نص الشريط
القلب السقيم وَالقلب السليم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 5/1/1438 هـ
مرات العرض: 3034
المدة: 00:59:20
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1815) حجم الملف: 13.5 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في تأثير القلب على الشخصية الإنسانية، وذلك في محورين:

  • الوعي الإدراكي للقلب.
  • مرض جفاف القلب.
المحور الأول: الوعي الإدراكي للقلب.

هل هذا القلب - الذي هو قطعةٌ من الدم في صدر الإنسان وجوف الإنسان - له وعي وإدراك أم لا؟ هنا عندنا اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول: الاتجاه الفلسفي.

وهو الذي يقول بأنَّ البدن كله بجميع أجهزته ليس له وعي وإدراك، والوعي والإدراك في الروح، والروح جوهرٌ مجرَّدٌ متعلَّقٌ بالبدن تعلَّق التدبير والتصرّف، الروح بنظر الفلاسفة ليست في البدن، هي في عالم خاص، البدن مجرد جهاز تستخدمه الروح لاسترفاد المعلومات لا أكثر، فالوعي والإدراك والتحليل كله من قبل الروح، أما البدن فهو مجرّد آلة وجهاز تستخدمه الروح للتوصّل إلى المعلومات، ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، السمع والأبصار والأفئدة كلها أجهزة تستخدمها الروح.

الاتجاه الثاني: الاتجاه القرآني.

القرآن ينسب الوعي إلى القلب الموجود في قلب الإنسان، نرى عدة آيات في القرآن تنسب إلى القلب - الذي هو قطعة في صدر الإنسان - الوعي، تنسب إليه الإدراك، تارة تعبر عنه بأنه يعقل، ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، وتارة يعبر عنه بالفقه، ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ، فينسب الفقه إلى القلب، وتارة يعبر عنه بالمرض، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا، تارة يعبر عنه بالسلامة، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، تارة يعبر عنه بالعمى، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، إذن القلب له وعي، ولذلك يكون أعمى ويكون على هدى، ويكون مريضًا ويكون سليمًا، ويكون غافلًا ويكون ملتفتًا، بل نسب له القرآن الإثم، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، القلب يرتكب الإثم، إذن القلب له وعي.

الاتجاه الثالث: الاتجاه المادي.

بعض الماديين يشنّع على القرآن الكريم أنَّ القرآن ينسب الوعي إلى القلب، وهذا خطأ علمي في القرآن، من الأخطاء العلمية في القرآن بنظر هؤلاء الماديين أن القرآن نسب الوعي إلى القلب، والقلب لا وعي له، القلب مضخة تجمع الدم من الجسم وتعيد ضخه إلى الجسم بعد تحميله بالأكسجين، وانتهى دوره، أما المخ هو مركز الوعي، وهو الذي يتحكم في عدد ضربات القلب وتوجيهها بالمقدار الذي يحتاجه الجسم، القلب مجرد مضخة، فكيف ينسب القرآن إلى القلب الوعي؟! هذا البحث أريد أن أركز عليه في هذا المحور.

نحن نقول: منذ أربعين سنة أو أكثر اكتشف العلماء أنَّ هناك وعيًا تبادليًا بين القلب والمخ، الوعي لا ينحصر في المخ، بل هنالك وعي تبادلي بين القلب والمخ، كيف نستدل هذا من كلمات العلماء المختصين؟ من خلال نقاط ثلاث أتعرّض إليها.

النقطة الأولى: التأثير المغناطيسي للقلب.

كلّ عضلة من عضلات القلب تمتلك مئات الآلاف من الخلايا التي تعمل كوحدة واحدة في دفع الدم عبر الغرف الأربع للقلب، إلى أن يصل الدم إلى البطين الأيسر الذي هو الغرفة الأخيرة، البطين الأيسر يدفع الدم إلى الشريان الأورطي الذي يقوم بتوزيع الدم على أجزاء الجسم كلها. هذا من ناحية مادية واضح، لكن الناحية المهمة أن كل خلية من هذه الخلايا لها مجالٌ كهرومغناطيسي، وهذا المجال الكهرومغناطيسي يمثّل لغة التواصل بين الخلايا، الخلايا المستقبلة تستقبل هذا التأثير، تفك الشفرة، بعد ذلك إذا فهمت الرسالة تقوم بتوجيه عدد وقوة ووقت الانقباض، انقباض نبض القلب وضربات القلب.

