نص الشريط
اللهم إني أسألك بالوحدانية الكبرى
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/1/1438 هـ
مرات العرض: 3981
المدة: 00:57:01
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1856) حجم الملف: 13 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث عن صفة الوحدانية لله تبارك وتعالى، وذلك من خلال محاور ثلاثة:

  • الوحدانية بالمنظور الوجودي.
  • الوحدانية بالمنظور الفلسفي.
  • الوحدانية بالمنظور الإيماني والسلوكي.
المحور الأول: الوحدانية بالمنظور الوجودي.

علماء الكلام يقولون: الله جل وعلا واحدٌ في ذاته، واحدٌ في صفاته، واحدٌ في أفعاله. واحدٌ في ذاته: ليس له مثل. واحد في صفاته: صفاته عين ذاته. واحد في أفعاله: لا شريك له في فعله تبارك وتعالى. كيف نستكشف وحدة ذاته؟ يقولون: وحدته في فعله مظهرٌ لوحدته في ذاته، إذا أردنا أن نتعرف على وحدة ذاته فعلينا أن ننظر إلى فعله، وحدة فعله مظهرٌ لوحدة ذاته، فكيف نتعرف على وحدة فعله؟

نحن الناس العاديين كيف نكتشف الوحدة؟ نحن نعيش في هذا الوجود، كيف نكتشف من خلال هذا الوجود أن فعل الله واحد، حتى نستدل بوحدة فعله على وحدة ذاته؟ نحن الآن في آفاق هذا الكون، نحن نريد أن نلمس الوحدة لمسًا حسيًا، نحن نريد أن نصل إلى الوحدانية لله وصولًا وجدانيًا، نرى وحدانية الله بالوجدان، نرى وحدانيته متجسدة في فعله لتكون دليلًا على وحدانيته في ذاته وصفاته، كيف نصل إلى هذه المرحلة؟ الله يأمرنا بالوحدة، يقول: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فكيف نصل إلى هذه الوحدة؟ كيف نحول الوحدة من فكرة نظرية إلى شعور وجداني؟ كيف نحول الوحدة والتوحيد من مسألة اعتقادية إلى مسألة حسية نشعر بها؟ كيف نصل إلى الوحدة العملية الوجدانية؟ هذا هو المهم.

من هنا، حتى نصل إلى هذه المرحلة نذكر مصطلحًا، وهو تزاوج الكثرة والوحدة، أي أن الكثرة تذوب في الوحدة، أن الكثرة تفنى في الوحدة، كيف نصل إلى هذا المبدأ؟ هذا المصطلح يقول: الكثرة تذوب في الوحدة، فكيف نصل إلى ذلك؟

عندما نقرأ صحيفة هذا الوجود قراءة علمية، قراءة فيزيائية، قراءة رياضية، عندما نقرأ صحيفة الوجود سنصل إلى هذا الأمر، أن الكثرة تذوب في الوحدة، أن الكثرة تفنى في الوحدة، كيف؟ نحن بالنظر الأولي نرى كثرة، ماء ونار، كيف يجتمعان؟ نور وظلام، كيف يجتمعان؟ جمال وحرب، كيف يجتمعان؟ نحن بالنظر الأولي نرى كثرة، ولكن بالنظر التحليلي الدقيق هذه الكثرة وحدة، هذه الكثرة التي نراها ترجع إلى الوحدة، الكثرة تفنى في الوحدة، هذا بالنظر التحليلي، كيف؟

جميع الموجودات التي نراها كثيرة هي متوحدة، في الأصل متوحدة، في القوى متوحدة، في القوانين متوحدة، في العناصر متوحدة، إذن هنالك أربعة عناصر تتجلى فيها الوحدة، بحيث لا نرى كثرة، بل نرى وحدة، هنالك أربعة مظاهر للوحدة نستطيع أن نصل إليها فيزيائيًا ورياضيًا، ونرى الوحدة - وحدة الفعل الإلهي - واحدة ومتجلية.

