نص الشريط
الدرس 89
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 26/4/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 2762
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (226)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى أنّ هناك قسمين من النصوص متعرضين لمن صلّى لغير القبلة:

القسم الأول: صحيحة معاوية بن عمار: «سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الرَّجُلِ يَقُومُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ مَا فَرَغَ فَيَرَى أَنَّهُ قَدِ انْحَرَفَ عَنِ الْقِبْلَةِ يَمِيناً أو شِمَالًا فَقَالَ لَهُ قَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ ومَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ».

وظاهرها: أنّ المناط في الصحة أن يكون انحرافه ما بين اليمين واليسار.

القسم الثاني: ما دلّ على أنّ المناط في الصحّة هو التحري، كصحيحة الحلبي: «عَلِيٌّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَى يَؤُمُّ الْقَوْمَ وهُوَ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَالَ يُعِيدُ ولَا يُعِيدُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَحَرَّوْا».

فإنّ مقتضى التعليل: أنّ المدار في الصحّة على التحري، فكيف يمكن الجمع بين القسمين، حيث إنَّ الأول جعل المناط في الصحّة على أنّ الانحراف ما بين اليمين واليسار تحرى أم لا؟!، والقسم الثاني جعل المناط هو التحرّي سواء كان بين اليمين واليسار أم مستدبراً للقبلة. وقلنا بأنه توجد وجوه للحل:

الوجه الأول: قد يقال: بأنّ موثقة الحسين بن علوان: «مَنْ صَلَّى عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ عَرَفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إذا كَانَ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ».

قلنا: أنّ مفادها شاهد الجمع، أي لدينا قسمان متعارضان بينهما عموم من وجه وجاء طرف ثالث وقيّد كليهما ألا وهو موثقة الحسين بن علوان فهي بلحاظ «صدرها» حيث قالت: «من صلى لغير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة»، فبلحاظ الصدر قيدت صحيحة معاوية بن عمار حيث إنّها تفيد: من صلّى لغير القبلة وكان بين اليمين واليسار؛ وموثقة بن علوان تفيد من صلّى وهو على غير القبلة وهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ. والذيل: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» قيدت صحيحة الحلبي فإنهم قد تحروا، فإنّ مقتضى إطلاق التحري أنّ صلاتهم صحيحة، متى حصل التحري فهذه تقيد بأنه إذا حصل التحري وكان الانحراف ما بين اليمين واليسار، فلأجل موثقة بن علوان يرتفع التعارض بين الطرفين الأولين ويأخذ بالموثقة. ولأجل رفع الالتباس في كثير من الكلمات حيث يوجد خلط بين شاهد الجمع وبين نظرية انقلاب النسبة قلنا لابد من بيان النكتة بين شاهد الجمع وانقلاب النسبة.

نقول: بلحاظ المورد لا فرق بينهما حيث إنَّ موردهما معاً أن يوجد لدينا طرفان متعارضان، أمّا بالتباين أو بالعموم من وجه، ويوجد طرف ثالث يرفع أثر التعارض، سواء كان هذا الطرف الثالث شاهد جمع أم انقلاب نسبة، على أية حال هو رافع لأثر التعارض، فإنّ أثره التساقط والرجوع إلى الأصل العملي هذا الأثر يرفعه الطرف الثالث.

إنّما الفرق الجوهري بينهما: أنّ شاهد الجمع يرفع التردد في مورد التعارض، أي أن شاهد الجمع ناظر لنفس مورد التعارض ورافع له بشكل مباشر من دون أن يسهم في تغيير النسبة بين دليلين فيبقى الدليلان على نسبتهما بدون أن يتغيرا وإنّما موطن التعارض يرفعه شاهد الجمع. بينما في انقلاب النسبة للطرف الثالث لا يمس موطن التعارض ولا ينظر له مباشرة، وإنّما هو ناظر لنفس الدليلين المتعارضين فالطرف الثالث متى أُخِذَ به أصبح أحد الدليلين المتعارضين لأخص من الآخر فهو ناظر لتغيير النسبة مع غمض النظر من ارتفاع التعارض أو عدمه، فإذا نظر له بالحكومة أو التخصيص أو التقييد أو الورود متى ما نظر له اصبح ذلك الدليل أخص من معارضه، وبالتالي قد يرتفع التعارض بالنتيجة؛ إلّا أنّ الطرف الثالث لم يكن ناظراً لرفع التعارض وعلاجه وإنّما نظره لتغيير النسبة بين الدليلين.