أي تغير في النشاط الكهربائي للقلب يولّد تغيرًا في المجال الكهرومغناطيسي للقلب، بحيث هذا المجال الكهرومغناطيسي يبلغ خمسة آلاف ضعف المجال الكهرومغناطيسي في المخ، وبالتالي يمكن تمييزه حتى من مترين أو ثلاثة من جسم الإنسان، يعني ليس بالضرورة أن يوضع الجهاز على جسم الإنسان مباشرة، من مترين أو ثلاثة يمكن تشخيص التأثير المغناطيسي لقلب الإنسان، نتيجة قوته وشدّته.

فهمنا أن القلب له تأثير كهرومغناطيسي، لكن ما هو تأثير هذا المجال المغناطيسي على المشاعر، على الأفكار، على الوعي، حتى نقول بأن للقلب نصيبًا من الوعي، نصيبًا من الإدراك، نصيبًا من الالتفات، ما هو تأثيره؟ تأثيره يتبيّن في موارد ثلاثة:

المورد الأول: التداخل في المجال الكهرومغناطيسي في القلوب المتجاورة.

أول محطة للقلوب المتجاورة رحم الأم، نحن عندما كنا في أرحام أمهاتنا قلوبنا بقلوب أمهاتنا، كنا مغمورين بالتأثير للمجال الكهرومغناطيسي لقلوب أمهاتنا، قلوبنا خاضعة لهذا التأثير تمامًا، وُلِد الطفل، بدأت المحطة الثانية، وهي محطة الرضاعة، تقوم الأم بوضع الطفل على صدرها لإرضاعه، هنا قاس العلماء دقّة المجال الكهرومغناطيسي لقلب الطفل، قاسوه بدقة، ضبطوه بدقة، رأوا أن الطفل حال الرضاعة يرى أن المجال المغناطيسي لقلب الطفل يتزامن تمامًا مع المجال الكهرومغناطيسي لقلب أمه في حال الرضاعة، يتزامنان ويتلاءمان تمامًا في حال الرضاعة، حتى أن الأم تبثّ معلومات وجدانية عبر نبض قلبها، هي لا تتحدث، تبث معلومات وجدانية من الحنان والرأفة والحب لقلب طفلها من دون أن تتحدث.

لذلك، «كوخ» - أستاذ الغدد الصماء في كاليفورنيا - يقول: إنَّ لبن الأم ليس مصدرًا للغذاء فقط، بل هو طريقٌ للمعرفة، هذا اللبن يبثّ معلومات ومعارف إلى قلب الطفل. نحن نقرأ هذا الشعر:

لا   عذّب   الله  أمي  إنها  شربت
وكان  لي  والد  يهوى  أبا  iiحسنٍ
  حبَّ  الوصي  وغذتنيه  في  iiاللبنِ
فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسنِ

المسألة مسألة علمية، وليست فقط شعرًا وأدبًا. أثبتت الدراسات أن 90% من النساء حال الإرضاع، بطريقة لاشعورية تأخذ الأم الطفل إلى جهة اليسار لا إلى جهة اليمين، 90% من المرضعات بطريقة لاشعورية تحمل الطفل وتضعه إلى اليسار ليكون قلبه بإزاء قلب أمه، بحيث يستورد المعلومات ويستورد هذه المعارف الوجدانية من قلب أمه من حيث لا يشعر.

المورد الثاني: رسائل الأم نحو ولدها.

عندما نرى التأثير الكهرومغناطيسي للرسالة الصادرة من القلب نحو القلب الآخر، هذا أين يتجلى؟ عندما تضع الأم يدها على ظهر ولدها، حتى لو كان الولد عمره خمسين سنة، الأم لها تأثير، وضع الأم يدها على ظهر ولدها يؤثر تأثيرًا عجيبًا عبر موجات كهرومغناطيسية تنقل الأثر من قلب الأم إلى قلبه، وضع اليد على ظهر الولد يوجب تهدئة مشاعره ورد غلواء عواطفه بدرجة لا تتصوَّر.

المورد الثالث: شعور التجاذب بين شخصين.