المظهر الأول: الوحدة في الأصل.

جميع الكائنات المادية تشترك في لبنة واحدة، وفي نمط بنائي واحد، وفي منبع واحد، جميع الكائنات تشترك في لبنة واحدة، وهي الذرة، كل الكائنات ترجع إلى الذرة، جميع الكائنات ترجع إلى نمط بنائي واحد، كل كائن نمطه البنائي كيف يتم؟ يتم نمطه البنائي بدوران الإلكترونات حول النواة، إذن النمط البنائي واحد، اللبنة واحدة. حتى المجموعات الشمسية هي عبارة عن كواكب تدور حول نجم واحد. المنبع واحد، وهو الطاقة، الطاقة هي المنبع لجميع الكائنات.

طبعًا يذكر هنا الفيزيائيون أن الطاقة والمادة وجهان لوجود واحد، تتحول الطاقة إلى مادة وبالعكس. نظرية آينشتاين، معادلته الرياضية المعروفة، الطاقة = الكتلة * مربع سرعة الضوء. بالمصطلح الإنجليزي: e = mc^2، يعني: الطاقة تعني الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء. هذا القانون قانون يحكم وجهين لوجود واحد، طاقة تتحول إلى مادة، مادة تتحول إلى طاقة، في جميع هذه الكائنات بلا استثناء. إذن كل الكائنات تشترك في لبنة واحدة، في بناء واحد، في كيفية واحدة.

المظهر الثاني: الوحدة في القوى.

كل الكائنات تشترك في قوى واحدة، وهي القوى الأربع: الجاذبية، النووية القوية، النووية الضعيفة، الكهرومغناطيسية، كل الكائنات تشترك في هذه القوى من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة. القوة الأولى - وهي أضعفها - قوة الجاذبية، وهي التي تجعل الأجسام تسقط على الأرض، قوة الجاذبية لا تحكم التفاحة التي نيوتن استدل بها على الجاذبية فقط، بل تحكم التفاحة وتحكم أكبر مجرة، وتحكم أكبر نجم، قوة الجاذبية وظيفتها أنها تشكل المجرات والنجوم والكواكب، لأنها تمسكها في مداراتها وفي أفلاكها، فهذه القوة تتحكم في أقل شعرة إلى أكبر مجرة.

تأتي إلى القوة الأخرى: القوة النووية الشديدة، هذه القوة النووية القوية الشديدة وظيفتها ربط الكواركات بعضها ببعض من أجل تكوين الجسيمات تحت الذرية المعبر عنها بالبروتونات والنيترونات، وأيضًا تقوم بحفظ هذه الجسيمات أيضًا، تقوم بحفظها لتشكيل نواة الذرة، وهذه الذرة إذا حطمها الإنسان ينبثق منها جزء من القوة النووية الشديدة التي تدمر الأرض ومن عليها.

القوة الثالثة: القوة النووية الضعيفة، هذه مسؤولية عن النشاط الإشعاعي للعناصر المشعة، العناصر المشعة تتحول من عنصر إلى عنصر، المسؤول عن هذا التحول هو القوة النووية الضعيفة. مثلًا: اليورانيوم يتحول إلى رصاص، المسؤول عن هذا التحول هو هذه القوة النووية الضعيفة.

القوة الرابعة: القوة الكهرومغناطيسية، هذه مسؤولة عن حفظ إلكترونات الذرة السالبة الشحنة في مدارها حول النواة الموجبة الشحنة، وتلعب دورًا في انتشار الضوء، تلعب دورًا في الموجات الطويلة والقصيرة، الإرسال التلفزيوني، الإرسال التلفوني.

