - بحسب تعبير له -، أو من باب عدم ذكر القيد بحسب تعبير آخر.

ولكن الصحيح: إنّ الإطلاق ظهور سياقي للخطاب، لا أمراً منفصلاً عنه، نعم، العقل يكتشف المراد الجدي وهو أنّ الحكم مجعول للطبيعي بواسطة هذا الظهور السياقي المبتني على مقدمات الحكمة، لا أنّ الإطلاق حكم عقلي، فإنّ العقل ليس وظيفته الإدراك، فإذا اطلّع على مقدمات الحكمة اطلّع على سياق أنّ ما يذكره المتكلم مراد له وما لا يذكره ليس مراداً له؛ كما أنّ عدم ذكر القيد ما هو إلّا منشأ من مناشيء الظهور السياقي فهو واسطة في ثبوت الظهور السياقي لا واسطة في العروض بحيث يكون هو الدال على الإطلاق. وعليه: إطلاق الكتاب مرجح.

وقد يقال: بأنّ صحيحة زرارة الدالة على التوسعة هي المقدمة في مقام التعارض لفتوى المشهور على طبقها بناءً على أنّ مطلق الشهرة روائية أو علمية أو فتوائية من المرجحات وهي الكبرى التي تبناها السيد الأستاذ، وهي: متى ما كان في المتعارضين ميزة توجب صرف الريب إلى غيره حال التعارض كان مرجحاً ولا خصوصية للمرجحات المنصوصة.

ولكن قد يقال: أنّ الصغرى ممنوعة؛ حيث نقل في «المستمسك» عن «الناصريات والمبسوط والمقنعة والخلاف والسرائر والغنية والمراسم»: أنّهم افتوا ببطلان الصلاة لمن انكشف له أنّه صلّى لغير القبلة، ولو انكشف له ذلك أثناء الوقت؛ وقال: إنّ مقتضى كلماتهم: عدم الفرق بين أن ينكشف أنّه استبدر أو أنّه ما بين اليمين واليسار، فعلى الخلاف فيما ستظهر من كلماتهم لم نحرز شهر العمل بصحيحة زرارة كي تكون مرجحاً على معارضها.

الجهة الثانية: ذكر سيدنا: أنّه في فرض الجهل بالحكم فلا دليل على الصحة وإن كان الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار، بل مقتضى صحيحة زرارة الموافقة للكتاب هو البطلان عند عدم استقبال المسجد الحرام، وقد عرفت أنّ صحيحته الأولى قد سقطت بالمعارضة، بل الكتاب أيضاً بنفسه يقتضي البطلان كما لا يخفى. وحديث «لا تعاد» وإن كان شاملًا للجهل لكن القبلة مما استثني فيه.

وأما صحيحة معاوية بن عمار: «أنه سأل الصادق عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالًا، فقال له: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة».

وموثقة الحسين بن علوان: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي : «أنّه كان يقول: من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان ما بين المشرق والمغرب». فلا يصح التمسك بهما في المقام - أعني صورة الجهل بالحكم - لظهورهما ولا سيما الموثقة في أنّ المصلّي كان عالماً بأصل اعتبار الاستقبال في الصلاة، غايته أنّه أخطأ فتخيل أنّها في جهة خاصة ثم تبيّن الانحراف عنها بعد الصلاة، فلا تشملان صورة الجهل بالحكم كما لعله ظاهر.

وعليه: فالأقوى هو البطلان ووجوب الإعادة، عملًا بإطلاقات أدلّة الاستقبال السليمة عن المقيد، من غير فرق بين الجاهل القاصر والمقصر، نعم هو معذور مع القصور، لكن المعذورية لا تنافي الفساد كما هو واضح.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 81
الدرس 83