أنت بعض الأشخاص تلتقي به من أول مرة، تشعر بانجذاب نفسي نحوه، تحبه، مع أنك تلتقي به أول مرة، لكنك تشعر أنك تحبه، تنجذب إليه، من دون مثير مادي، لا جمال عنده حتى تنجذب له، وليس مستخدمًا عطرًا جذّابًا، ولا ابتسم في وجهك، لا يوجد أي مثير مادي، لا جمال، لا عطر جذّاب، لا ابتسام، أبدًا، فجأة رأيته فانجذب قلبك إليه، ما هو سر هذا الانجذاب؟ كيف نحن نوجّه هذا الانجذاب؟

طبعًا بعض العلماء وجّه هذا الانجذاب توجيهًا ماديًا غير التوجيه الذي نحن نذكره، بعض العلماء قال: ظاهرة الانجذاب ترجع إلى مواد كيميائية تعرف بالفيرمونس، يفرزها عرق الشخص، عرق الشخص الذي أنت رأيته يفرز هذه المادة ويولّد مشاعر تجاهه من قبل الشخص الآخر، لكن علماء آخرين قالوا: لا، هذا لا ربط له بعرقه ولا بشيء من هذا القبيل، هذا كله يرجع للتأثير الكهرومغناطيسي، يحصل تداخل بين التأثيرين الكهرومغناطيسيين، بين القلبين، نتيجة التداخل في المجال الكهرومغناطيسي بين القلبين يحصل الانجذاب أو يحصل النفور، المسألة ترجع إلى تأثير مغناطيسي لا إلى مواد كيميائية يفرزها عرق الشخص الذي تستقبله أو تراه.

هذه موارد ثلاثة تثبت لنا أنَّ للقلب إدراكًا ووعيًا، يحمل معلومات من قلب أمه بمجرد نوم الإنسان إلى جانبها، بمجرد أن تضع الأم يدها على ظهر طفلها أو ولدها.

النقطة الثانية: تغيّر الوعي والإدراك بتغيّر القلب.

«اشوارتز» - أستاذ الطب النفسي في جامعة أريزونا - تابع أكثر من 300 مريض أجريت لهم عملية زراعة القلب، يعني يستبدل قلبه بقلب آخر، 300 مريض تتبع حالتهم، رأى أن هؤلاء المرضى بعد إجراء العملية يصبح عندهم تغير، تغير في المشاعر، تغير في الوظائف العقلية، تغير في الميول، 300 حالة ليست بقليلة، مما استدل به على أن للقلب تأثيرًا في الوعي والإدراك، وتبدّل القلب يعني تبدّلًا في موقع الإدراك والوعي، لذلك يحصل تغير عند هذا المريض عندما يستبدل قلبه بقلب آخر. طبعًا هذه الدراسة محل خلاف، لكن هذا وغيره من الأطباء يقرّون حصول هذه النتيجة.

النقطة الثالثة: الجهاز العصبي الصغير.

هل هناك دليلٌ لإثبات الوعي للقلب والإدراك غير مسألة التأثير المغناطيسي للقلب؟ نعم، عام 1994 اكتشف الدكتور «أورمر» - من مؤسسي علم أعصاب القلب - أنَّ للقلب جهازًا عصبيًا، ليس المخ فقط عنده جهاز عصبي، بل القلب أيضًا له جهاز عصبي، يتركب من حوالي أربعين ألف خلية، ويستخدم نفس النواقل العصبية التي يستخدمها المخ، نفس النواقل التي جعلت المخ يعي يستخدمها القلب، يعني إذا كانت هذه النواقل العصبية هي التي جعلت المخ واعيًا، إذن القلب سوف يكون واعيًا، لأنه يستخدم نفس النواقل العصبية التي يستخدمها المخ.

بل يتمكن هذا الجهاز العصبي للقلب أن يتحكم في ضربات القلب مستقلًا عن المخ، بحيث المرضى الذين يتعرضون لعملية جراحة نقل القلب ينقطع التواصل ثوانٍ بينهم وبين المخ، ينقطع التواصل بين القلب والمخ، ومع ذلك يبقى القلب على عمله مستخدمًا نفس الجهاز العصبي الذي لديه، مستغنيًا بجهازه العصبي عن الجهاز العصبي للمخ.

بل وأكثر من ذلك، يقرّر هذا الدكتور ومن رأى نظريته أنَّ هذا المخ، يسميه المخ الصغير، الجهاز العصبي الموجود في القلب يعبّر عنه بالمخ الصغير، يقول: بل هذا المخ الصغير يساهم في تعليم المخ الكبير، يعني القلب يساهم في نقل بعض المعلومات إلى المخ، وليس العكس، بل هذا المخ الصغير يساهم في توجيه المخ الكبير، كيف؟ كما أن المخ الكبير يتحكم في القلب، في ضرباته، في اتجاهاته، في عدد الضربات، تبعًا لحاجة الجسم، عبر الجهاز العصبي اللاإرادي المعبر عنه بANS، كذلك المخ الصغير له إشارات بالاتجاه المعاكس من القلب إلى المخ عبر الجهاز العصبي نفسه الذي يستخدمه المخ.