إذن، هذه القوة الأربع كل الكون يمشي تحتها، كل الكون يخضع لها، من نجم، من مجرة، من إنسان، من حيوان، من نبات... إلخ، كل الكون يخضع لهذه القوى الأربع، هذه القوى كانت موحدة في النقطة المفردة التي منها انفجر الكون، ثم انفصلت وتولّدت تدريجًا بعد برودة الكون، وتقسّمت إلى قوى أربع. إذن، الكون متحد في لبنته، ومتحد في القوى التي تحكمه، ألا وهي القوى الأربع.

المظهر الثالث: الوحدة في القوانين.

هذه القوى الأربع ما زال علماء الفيزياء يقولون: القوى الأربع تحكمها قوانين واحدة، لكن لم يتوصلوا إليها إلى الآن بتمامها، لكنهم يعتقدون بذلك، توصلوا إلى جمع قوانين الكهرباء مع قوانين المغناطيس في وحدة يسمونها القوانين الكهرومغناطيسية. هناك فيزيائي باكستاني اسمه محمد عبد السلام، هذا توصل إلى جمع القوة النووية الضعيفة مع القوة الكهرومغناطيسية في إطار واحد، ونال جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979. اكتشف العلماء ما يعبّر عنه بنظرية الأوتار، ما معنى هذه النظرية؟

قالوا: الطاقة - التي هي منبع الكون كله - لها أوتار دقيقة، هذه الأوتار تتذبذب في ترددات، تارة تظهر عبر تردد معين فتصبح إلكترونات، تارة تظهر في تردد معين فتصبح كواركات، تارة تظهر في تردد معين فتتحول إلى قوة نووية ضعيفة، هي الطاقة نفسها تتحول إلى عدة صور وإلى عدة ألوان، هذه الطاقة الواحدة التي هي منبع الكون كله، هذا الذي سمي بنظرية الأوتار. وهذه النظرية تقودهم إلى أن يطمحوا.. هذا حلم آينشتاين، آينشتاين كان يحلم بهذا قبل أن يموت، أن يجمعوا القوى الأربع، هي كانت مجتمعة عند انفجار الكون، لكن بعد ذلك تولّدت بشكل تدريجي كأنها متقسمة، يحاولون أن يجمعوها في إطار واحد، لاعتقادهم أن هناك قوانين تجمع هذه القوى الأربع. إذن، الكون موحد في القوانين.

المظهر الرابع: الوحدة في العناصر.

العناصر التي يتّحد فيها الكون: الأصل، النشاط، مركز المعلومات، المكوِّن. نأتي إلى عنصر الأصل: كل الكائنات حية أو غير حية، إنسان أو حجر، كل الكائنات تشترك في أصل، وهو أن المكونات واحدة، كربون، نيتروجين، هيدروجين، أكسجين، فسفور، كل الكائنات تشترك في هذه العناصر والمكونات الأولية، حية أو غير حية. هذا العنصر الأول تشترك فيه هذه الكائنات.

العنصر الثاني: الكائنات الحية - كالإنسان والحيوان - لها بنية أساسية تشترك فيها، وهي البروتينات، البروتينات المتكونة من عشرين حمضًا أمينيًا ذات توجه يساري بحسب ما يشرحون كلها تشترك في هذه البنية.

العنصر الثالث: النشاط، متى بدأت الحياة في الكون؟ بدأت قبل 3، 7 مليار سنة، الكون بدأ قبل 13، 7 مليار سنة لكن الحياة بدأت قبل 3، 7 مليار سنة، بدأت الحياة بكائن ذي خلية واحدة، وهو البكتيريا، بعد ملايين السنين جاء الكائن متعدد الخلايا، كالإنسان والحيوان، هذا بعد ملايين السنة، لعل عمر الإنسان 450 مليون سنة أو 350 سنة، لا أكثر. على أية حال، كائن ذو خلية واحدة أو كائن متعدد الخلايا الجميع نشاطه واحد، وهو التغذي، الحركة، التنفس، التكاثر، نشاط الكائنات الحية واحد، سواء كانت ذات خلية واحدة أو خلايا متعددة.

