نص الشريط
الدرس 83
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 18/4/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 2517
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (281)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدّم: أنَّ من ترك الإستقبال لجهل في الحكم سواء كان الجهل قصورياً أو تقصيرياً فهل تصح صلاته أم لا؟.

وقلنا: أنّ سيّدنا أفاد: أنّ الصحيح بطلان صلاته بمقتضى حديث «لا تعاد» و«أدلة الشرطية»، وما ورد: من تصحيح الصلاة لمن علم في الوقت خاص بفرض الشبهة في الموضوع، ولا يشمل فرض الشبهة الحكمية.

ولكن بإزاء ذلك ذهب السيّد الإمام: إلى أنّ مقتضى القاعدة: الحكم بصحة صلاة من ترك الإستقبال جاهلاً بالحكم، سواء انكشف أنّه بين اليمين واليسار أو انكشف أنّه مستدبر، فعلى كل حال تقع صلاته صحيحة. وأبان ذلك في عدة أمور نتعرض لها:

الأمر الأول: أنّ مقتضى إطلاق صحيح زُرَارَةُ: «عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لَا صَلَاةَ إِلَّا إلى الْقِبْلَةِ، قَالَ قُلْتُ وأَيْنَ حَدُّ الْقِبْلَةِ؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ كُلُّهُ، قَالَ قُلْتُ فَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أو فِي يَوْمِ غَيْمٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ؟ قَالَ: يُعِيدُ».

فهذا شامل لمن ترك الإستقبال جهلاً بالحكم واستبان أنّه ما بين اليمين واليسار، فإنّه لا قصور فيه في شمول الرواية لمثله، وهو أنّه «ما بين المشرق والمغرب قبلة» والمفروض أنّه لم يخرج عن هذين الحدّين. قال: ويؤكد شمول صدر الرواية للجهل بالحكم: التفريع في ذيلها؛ حيث قال: «قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: فليعد». فإنّ المنظور في الذيل الشبهة الموضوعية، وهكذا يؤكد شمول الصدر لكلا الشبهتين، فكأنّ السائل لما استفاد من الإمام كبرى كلّية وهي: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» فرّع على ذلك السؤال عن الشبهة الموضوعية - أي: من صلّى لغير القبلة لمانع من غيم أو غيره - فنفس التفریع بالسؤال قرينة على شمول صدر الرواية لفرض الشبهة الحكمية، وبالتالي: فصحيحة زرارة حاكمة على أدلة شرطية القبلة، ومنها حديث «لا تعاد»، فإنّ المستثنى وهو القبلة محكوم بصحيح زرارة، فكأنّه قال: من أخل بالقبلة أعاد إلّا أن يكون عن جهل وكان ما بين المشرق والمغرب.

الأمر الثاني: هل أنّ حديث «لا تعاد» هو الحاكم على حديث «الرفع» أم العكس؟. فمقتضى حديث «لا تعاد»: بطلان من صلّى لغير القبلة جهلاً، ومقتضى حديث «الرفع»: ارتفاع شرطية القبلة في حال الجهل، ولازم ذلك: صحّة صلاته. وبين الحديثين عموم من وجه، فإنَّ حديث «لا تعاد» شامل لفرض العلم، بينما حديث «الرفع» خاص بفرض الجهل، كما أنّ حديث «الرفع» شامل للجهل بالقبلة وغيرها، وحديث «لا تعاد» وارد في القبلة، فإذا لم يعلم بشرطية القبلة وصلّى لغيرها كان مورداً لاجتماعهما، فهل يتعارضان ويتساقطان؟ وهل أنّ أحدهما حاكم على الآخر؟.

قال السيد: ذكر المحقق النائيني: أنّ حديث «لا تعاد» هو الحاكم على حديث «الرفع» لأنّ حديث «الرفع» ناظر إلى مقام الجعل، بينما حديث «لا تعاد» يقرر أنّ من كان مأموراً بشيء فامتثل فانكشف أنّ امتثاله ذا خللٍ كان امتثاله مقبولاً إن لم يخل بأحد الخمسة، فحديث «لا تعاد» ناظر لمرحلة الامتثال بعد المفروغية عن تمامية مرحلة الجعل. فبما أنّ مفاد حديث «لا تعاد» متأخر رتبة عن مفاد حديث «الرفع» فهو الناظر لحديث «الرفع» لا العكس. فإنّ ما هو متأخر رتبة ناظر لما هو متقدم رتبة، والملاك في الحكومة النظر، ومن محققات النظر التأخر الرتبي، فحديث «لا تعاد» حاكم على حديث «الرفع»، وعليه: فمقتضى حديث «لا تعاد» بطلان صلاته، لأنّه أخلّ بالقبلة.