ولا تقتصر هذه التوجيهات على جذع المخ، الذي هو الجهاز المتحكم بالجهاز العصبي، بل يمتد إلى لوزة المخ المسؤولة عن الوظائف الانفعالية، بل يمتد إلى قاع الفص الأمامي للمخ المسؤول عن التنسيق بين الانفعالات وبين الوظائف العقلية، ويحقّق التوافق في شخصية الإنسان، ما هو التوافق؟

التوافق يقسّمه علماء النفس إلى توافق فسيولوجي، توافق نفسي، توافق عقلي. التوافق الفسيولوجي هو ما تقوم به أجهزة الجسم فيما بينها، مثلًا القلب ينسّق مع جهاز التنفس في إيصال الأكسجين للإنسان حال الجري، الذي يحتاج إلى مدد أكبر من الأكسجين. التوافق النفسي: مثلًا طالب في الجامعة قدّم بحثًا ممتعًا، قدّم بحثًا مفيدًا، تقوم الجامعة بتقديره والثناء عليه، هذا يحقق توافقًا نفسيًا. هناك أيضًا توافق عقلي، إذا حصل توافق نفسي ولّد توافقًا عقليًا، حيث يترتّب على ذلك انتظام ضربات القلب، استقرار الجهاز العصبي، صفاء الذهن، سلامة أداء المخ، وهكذا.

النتيجة من بحثنا كله أن نثبت أنَّ ما ذكره القرآن الكريم من أنَّ للقلب وعيًا وإدراكًا، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، أنَّ ما نسبه القرآن إلى القلب صحيحٌ، وتؤيّده النظريات العلمية، وبمرور الوقت سوف تتحوّل هذه النظريات إلى حقائق واضحة، أنَّ القلب يعي كما أنَّ المخ يعي، وأن القلب يتحمّل جزءًا من المسؤولية، ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.

المحور الثاني: مرض جفاف القلب.

بمناسبة ليلة الجمعة، نتعرّض إلى هذا المرض النفسي الروحي، ألا وهو مرض جفاف القلب، وذلك من خلال ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى: أعراض المرض.

كثير منا مبتلى بمرض جفاف القلب، القلب الذي يقسو، القلب الذي لا يرق، القلب الذي لا ينفعل، مبتلى بمرض القسوة والجفاف، هذا المرض له عرضان، إذا أردت أن أعرف أنني مبتلى بهذا المرض أم لا، لهذا المرض عرضان مهمان:

العرض الأول: عدم اللذة بالأجواء الروحية.

لا أجد لذة في قراءة الدعاء، لا أجد لذة في قراءة القرآن، لا أجد لذة في الصلاة، لا أجد لذة في الدعاء، عندما لا أجد لذة، أقرأ الدعاء والقرآن وأصلي بطريقة روتينية جافة يابسة جدًا، هذا يعني أنني أعيش مرض جفاف القلب وقسوة القلب، هذا يعني أنني أعيش هذا المرض المخيف.

العرض الثاني: عدم المبالاة بالذنب.

كثير منا يذنب ولا يبالي بذنبه، خيرًا يا طير! أذنبت وكل الناس تذنب! عدم مبالاة بالذنب، عدم الندم، عدم الحسرة، عدم الاهتمام بأنني أذنبت، بأنني أخطأت، بأنني وقعت في الزلة، عدم الاهتمام بالذنب يكشف عن مرض قساوة القلب. ورد عن النبي : ”من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن“، المؤمن هو الذي يستاء من السيئة. وورد عنه : ”إذا أذنب المنافق كان ذنبه كذبابة مرّت على أنفه، وإذا أذنب المؤمن كان ذنبه كجبل أبي قبيس على صدره“، المؤمن الحقيقي هو الذي يتوجّع، يتألّم، يتحسّر إذا صدر منه الذنب، صغيرًا أم كبيرًا، عدم المبالاة بالذنب يعني أن الإيمان ضئيل، يعني أن مرض جفاف القلب مستحكم، ”ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي“. هذه أعراض تكشف عن مرض جفاف القلب.

الزاوية الثانية: أسباب المرض.

لماذا أنا مبتلى بمرض جفاف القلب؟ فلأسأل نفسي: ما هي الأسباب التي أدّت إلى أن أبتلى بهذا المرض؟

السبب الأول: البعد عن الأجواء الروحية.