العنصر الرابع: كل الكائنات الحية، هذا الإنسان العظيم صاحب الإنجازات والعبقرية مع هذه البعوضة الصغيرة، مع هذه الحشرة، مع هذه الدودة، دودة الأرض الصغيرة، الجميع يشترك في مركز معلومات واحد، ما هو مركز المعلومات؟ طبعًا كل شيء له مركز معلومات، الشركة له مركز معلومات، الدولة لها مركز معلومات، حتى هذا الكون له مركز معلومات، وهو العرش، عرش الله هو مركز معلومات الكون. نحن عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، استوى بمعنى سيطر.

ثم استوى بشر على العراقِ   من  غير سيفٍ ودمٍ مهراقِ

استوى على العراق يعني سيطر عليها، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يعني سيطر، العرش مركز معلومات الكون، مركز استخبارات، مركز معلومات الكون كله يسمّى العرش، الذي يسيطر على مركز المعلومات يسيطر على ما سواه، الذي يسيطر على مركز معلومات الشركة يسيطر على الشركة، الذي يسيطر على مركز معلومات الكون يسيطر على الكون، لكل شيء مركز معلومات، أنت لك مركز معلومات، والبعوضة لها مركز معلومات، ودودة الأرض لها مركز معلومات. ما هو مركز المعلومات؟

الشفرة الوراثية، جزيء الDNA، هذه الشفرة الوراثية مركز معلومات لكل كائن حي، كبيرًا كان أو صغيرًا، أكبر كائن حي ما هو؟ الحوت، الحوت فيه مليون مليار خلية، هذا الحوت أكبر كائن حي، فلنفترض أن البعوضة هي أصغر كائن حي مثلًا، هذا وهذا وبينهما الإنسان، له مركز معلومات واحد، وهو الشفرة الوراثية، جزيء الDNA، هذا المركز يحمل معلومات هذا الجسم، هذا الكائن، يوجّه مسيرته، ينقل صفاته الوراثية إلى ذريته ونسله.

إذن، استنتجنا أن الكون واحد، واحد في أصوله، واحد في عناصره، واحد في نشاطه، واحد في مركز معلوماته، إذن هذه الكثرة في الواقع وحدة، أنت عندما تقرأ الكون قراءة فيزيائية تتوصل إلى أن الكثرة راجعة إلى الوحدة، كثرة ذائبة في الوحدة، كثرة فانية في الوحدة، من هنا إذا قرأت الكون قراءة فيزيائية ستصل إلى وحدة الفعل الإلهي، أن فعل الله واحد وليس متعددًا، ما صدر من الله وجود ترجع كثراته إلى وحدة في الأصل، ووحدة في القوى، ووحدة في القوانين، ووحدة في العناصر.

فعله كثير بنظرنا لكنه واحد بحسب القراءة الفيزيائية، لأن مرجعه إلى وحدة تجمع الأصل والعناصر والقوانين والقوى، فهذه الوحدة في فعله تكشف عن الوحدة في ذاته عز وجل، وحدة فعله كشفت عن وحدة ذاته. ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا، لرأيت أفعالًا متعددة، وقوانين متعددة، وأصولًا متعددة، وعناصر متعددة، وهذا يعني خراب الكون، لكن لأن الإله واحد الفعل واحد، لذلك الكون يسير بانتظام وثبات وقانونية، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.

كلمة جانبية:

بعض الإخوة قالوا لي: الموضوعات ثقيلة وغير واضحة، فإما أن تغيرها أو تعالجها بطريقة معينة، خفّفها أو قطّعها، الموضوعات ثقيلة. بينما مئات من الشباب في داخل الكويت فضلًا عن خارجه يتواصلون معي بالأسئلة، بالاستفهام، يكتبون الموضوعات، يدوّنونها، يبحثون عن المعلومات، عن مصادرها، شباب هنا داخل الكويت، شباب في أوربا، شباب في أمريكا، يتابعون بدقة هذه الموضوعات ويحثونني على المواصلة، فأنا تحيّرت معكم!