أشكل عليه السيد الإمام: بأنّ المناط في الحكومة ليس مجرد التأخر الرتبي، وإنّما المناط فيها أن يكون لسان الدليل الحاكم لسان المسالمة لا المصادمة، وهذا هو الفرق بين التخصيص والحكومة، فالتخصيص: لسانه لسان المصادمة، كما لو قال «اكرم كل عالم» وقال «لا تكرم زيدا العالم»، بينما لسان الحكومة: لسان المسالمة سواء كان بالتصرف في عقد الوضع أو كان بالتصرف في عقد الحمل.

مثال التصرف في عقد الوضع: قوله عزوجل: ﴿وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وقال الحديث: «لا ربا بين الوالد وولده»، فمن الواضح حكومة الحديث على الآية، حيث أخرج المعاملة بين الوالد وولده عن موضوع حرمة الربا. أو كان التصرف في عقد الحمل: بأن قال المولى: «تجب الزكاة في الموارد التسعة»، وقال في حديث آخر: «لا زكاة في مال الصبي» فإنّ هذا الحديث الثاني حاكم، لأنّ لسانه لسان المسالمة، حيث تصرف في عقد الحمل بإخراج المتعلق، فلو قال: تجب الزكاة في التسعة الموارد، وقال: لا تجب الزكاة في مال الصبي، لكان تخصيصاً. هذه هي الكبرى التي أفادها السيد الإمام. وأمّا تطبيق ذلك على محل الكلام: إذا قال: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس»، فإن الحديث عرفا كناية عن بقاء شرطية القبلة في فرض الإخلال بها.

وبعبارة أخرى: أنّ مفاد حديث «لا تعاد» الإرشاد إلى إطلاق شرطية القبلة في جميع الحالات، فحديث «لا تعاد» كاشف عن حدود مقام الجعل، حيث إنّه يرشد إلى إطلاق شرطية القبلة لجميع حالات المكلف، فإذا جاء حديث الرفع وقرّر بأنّ ما لم يعلم فليس ثابتاً في حق المكلّف كان حاكماً على حديث لا تعاد لأنّ لسانه لسان المسالمة، وهو: أن لا تكليف في حق المكلف في فرض الجهل.

وبعبارة أخرى: أنّ مفاد حديث «لا تعاد» بيان إطلاق الشرطية؛ ومفاد حديث «الرفع» أنّ هذه الشرطية من الأول متقيدة بفرض العلم، فلا شرطية للاستقبال في حال الجهل أبداً، وبالتالي: فحديث «الرفع» هو الحاكم، وليس العكس.

وأمّا دعوى: أنّ حديث «لا تعاد» ناظر لمقام الامتثال، ومقتضى ذلك: أن يكون هو الحاكم، فهي مؤيدة لكلامنا لا رداً عليه، لأنّ مفاد حديث «لا تعاد» لو كان هو التصرف في مقام الامتثال لكان معنى ذلك المفروغية عن مقام الجعل، والحال أنّ حديث «الرفع» ضَيَّق الجعل قبل الوصول إلى مرحلة الامتثال. فمجرد أنّ حديث «لا تعاد» ناظرٌ إلى مقام الامتثال لا يصلح أن يكون سبباً لحاكميته فإنّ المناط هو لسان المسالمة لا التأخر الرتبي بل كونه في مقام الامتثال مؤيد للمدّعى لا ردّاً عليه.

قال السید الإمام في كتاب «الخلل في الصلاة، ص: 67» ‌: «فكما أنّ قوله بين المشرق والمغرب قبلة حاكم على أدلة شرطية القبلة توسعة، كذلك حديث الرفع رافع لموضوع ما ثبت البطلان لأجله بالتوسعة بنحو آخر. فما في كلمات بعض الأعيان «اي المحقق النائيني» من حكومة حديث «لا تعاد» على حديث «الرفع» غير وجيه، كدعواه باختصاص لا تعاد بالسهو في الموضوع».

ومقصوده: أنّه إذا تضيقت القبلة بفرض العلم كان قوله: «اقم الصلاة» مطلقا لفرض الجهل، فهو تضييقٌ لشرطية القبلة توسعةٌ لدائرة إطلاق اقم الصلاة، حيث يشمل ”اقم الصلاة“ الصلاة التي اتي بها فاقدة للقبلة، ولازم شموله لها سقوط الأمر والصحّة، فهو تضييق من جهة توسعة من جهة اخرى..

الأمر الثالث: قد يقال: أنّ لازم "تحكيم حديث «الرفع» عليه - أي على حديث لا تعاد - وهو أنّ إخراج ما ثبت بفقرات حديث «الرفع» عن «لا تعاد» لازمه بقائه - أي حديث لا تعاد - بلا مورد أو في مورد نادر الوجود، ضرورة أن إخراج السهو حكماً وموضوعاً والنسيان والخطاء والجهل كذلك عنه لازمه ذلك، فيقع التعارض بين الحاكم والمحكوم، والمرجح أو المرجع هو الكتاب الموافق لحديث «لا تعاد»، ولازمه البطلان مطلقا».