طوال الوقت نحن مشغولون بالدراسة، طوال الوقت نحن مشغولون بالعمل، طوال الوقت نحن مشغولون بالأهل والأطفال والسوق والعيال، فقط أصلي الصلاة الواجبة، هذا كافٍ! 24 ساعة، نصف ساعة منها أرتبط بالله، فقط أصلي الصلاة الواجبة، كلها تستغرق نصف ساعة في اليوم، يعني 23 ساعة ونصف أنا بعيد عن الأجواء الروحية، البعد عن الأجواء الروحية، عن القرآن، عن الدعاء، عن النافلة، عن المأتم، عن المسجد، عن المجلس، البعد عن الأجواء الروحية سبب رئيسي في الابتلاء بمرض جفاف القلب وقساوة القلب.

لأجل ذلك، أنت تقرأ في الدعاء: ”أم فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني“، مجالس العلماء يعني مجالس الذكر، ذكر الله، ”أم رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني“، مجالس البطّالين ليس عندهم شغل، إما المترفون اللذين كل مجالسهم الأسهم والسوق والتجارة والأموال، هذه المجالس تربّي على جفاف القلب وقساوة القلب، أو الذين مجالسهم غيبة للمؤمنين وطعن في الآخرين وهدر لكرامات الآخرين، هذه المجالس تبعدك عن الأجواء الروحية وتسبّب لنا مرض جفاف القلب وقساوة القلب.

الإمام أمير المؤمنين علي وقف على السوق في الكوفة، رأى الناس مشغولين بالسوق، هذا يبيع، هذا يشتري، هذا يحلف، هذا... إلخ، قال: ”أيها الناس، يا عبيد الدنيا وعمّال أهلها، إذا كنتم بالنهار تحلفون، وبالليل تنامون، وما بين ذلك أنتم غافلون، فمتى تهيّئون الزاد وتستعدون للمعاد؟!“، إذا أنا طوال وقتي مشغول بالدراسة وبالوظيفة وبالأهل وبالأطفال، فمتى أهيِّئ زادي لقبري؟! متى أهيِّئ زادي للحدي؟! هذا السبب الأول.

السبب الثاني: ترادف الذنوب.

ذنب على ذنب على ذنب على ذنب من دون توبة، من دون محطة استراحة، من دون محطة محاسبة، من دون محطة عتاب، الذنوب تترادف على قلبي إلى أن يصبح القلب فحمة سوداء، قطعة سوداء لا نبض فيها ولا حياة فيها، كما يقول القرآن الكريم: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وورد عن النبي : ”إنَّ العبد إذا أذنب خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن عاد عادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا“، ترادف الذنوب يوجب ظلمة القلب واسوداد القلب.

لأجل ذلك، ما لم تتب، ما لم تفصل بالتوبة ستنتهي بالنتيجة إلى مرض قساوة القلب وجفاف القلب، ”إلهي أشكو إليك نفسًا بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وإلى سخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك“، إلى أن قال: ”تسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة“، دائمًا أؤخر التوبة، دائمًا أقول: أنا مشغول اليوم، خيرًا يا طير! اليوم أذنبت، سأتوب غدًا! وهكذا تترادف الذنوب وتجتمع إلى أن تؤدي إلى مرض جفاف القلب.

السبب الثالث: عدم التحفّظ على الصلاة.

الصلاة لها أثر مهم، حتى لو كنت تصلي بصلاة سريعة روتينية، لكن محافظتك على الصلاة في وقتها له أثرٌ على قلبك شئت أم أبيت، القرآن الكريم يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، الصلاة معين، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، المحافظة على الصلاة في وقتها له أثر على قلبك حتى أنت لو لم تلتفت، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فإذا لم تحافظ على الصلاة، ولم تبالِ بأوقاتها، ولم تبالِ بطريقتها وكيفيتها، فهذا طريقٌ يؤدّي إلى مرض جفاف القلب. ولذلك ورد عن الصادق : ”لا تنال شفاعتنا مستخفًا بالصلاة“.

الزاوية الثالثة: طرق علاج المرض.

هذه أعراض المرض، وهذه أسباب المرض، فما هي طرق علاج المرض؟ إذا أنا كنت مبتلى بمرض جفاف القلب، بمرض قساوة القلب، لا ألتذ بالدعاء، لا ألتذ بقراءة القرآن، أجد نفسي معرضة منصرفة عن هذا العالم الروحي، فما هو العلاج؟ كيف أعالج نفسي؟

الطريق الأول: محاسبة النفس.