المحور الثاني: التوحيد بالمنظور الفلسفي.

تحدّثنا عن التوحيد بالمنظور الوجودي، نأتي إلى التوحيد بالمنظور الفلسفي. الوحدة تنقسم إلى أربعة أقسام: وحدة عددية، وحدة حدّية، وحدة أحدية، وحدة قيومية. اثنان لا يجوزان على الله، واثنان هما وصفٌ لله عز وجل.

القسم الأول: الوحدة العددية.

ما هي الوحدة العددية؟ 1 يقابله 2 و3... إلخ، هذه وحدة عددية، الوحدة هنا بمعنى الأول، فمثلًا: أقول لك: كم ولدًا عندك؟ تقول: واحد، يعني أول واحد، من الممكن أن يأتي ثانٍ وثالث، الوحدة هنا وحدة عددية. أسألك: هل جاء الضيوف؟ تقول: لم يأتِ إلا واحد، يعني يمكن أن يأتي ثانٍ، هذه الوحدة العددية، واحد يقابله اثنين وثلاثة. هذه الوحدة العددية لا تجوز على الله عز وجل، لأن الواحد العددي يقابله اثنان وثلاثة، والله تعالى ليس له ثانٍ، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، الله ليس له ثانٍ حتى يكون واحدًا بالوحدة العددية، ولذلك القرآن الكريم يفند هذه الوحدة العددية: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، واحد لكن لا إله إلا هو، يعني ليس واحدًا بالوحدة العددية، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

القسم الثاني: الوحدة الحدّية.

يعبّر عنها بعض الفلاسفة بالفقرية السلبية، فمثلًا: عندما تقول: اليتيم وحيد، الوحدة هنا بأي معنى؟ الوحدة هنا بمعنى الفقر، اليتيم وحيد يعني سُلِب عنه ما عند غيره، غيره له أب وهو ليس له أب، الوحدة هنا وحدة سلبية فقرية، بمعنى ليس له ما لدى غيره. كل الممكنات عندها هذه الوحدة السلبية، أنا واحد بالوحدة السلبية، أنت واحد بالوحدة السلبية. الحجر واحد لأنه ليس له ما عند النبات، النبات واحد لأنه ليس له ما عند الحيوان، الحيوان واحد لأنه ليس له ما عند الإنسان، الإنسان واحد لأنه ليس له ما عند الملك، وهكذا... إلخ، كل ممكن من الممكنات فهو يعيش وحدة سلبية فقرية، يعني ليس له ما عند غيره، وهذه الوحدة السلبية الفقرية يتنزّه عناه الباري تبارك وتعالى، فهو القائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ.

هذه الوحدة السلبية لماذا لا يتصف بها الله؟ لأن الوحدة السلبية وحدة قهرية، النبات مقهور على أن يبقى نباتًا، يريد أن يصبح إنسانًا فلا يقدر، الإنسان مقهور أن يبقى على مرتبته، يريد أن يصبح ملكًا فلا يقدر، الوحدة السلبية وحدة قهرية منتزعة من الحد، والله لا يحده حد، ولا يقهره قاهر، ولذلك القرآن يفند هذه الوحدة السلبية عن الله عز وجل فيقول: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، القهار يعني لا يقهره حد حتى يتصف بالوحدة القهرية السلبية.

القسم الثالث: الوحدة الأحدية.

