نص الشريط
البيئة ... مطلب ديني ومشروع حضاري
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1425 هـ
مرات العرض: 3316
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1641)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تشتمل على مفهومين: الأول: علاقة الإنسان بالإنسان، والثاني: علاقة الإنسان بالطبيعة، وقد عبّرت الآية عن المفهوم الأول بالتكريم، حيث قالت: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، أي: ينبغي أن تكون علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في إطار التكريم، وفي إطار الاحترام، وهذا ما تحدثنا عنها في الليلة السابقة بشكل مفصّل. وأما العلاقة الثانية فهي علاقة الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه العلاقة بقوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. حديثنا هذه الليلة عن علاقة الإنسان بالبيئة، وذلك من خلال نقاط ثلاث:

  • في تحديد مفهوم البيئة.
  • في الفرق بين الرؤية الغربية والرؤية الإسلامية لعلاقة الإنسان بالبيئة.
  • في التوصيات التي تترتب على تحديد علاقة الإنسان بالبيئة.
النقطة الأولى: تحديد مفهوم البيئة.

عندما نقول: يجب المحافظة على البيئة، فما معنى البيئة؟ ما هو مفهوم البيئة؟ نحن عندما نرجع إلى مجلة «دراسات» الأردنية في [المجلد التاسع عشر، عدد أربعة] نجدها تنقل لنا آراء عدة علماء متخصصين في هذا المجال، ومنهم: الدكتور إبراهيم الزيد القيلاني الذي تحدث عن مفهوم البيئة، فما هي البيئة؟

البيئة هي المحيط الذي يضم الأحياء، والمقصود من الأحياء: الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، والعناصر الطبيعية الأخرى، كالقشر، فإن القشرة الأرضية عنصر فعّال، ومنها: ما على الأرض من وديان وجبال وهضاب، ومنها: ما تحت الأرض من صخور ومعادن ورواسب، ومنها: نسبة الماء، إذ أن الماء يحتل النسبة الأكبر من سطح الكرة الأرضية، فهو عنصر فعّال من عناصر البيئة، ومنها: الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض بما يملكه من مواد غازية ضرورية للحياة على الأرض... إلخ، كل ذلك يسمّى البيئة، فالبيئة هي المحيط الذي يضم الأحياء والعناصر الفعّالة الأخرى.

حتى نفهم هذا الكلام فهمًا علمًا دقيقًا نقول: آرانسك - عالم ألماني في الثمانينات من القرن التاسع عشر - هو أول من فتح علم البيئة، وقبل هذا العالم لم تكن البيئة علمًا، وإنما تحولت البيئة إلى علم على يد هذا العالم الألماني، إذ أنه من علماء الأحياء، وقد درس العلاقة بين الكائنات الحية وبين العناصر الأخرى، ما هي علاقة الإنسان بقشرة الأرض؟ ما هي علاقة الحيوان بالماء وبالتربة؟ درس العلاقة بين الكائنات الحية وما حولها من العناصر، فتوصّل إلى نظرية تسمّى بنظرية المنظومة البيئية، أي أنه توصّل إلى أن جميع هذه العناصر تخضع لنظام واحد، فالإنسان والنبات والحيوان وقشرة الأرض والماء الذي على الأرض والمعادن كلها تخضع لنظام واحد، فعبّر عن ذلك بالمنظومة البيئية.

يقول: ما على الأرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كائنات منتجة، وكائنات مستهلِكة، وكائنات دقيقة. الكائنات المنتجة مثل النباتات الخضراء، فإنها لا تستورد الغذاء من جسم آخر، ولا تأخذ الغذاء من طرف آخر، بل غذاؤها ذاتي لها، فهي تمد الكائنات بالغذاء ولا تأخذ الغذاء منها، فالنباتات الخضراء هي الكائنات المنتجة. وهناك كائنات مستهلكة، كالإنسان والحيوان، إذ أن بعض الكائنات المستهلكة تعيش على الأعشاب، وبعضها تعيش على اللحوم، وبعضها تعيش على اللحوم والأعشاب. وأما القسم الثالث - وهو المهم - فهو الكائنات الدقيقة، وهي ما نعبّر عنه بالبكتريا أو الفطريات، فما هو دور هذه الكائنات؟

هذه الكائنات تقوم بتحليل المركبات المعقدة، وتحولها إلى معقدات بسيطة هشة، فإذا تحولت إلى مركبات بسيطة تبثها في الهواء وفي التربة، فإذا بثتها في الهواء والتربة استقبل النبات هذه المركبات، فإذا استقبل النبات هذه المركبات بدأ يستعيد دورته من جديد، فهناك تفاعل: كائنات منتجة تأخذ كائنات مستهلِكة في المقابل، وهناك كائنات دقيقة تأخذ هذه المركبات وتحولها إلى نثار يزوّد النبات برصيد يستعيد به دورته الجديدة، فإذن المحيط الذي يضمّ مجموعة من العناصر ومجموعة من الكائنات محيط تفاعل وليس محيطًا جامدًا، حيث إن جميع العناصر التي تحت هذا المحيط تتفاعل ما بينها، فتنتج وتستهلك وتحلّل وتستعيد دورة الحياة كل يوم من جديد، وهذا المحيط التفاعلي هو المعبّر عنه بالبيئة.