وكل دليل يكون إخراج مورد عنه مستهجنا يكون إطلاقه لذلك المورد قوياً عرفاً، ومقتضى ذلك: إباؤه عن التخصيص والحكومة، ولذلك ما ذكره المحقق النائيني: في الفرق بين الحكومة والتخصيص. حيث قال: من أحكام التخصيص إباء العام عن التخصيص وهذا لا يشمل فرض الحكومة غير تام، لأنّ النكتة واحدة، فما دام الخطاب قويّ الظهور في العموم فهو كما يأبى التخصيص يأبى الحكومة، فلا فرق بينهما من هذه الجهة، إذ مقتضى قوة ظهور «لا تعاد» في الشمول لهذه الموارد المعارضة مع حديث «الرفع» وليست الحكومة، فحيث إنّ بين الحديثين عموماً من وجه يقع بينهما التعارض في مورد الجهل بالحكم لا أنّ حديث «لا تعاد» محكوم، فإذا وقع التعارض بينهما رجعنا للمرجحات، والمرجح مع حديث «لا تعاد» وهو الكتاب الدال على شرطية القبلة حتّى مع الإخلال بها جهلاً، ولازم ذلك: البطلان.

قال: «والجواب عنه: أنّ الأدلة الخاصة المفصلة بين الوقت وخارجه مخصصة لحديث الرفع، لأنّها وردت في مورده فعليه يكون الجهل بالموضوع والخطاء والسهو فيه داخلة في لا تعاد، وخارجة عن حاكمه، وأمّا الجهل بالحكم ونسيانه الخارجان عن الأدلة الخاصة فهما باقيان تحت حديث الرفع، وإخراجهما من لا تعاد لا يوجب الاشكال المذكور».

إذاً: إنّ إخراج فرض الجهل والنسيان لا يوجب بقاء «لا تعاد» بلا مورد، لأنّ لدينا أدلة خاصة فصلّت بين داخل الوقت وخارجه نحو صحيح عبد الرحمن ابن الحجاج الذي قال فيه: «إذا صليت وانت على غير القبلة فاستبان انك صليت على غير القبلة وانت في وقت فاعد فإن فاتك الوقت فلا تعد»، ومقتضى هذه الأحاديث المفصلة بحسب سياقها ورودها في فرض الجهل بالموضوع أنّ من صلّى لغير القبلة لجهل بالموضوع يأتي فيه التفصيل، فإذا علم اثناء الوقت دخل تحت حديث «لا تعاد» وإن علم بعد الوقت دخل تحت حديث «الرفع»، وبالتالي: تقديم حديث «الرفع» بالحكومة على حديث «لا تعاد» لا يوجب بقاء «لا تعاد» بلا مورد أو مورد نادر، بل يبقى تحته من أخل بالقبلة لجهل بالموضوع أو نسيان بالموضع ثم ارتفع ذلك أثناء الوقت، حيث إنّ مقتضى الروايات المفصلّة بطلان صلاته، فلم يبق حديث «لا تعاد» بلا مورد.

فنلاحظ أنّ السيد هنا اقحم دليلاً آخر في إثبات قوة أحد الظهورين أو ضعفه عن الشمول لمحل التعارض.

الأمر الرابع والأخير: «رد للإشكالات»:

الاشكال الإول: إن قلت: إنّ تقييد شرطية القبلة بفرض العلم بها يوجب الدور، فإنّ شرطية القبلة في فرض العلم والعلم بالشرطية فرع ثبوتها، فتوقف ثبوت الشيء على نفسه. والجواب: بأنّ هذا من باب تقييد الجعل بالعلم بالمجعول، أي: أخذ في فعلية المجعول العلم بالجعل، فبما أنّ المتوقف عليه العلم بالجعل والمتوقف ثبوت المجعول فلا دور.

الإشكال الثاني: قال: وتوهم أنّ الرفع إنّما هو ما دام جاهلاً فمع حدوث العلم يثبت التكليف فاسد، وقد ذكرنا في محله بيان الأجزاء في أمثاله. فراجع الأصول. أي: بعد أن اثبتنا اختصاص شرطية القبلة لفرض العلم فمن الأول لا تشمل فرض الجهل، فإذا علم بعد ذلك فلا يلزم من ذلك عود التكليف ما دام فيما مضى لم تكن شرطية القبلة ثابتة في حقه من الأصل.

الإشكال الثالث: إن قلت: لازم كلامك كون الجهل بالموضوع أسوأ حالاً من الجهل بالحكم. قلت: إنّ هذا في غير محلّه بعد اقتضاء الدليل ذلك، بل ورد في صحيحة عبد الرحمن بن حجاج في باب التزويج في العدة: أنّ جهالته بالحكم أهون من جهالته بالموضوع - أي إذا كان جاهلاً بالحكم لم يوجب الحرمة المؤبدة وإن كان جاهلاً بالموضوع أوجب الحرمة المؤبدة -.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 82
الدرس 84