ما هو الفرق بين الواحد والأحد؟ أحيانًا الله يقول: واحد، ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وأحيانًا يقول: أحد، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فما هو الفرق بين الواحد والأحد؟ الأحدية بمعنى أنَّ هويته الوحدانية، بينما هوية غيره الاثنينية. أنا الآن اثنان لا واحد، كل موجود ما عدا الله فهو مركب من شيئين: ماهية ووجود، موصوف ووصف، أنا شيء ووجودي شيء آخر، ولهذا أنا لم أكن لم كنت، كنت معدومًا ثم صرت موجودًا، هذا دليل على أني أعيش تركيب، أعيش اثنينية، أنا ووجودي، ووجودي زائد عليَّ، فهويتي هي هوية الاثنينية، هوية التركيب، بينما الله ليس شيئًا ووجودًا، بل هو عين الوجود، هو نفس الوجود، وليس شيئًا له الوجود، وجوده عين ذاته وليس زائدًا على ذاته، ولذلك هويته الوحدانية وهوية غيره الاثنينية، ومن كان الوجود ذاتيًا له فهويته الوحدانية فهو الأحد، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وهذا الأحد لا يحدّه حد، لأن وجوده ذاتي له فلا يحده حد، ولا يشوبه عدم، جلّ وعلا.

القسم الرابع: الوحدة القيومية.

يقول الفلاسفة: اللامتناهي محيطٌ بالمتناهي، أنا أقرّب لك بالمثال، وإلا كل شيء متناهٍ ما سوى الله، إذا تقرّب قطرة ماء من البحر ماذا يحدث؟ يحتويها البحر، يحيط بها، البحر يحيط بقطرة الماء، إذا تقارن بين المحيط الهندي أو المحيط الهادي وبين جدول أو نهر، المحيط الهادي يأخذ هذا النهر، يأخذ هذا الجدول، اللامتناهي يحيط بالمتناهي، ويهيمن عليه، ويسيطر عليه. وجوداتنا كلها متناهية، هل يوجد شخص وجوده غير محدود؟ كل وجود محدود، وجودك، علمك، قدرتك، كلها محدودة، وجود محدود، علم محدود، قدرة محدودة، حياة محدودة، أنت تعيش المحدودية من جميع جهاتك، أنت تعيش الحدود من جميع جهاتك، فأنت متناهٍ.

الله وجود لا حد له، علم لا حد له، قدرة لا حد لها، حياة لا حد لها، فهو لا متناهٍ وأنت المتناهي، واللامتناهي محيط بالمتناهي، مهيمن عليه، لأنه لو لم يحط به لصار محدودًا، إلا اللامتناهي لا يقدر أن يحيط بالمتناهي صار اللامتناهي محدود القدرة، اللامتناهي محيط بالمتناهي، ولذلك القرآن يشير إلى هذه النقطة فيقول: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. إذن، الله يتصف بالوحدة الأحدية، ويتصف بالوحدة القيومية.

في معركة الجمل - كما روى الشيخ الصدوق في الخصال - قام أعرابي للإمام أمير المؤمنين علي ، قال: يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد؟! فحمل الناس عليه، قالوا: أما ترى أمير المؤمنين متقسّم القلب «يعني في حالة حرب»؟! قالوا: ”دعوه؛ فإنَّ الذي يريده هذا الأعرابي هو ما نريده من القوم «يعني نحارب القوم من أجل التوحيد»، اعلم يا أعرابي إنَّ القول بأنَّ الله واحد على أربعة أقسام: وجهان لا يجوزان عليه ووجهان يثبتان عليه، فأما الوجهان اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل الله واحد يقصد به الأعداد، وهذا لا يجوز عليه؛ لأنَّ الله لا ثاني له، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وقول القائل: الله واحد من الناس، يريد به الشبه، وهذا لا يجوز عليه؛ لأنه منزه عن التشبيه، وأما الوجهان اللذان يجوزان عليه: فقولنا الله واحد أي لا شبه له، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وقولنا: الله واحد، أحدي المعنى، لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك الله ربّنا“.

المحور الثالث: التوحيد بالمنظور الإيماني.