وتطبيق ذلك على المثال: فإذا قال المولى في دليل «يستحب اكرام العالم» وقال في دليل آخر «يكره اكرام العالم» فبينهما تعارض، وجاءنا دليل ثالث فهذا الدليل الثالث إن لم يسهم في رفع التردد بشكل مباشر وإنما أسهم في تقديم أحد الدليلين على الآخر كان موجباً لانقلاب النسبة، مثلاً الدليل الثالث قال «يستحب اكرام العالم العادل» فلدينا ثلاثة أدلة: دليل يقول: «يستحب إكرام العالم». ودليل يقول: «يكره اكرام العالم». وجاءنا دليل ثالث يقول: «يستحب اكرام العالم العادل».

فإذا لم نقل بمفهوم الوصف كما هو مختار سيّدنا، فإذاً الدليل الثالث لا يرفع التعارض، وإنّما يكون ناظراً للدليل الثاني الذي قال: «يكره اكرام العالم»، فيقول: هذا لا يشمل العالم العادل، فلأجل ذلك: قيد الدليل الثاني بالدليل الثالث، فصار مفاد الثاني أنّ المكروه «اكرام العالم الذي ليس بعادل»، وبذلك صار اخص من الدليل الأول وهو يستحب «اكرام العالم»، فارتفع التعارض مع ان الدليل الثالث لم يكن نظره إلى رفع التعارض.

وأمّا إذا كان الدليل الثالث ناظراً لرفع التعارض نفسه، كان شاهد جمع مثاله ما إذا كان الدليل الثالث مقيدا لكلا الدليلين، اما منطوقه أو بمنطوقه ومفهومه، مثلاً: ما كان مقيدا لكلا الدليلين بمنطوقه كأن يقول: «يستحب اكرام العالم»، «ويكره اكرام العالم». وعندنا دليل ثالث يقول «يحرم اكرام الفاسق». فهذا مقيد لكلا الدليلين بمنطوقه، فيستحب اكرام العالم لا تشمل العالم الفاسق، وكذلك يكره اكرام العالم الفاسق، فهذا الدليل بمنطوقه قيد الدليلين معا، فبالنسبة إلى العالم الفاسق يُعمل بالدليل الثالث ويبقى الدليلان الأولان على نسبتهما، فهو رفع الحيرة والتردد في مورده لا أنّه نظر إلى التصرف في النسبة بين الدليلين.

وتارة يكون مقيدا لاحد الدليلين بمنطوقه وللآخر بمفهومه: كما إذا كانت الجملة شرطية وقلنا بمفهوم الشرط، كما لو قال في المثال: «يستحب اكرام العالم، ويكره اكرام العالم». ثم قال: «يستحب إكرام العالم إن كان عادلاً». فهو بقوله «إن كان عادلاً» قيّد بمنطوقه يكره، وقيد بمفهومه «ان لم يكن عادلا» فلا يستحب قيد «يستحب اكرام العالم». ولأجل ذلك يكون شاهد جمع.

ومن ذلك يعلم: أنّ الفارق بين شاهد الجمع وانقلاب النسبة ليس في كون الدليل الثالث مقيداً للدليلين أم لا، وإنما هذا مثاله لا نكتته، بل النكتة في كونه شاهد جمع ان يكون نظره لرفع التردد والحيرة في مورده غاية الامر لا يوجد مثال الا كونه مقيدا لكلا الدليلين وكونه كذلك ليس هو النكتة في كونه شاهد جمع وانما شاهد الجمع ما كان نظره لرفع التحير في الدليلين ومثاله ما إذا كان مقيداً للدليلين بمنطوقه أو بمنطوقه ومفهومه.

لو فرضنا أنّه مقيد لكلا الدليلين ولكن لم يعالج نقطة التعارض لا يكون شاهد جمع، فلابّد أن يكون نظره لرفع الحيرة والتردد.

فإذا انضم إلى كونه مقيداً لكلا الدليلين انه بتقييده لكلا الدليلين تغيرت النسبة صار موجبا لانقلاب النسبة وليس شاهد جمع. مثاله ما ذكرناه فيما سبق: من ان النسبة بين حديث لا تعاد وبين حديث الرفع العموم من وجه، بلحاظ المستثنى، أي بين قوله: «تعاد الصلاة بالإخلال بأحد الخمسة» وبين قوله: «رفع عن امتي ما لا يعلمون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه»، وقلنا أنّ النسبة بينهما هي عموم من وجه. فهل حديث الرفع حاكم على لا تعاد؟!.