ربما الإنسان يسأل: أيننا نحن المسلمين عن هذا الكلام؟! هؤلاء العلماء أتعبوا أنفسهم، وابتكروا هذه النظريات، وتوصلوا عبر الاكتشافات إلى علم البيئة، فأين صوتنا نحن؟! هذا العالم الألماني ابتدأ واكتشف علم البيئة، فماذا قلنا نحن المسلمين عن البيئة؟! طوال 1400 سنة والمسلمون يتحدثون، فماذا قالوا عن البيئة؟! ماذا عبّروا عن البيئة؟! أين رصيدهم من هذه البحوث؟

أقول لك: نعم، عندنا رصيد؛ فإن الإسلام تحدث عن البيئة كما تحدث هذا العالم الألماني وكما تحدث غيره. نحن عندما نتصحف القرآن الكريم نجد 750 آية في القرآن تتحدث عن البيئة، وهذه مساحة واسعة من القرآن، فكما تحدث القرآن عن التاريخ، وعن الأخلاق والتربية، وعن العبادة، وعن التشريعات، تحدث أيضًا عن البيئة في 750 آية. القرآن يتحدث عن الأرض وعمارتها وإصلاحها، فيقول مثلاً: ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ كله حديث عن إعمار الأرض وإصلاحها وبناء كيان عليها، فالقرآن كتاب حضاري من قبل 1400 سنة.

والقرآن يتحدث عن الرياح، والرياح من عناصر البيئة، فيقول: ﴿اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ، ويتحدث عن الماء الذي هو أهم عناصر البيئة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ، والقرآن يتحدث عن الحيوان الذي هو من عناصر البيئة: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، والقرآن يتحدث عن البحر الذي هو من العناصر البيئية المهمة: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

القرآن يتحدث عن الطبيعة بأجمل ألوانها وأزهى صورها وأروع أشكالها: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مع أن الماء واحد لكن الطعم يختلف، فأنت عندما تقرأ القرآن تأخذك صورة غريبة، فإنه لا يتحدث فقط عن الصلاة والصوم، ولا يتحدث فقط عن التاريخ والأخلاق والعبادة، بل يتحدث أيضًا عن البيئة وعن مظاهرها وصورها وأشكالها المختلفة، فالبيئة تحتل جزءًا مهمًا من اهتمام القرآن، وتحتل مساحة كبيرة من اهتمام القرآن، ومن اهتمام الإسلام. إذن الإسلام تحدث عن البيئة منذ قرون، ومنذ فترة طويلة.

النقطة الثانية: علاقة الإنسان بالبيئة.

هنا نحن أمام تصورين: التصور الغربي، والتصور الإسلامي. التصور الغربي يرسم لنا علاقة الإنسان بالبيئة، والتصور الإسلامي يرسم لنا أيضًا علاقة الإنسان بالبيئة، وكل تصوّر يبني العلاقة على فلسفة للحياة، إذ أن للغرب فلسفةً في الحياة، فيبني تصوره للعلاقة مع البيئة على أساس فلسفته للحياة، والإسلام أيضًا له فلسفة للحياة، إذن فهو يبني علاقة الإنسان بالبيئة على أساس فلسفته ومفهومه للإنسان وللحياة.

كيف يفهم التصور الغربي الإنسان؟ وكيف يفهم علاقته بالبيئة؟

التصور الغربي يقول: علاقة الإنسان بالبيئة علاقة الاستخدام. الدكتور إبراهيم زيد الهيلاني ينقل تعريفًا عن الأمم المتحدة للبيئة، وهو أن البيئة هي رصيد الموارد المادية والاجتماعية المتاحة في وقت ما ومكان ما لإشباع حاجات الإنسان. أي أن علاقة الإنسان بالبيئة علاقة إشباع، وعلاقة استخدام، فمن أجل أن يحقق أهدافه المادية يستخدم البيئة ويطوّعها لمآربه المادية. وهذا ما نراه فعلاً، فإن الإنسان في الغرب خلق بيئة صناعية ضخمة، كالعمارات الشاهقة، والسدود والجسور، والموانئ والمرافق، وسيطر على البيئة الطبيعية، سيطر على البر والبحر والجو، وسخّر البيئة الطبيعية لخدمة أهدافه المادية، لماذا؟ لأنه حر!