التوحيد بالمنظور الروحي والعبادي، كيف نصل إلى أن نرى الله في كل شيء؟ هل نحن من الذين يرون الله في كل شيء، أم نحن من الذين لا نرى الله إلا بضع ثوانٍ أثناء الصلاة؟ كيف نصل إلى أن نرى الله في كل شيء وفي كل الأوقات وفي كل الآنات، في كل الآنات نشعر بوجود الله وبحضور الله وبرؤية الله تبارك وتعالى، كيف نصل إلى هذه الدرجة؟

الله تبارك وتعالى وزّع نوره في قلوبنا، كل إنسان - حتى الملحد، حتى الكافر - في قلبه رشحة من نور الله عز وجل، وذلك قوله عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ملأ السماوات والأرض ومن فيهما بنوره، ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، النور موجود في قلبك، لكن تحتاج إلى هداية. وقال في آية أخرى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وصل إلى النور الإلهي المشعشع في قلبه، ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

في قلوبنا النور، لكننا نحتاج إلى أن نصل إلى ذلك النور، نحتاج إلى أن نكتشف ذلك النور، نحتاج إلى أن نستوقد من ذلك النور، كيف نصل إلى ذلك النور الذي في قلوبنا؟ نحن قسمان: قسم شغلته الكثرة عن الوحدة، وقسم شغلته الوحدة عن الكثرة. القسم الذي شغلته الكثرة عن الوحدة، نحن أغلبنا، لا أقول كلنا، حتمًا فينا أشخاص أولياء مؤمنون، أغلبنا شغلتنا الكثرة عن الوحدة، ما هي الكثرة؟ القرآن يصورها لنا: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، هذه هي الكثرة، نعيش في عالم الألوان، نحن كل الذي نعيشه عالم ألوان، ألوان وأشكال، نساء وبنون وذهب وفضة وأموال وثروات، مشغولون بالألوان، مشغولون بالأشكال عن اكتشاف النور في قلوبنا، عن اكتشاف الوحدة الإلهية التي تغمر قلوبنا، مشغولون بالألوان والكثرات.

وهذا الانشغال - مع الأسف - يبقى إلى يوم الممات، القرآن يتحدث عن هذا الانشغال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، مشغولون بالتكاثر، مشغولون بالألوان والأشكال، إلى أن تأتي ساعة الموت، إلى أن تأتي ساعة الانتقال إلى الله، فننتبه من الغفلة، أننا انشغلنا بالكثرة عن نور الوحدة، حينئذ يخاطبنا الله جل وعلا: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، انشغلتم بالكثرة، كثرة الأموال، كثرة الألوان، إلى أن وصلتم إلى القبر، وانتبهتم من الغفلة، ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.

نحن المشغولون، لكن هناك أناس شغلتهم الوحدة عن الكثرة، لا يرون الدنيا وألوانها وكثرتها، لا يرون إلا نور الوحدانية يتلألأ في قلوبهم، لا يرون إلا نور الوحدانية يشعشع في أرواحهم، شغلهم نور الله عن كل شيء، فلا يرون إلا الله، لا ينظرون إلى شيء إلا ويرون الله ضمنه، كما قال أمير المؤمنين علي : ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، شغلتني الوحدة عن الكثرة، شغلني نور الوحدانية عن كل شيء آخر، أمير المؤمنين الذي شغله نور الوحدانية هو الذي يصلّي والحرب قائمة والسهام تنفذ إلى بدنه فلا يشعر بها، لأنه شغله نور الله، وصل إلى الوحدانية الحقيقية، شغله نور الله عن كل شيء.

الحسين بن علي يجسّد صورة أبيه المرتضى علي ، كما يقول في دعائه: ”أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى لم يحبّوا سواك“، نورك ملأ قلوبهم، وشعشع أرواحهم، ملأت قلبي، ملأت روحي، فانشغلت بك عن غيرك.

تركتُ  الخلقَ طرًا في هواكَ
فلو قطّعتني في الحرب إربًا
  وأيتمتُ  العيالَ  لكي  iiأراكَ
لما  مالَ  الفؤادُ إلى iiسواكَ

متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك
القلب السقيم وَالقلب السليم