فقد أفاد السيد الإمام: أنّه قد يقال: بأنه لو كان حديث الرفع حاكم على حديث لا تعاد للزم بقاؤه بلا مورد، لأنّ جميع الخمسة سوف تصح الصلاة عند الإخلال بها عن عذر، وحينئذٍ تصبح الخمسة لا خصوصية لها ولغو ما دام الإخلال بأي منها لأي عذر موجبا لصحة الصلاة، وهذا يتنافى مع ظهور هذه العناوين في أنّ لها موضوعية، فلأجل هذا المانع - أي حكومة حديث الرفع على لا تعاد - أنّ لازم هذه الحكومة اللغوية - أي لغوية وجود هذه العناوين - فما هو الحل؟!.

بحسب مسلكنا قلنا: أنّ حديث لا تعاد بمثابة الاخص فإن كلّ دليلين كانت النسبة بينهما عموما من وجه ولزم من تقديم أحدهما على الآخر لغوية العنوان الموجود في الآخر، فيلزم من ذلك أن يكون الدليل المشتمل على هذا العنوان اظهر في مورده من الدليل الآخر لأنّه لو قدم هذا على الآخر لم يلزم عنوان الآخر بينما لو قدم الآخر عليه لزم لغوية عنوانه، فهو ظاهر حينئذٍ من الآخر فيكون بمثابة الأخص منه فيقدم عليه.

وهذا بلا حاجة إلى ان نقول بلغوية التفصيل بين السنن والفرائض، وإنّما نفس تقديم حديث الرفع على لا تعاد يلزم منه لغوية العناوين الخمسة. وبالتالي يقدم حديث لا تعاد على الرفع بنكتة الأخصية وهي الأظهرية.

وأمّا على مسلك السيد الإمام: قال: إنّ الدليل الثاني وهو حديث الرفع، لسانه لسان الحكومة، فالمقتضي للحكومة موجود والمانع أيضاً موجود، وهو لازم حكومته لغوية العنوان في لا تعاد فنحتاج إلى طرف ثالث يرفع اللغوية حتّى يقدم أحد الدليلين على الآخر فلا محالة يكون دور الطرف الثالث الانقلاب، لأنّه لا دور له إلّا رفع المانع، فإذا ارتفع المانع قدم حديث الرفع على لا تعاد بالحكومة، فصار دور الدليل الثالث مسهما في تقديم أحد الدليلين على الآخر لا أنّ دور الثالث رفع الحيرة وعلاج التعارض في موطنه.

وهذا الدليل الثالث ما ورد في التفصيل في الموضوع، حيث ورد في صحيحة عبد الرحمن: «الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَامِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إذا صَلَّيْتَ وأَنْتَ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَبَانَ لَكَ أَنَّكَ صَلَّيْتَ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وأَنْتَ فِي وَقْتٍ فَأَعِدْ فإن فَاتَكَ الْوَقْتُ فَلَا تُعِدْ». فصحيحة عبدالرحمن موردها الخطأ في الموضوع. ومفادها: إن أخطأ القبلة لشبهة في الموضوع فاستبان له ذلك اثناء الوقت أعاد، وإن كان بعد الوقت فلا يعيد، فلا علاقة لها بنكتة التعارض وهي الإخلال بالقبلة في فرض الجهل بالحكم الذي كان هو محل البحث، فإنّ السيد الإمام عقد المعارضة في فرض الجهل في الحكم فلا يحل بمقيد وارد في الجهل بالموضوع. فالدليل الثالث مقيّد لكلا الدليلين، فقيدت صحيحة عبد الرحمن بصدرها حديث الرفع، حيث قالت: «إن استبان له وهو في الوقت أعاد»، وفي ذيلها قيدت حديث لا تعاد، حيث قالت: «وإن استبان بعد الوقت فلا إعادة عليه». ومع تقييدها كلا الدليلين فإنّها لم تعالج موطن المعارضة، إنّما عالجت نقطة أخرى، فقد اسهمت بحكومة أحد الدليلين على الآخر فصارت مورداً لانقلاب النسبة.

نعم، صحيح عبد الرحمن بلحاظ موطنه وهو الخطاب في الموضوع، يكون شاهد جمع، فهو يعالج التعارض بين حديث لا تعاد وحديث الرفع، فيقول لا عليكم بمفاد حديث لا تعاد ولا حديث الرفع سواء ارتفع التعارض أم لا فاعلموا بي في موطن كلامي، ففي موطن الخطاب الموضوعي يعمل بصحيحة عبد الرحمن. وهو بلحاظ آخر حيث إنّه ببركته تعبدت الأرضية لحكومة حديث الرفع على لا تعاد في فرض الإخلال بالقلبة في الجهل بالحكم صار من موارد انقلاب النسبة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الدرس 88
الدرس 90