بدون محاسبة النفس لن يكون هناك علاج، ألا تحاسب نفسك على دراستك؟! أنت إذا كنت تدرس في الجامعة ألا تحاسب نفسك؟! إذا تأخّرت يومًا عن الدراسة، إذا سقطت في امتحان، إذا حصلت على معدّل غير جيّد، ألا تحاسب نفسك؟! ألا تعتبر نفسك مقصرًا؟! ألا توبّخ؟! ألا تعاتب؟! فليكن لك هذا الدور مع سلوكك، مع ذنوبك، مع معاصيك.

مبدأ محاسبة النفس هو العلاج، هو المنطلق لإصلاح القلب، لتطهير القلب. ورد عن النبي : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، وورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم“، كل يوم عندك جدول، قبل النوم أقرأ هذا الجدول، ماذا فعلت اليوم؟ منذ الصباح إلى الآن، كم معصية؟ كم رذيلة؟ كم خطأ؟ كم طاعة؟ كم عملًا قربيًا؟ كم حاجة مؤمن قضيتها؟ عندي جدول أستعرضه يوميًا، ”ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله، وإن عمل سيئة استغفر الله وتاب إليه“.

الطريق الثاني: ترقيق القلب بالأدعية.

كيف أسعى لترقيق القلب؟ من خلال الارتباط بأدعية الأئمة الطاهرين، عليك أن تخصّص وقتًا كل يوم لقراءة دعاء، لست معذورًا في ذلك، كل يوم خصّص نصف ساعة، ثلث ساعة، لقراءة دعاء، عندك 15 مناجاة للإمام زين العابدين، كل يوم اقرأ مناجاة، لا تأخذ خمس دقائق، اقرأها بنهم، اقرأها بإقبال، اقرأها بجوع، بعطش، بظمأ، حتى تسترفد مضامينها الروحية، وتستلهم عطاءها، اقرأ هذه المناجاة.

أول مناجاة هي مناجاة التائبين التي تتعرّض إلى عملية تطهير القلب، ”إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي، وجلّلني التباعد عنك لباسَ مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيني بتوبة منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي، فوعزتك لا أرى لذنبي سواك غافرًا، ولا لكسري غيرك جابرًا“، ثم تستمر في هذه المناجاة.

المناجاة تختلف عن الدعاء، الدعاء أن تقرأ أي دعاء معين، لكن المناجاة تعني الخلوة، نحن نحتاج إلى الخلوة، أن تخلو بنفسك ليلًا، هذه هي المناجاة، المناجاة تعني أن أخلو بنفسي في ظلام الليل، حيث لا يراني أحد، ولا يسمعني أحد، وأجلس بيني وبين نفسي كأني أحدّث أخي وصديقي، أحدّث ربّي عن ذنوبي، عن أخطائي، عن معاصي، عن تجاوزاتي.

أحاول أن أعاتب نفسي، أوبّخها، أحاول أن أهذّبها، أحاول أن أصل إلى درجة البكاء، إذا وصلت إلى درجة البكاء حقّقت حقيقة المناجاة، البكاء ليس عيبًا، البكاء من الذنب علامة صحية على أن القلب حي، على أن القلب متفاعل، على أن القلب يعيش الهدى، حاول أن تعاتب نفسك، حاول أن تبكي نفسك على ذنبك.

كما قال الإمام زين العابدين : ”وأعنّي بالبكاء على نفسي؛ فقد قطعت بالآمال والتسويف عمري، فمن يكون أسوأ حالًا مني إذا أنا نقلت على مثل حالي إلى قبر لم أمهّده لرقدتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي؟! وما لي لا أبكي؟! ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلًا حاملًا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني ومرة عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني“، ابكِ لذنبك، ابكِ لمعصيتك، هذا هو شأن الإمام زين العابدين في تطهير القلب وفي تهذيبه.

وقد ورد في الرواية: ”كل عينٍ باكية يوم القيامة“ من شدة الأهوال، من شدة العذاب، ”كل عينٍ باكية يوم القيامة إلا ثلاث: عين بكت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين بكت على أبي عبد الله“، البكاء على الحسين طريقٌ لغسل القلب وتطهيره.

اللهم إني أسألك بالوحدانية الكبرى
النبوة تجربة بشرية أم انتخاب سماوي