منطق الحرية هو المنطق الغربي المتأصل في جميع المفاهيم. الغرب يقول: بما أن الإنسان خلق حرًا فمقتضى حريته أن يسيطر على البيئة، وأن يسيّرها لإرادته، ومقتضى حريته أن يمتلك من الثروات ما يريد، وأن يوزع الثروات كيفما يريد، وأن يخطط لمستقبله كيفما يريد، فبما أنه حر فمقتضى حريته أن تكون الثروة والأرض والطبيعة تحت يديه خادمة ومطيعة.

ما هي علاقتنا - نحن المسلمين - بالبيئة بحسب التصور الإسلامي؟

علاقتنا بالبيئة أيضًا مبنية على فلسفتنا للإنسان. هناك ركائز أربع نختلف فيها مع التصور الغربي، أي أن التصور الإسلامي مبني على ركائز أربع تختلف عن ركائز المفهوم الغربي.

الركيزة الأولى: البيئة تشمل المحيط الأسري.

الإسلام يقول: البيئة لا تنحصر في البيئة الطبيعية، لا تنحصر البيئة في الشجر والماء والهواء، بل البيئة تشمل المحيط الأسري، فهي تشمل المحيط الطبيعي والمحيط الأسري، لأننا إذا أردنا أن ننتج إنسانًا صالحًا قادرًا على صنع الحضارة وصنع التاريخ فلا يمكن لنا أن ننتج هذا الإنسان من بيئة طبيعية صحية فقط، بل لا بد في إنتاجه من صحة البيئة وصحة الأسرة. المحيط الأسري لا بد أن يكون محيطًا صحيًا، كما أن المحيط الطبيعي محيط صحي، فكما نحتاج حتى ننتج إنسانًا يصنع حضارة وتاريخًا إلى بيئة صحية يعيش فيها، نحتاج أيضًا إلى أسرة صحية يعيش فيها هذا الإنسان، فالبيئة تعني المحيط الطبيعي والمحيط الأسري.

لاحظوا ما ورد عن الرسول : ”اختاروا لنطفكم؛ فإن العرق دسّاس“، ”إياكم وخضراء الدمن! قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء“. الرسول يريد أن يقول لنا: ليست المسألة بيئة صحية فقط، فإنك إذا وفّرت له بيئة صحية لن يخرج إنسانًا عملاقًا يصنع حضارة وتاريخًا، بل لا بد له من أسرة صحية غير مريضة وغير مضطربة وغير مختلة، حتى تنتج إنسانًا عملاقًا قادرًا على صنع التاريخ والحضارة، فإذن البيئة تشمل الأسرة الصحية؛ لأن العوامل الوراثية والعوامل التربوية تعكس أثرها الواضح على شخصية الإنسان.

النبي نوح «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» يقول: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا. الفرع نسخة من الأصل، أجيالهم مثل أجدادهم، فإذن العوامل الوراثية تعكس أبعادها وتأثيراتها على الإنسان، وهذه هي الركيزة الأولى في الفرق بين التصورين.

الركيزة الثانية: علاج تلوث البيئة بتربية الإنسان.

الغرب والشرق، المسلمون وغيرهم، الكل ينادي: يا عالم، يا ناس، هناك تلوث في البيئة، الدول الكبرى ترمي بالنفايات النووية إلى المحيطات وإلى البحار، وتزرع أمراضًا سرطانية لا حد لها ولا نهاية، والأجواء ملوثة بغازات المصانع وأدخنتها... إلخ، فتلوث البيئة الكل يعترف به، لكن كيف نعالج هذا التلوث؟ التصور الغربي يقول: نعالج هذا التلوث أولاً بإصدار قوانين من قِبَل الأمم المتحدة وغيرها، وهذه القوانين تحد قدرة الإنسان على تلويث البيئة وتخريبها.

ومن هذه القوانين مثلاً: الولايات المتحدة - التي هي أكبر دول العالم وأكثرها تطورًا وأعظمها حضارةً ماديةً - كيف يعالجون تلوث البيئة؟ أصدروا قانونًا: كل شركة تملك مصانع، والمصانع تفرز هذه الغازات إلى الجو، فكيف يحدون من ذلك؟ قالوا: نحن نحدّد نسبة لكل شركة! كل شركة لها نسبة معينة من إفراز الغازات، فلها مجال محدد تفرز من خلاله الغازات، وإذا زادت عن نسبتها المعدة لها تدفع ضريبة وغرامة، فهذا قانون يحد من تلوث البيئة. بعض الشركات أفلست ولم يعد عندها إنتاج، أو هبط إنتاج، فماذا تفعل الآن حتى ترفع من مستوى إنتاجها؟

تقوم ببيع نسبتها! أي أنهم حولوها إلى قضية تجارية، مع أنها قضية صحية. مثلاً: شركة باء أعطيت من قِبَل القانون 5% من المجال لإفراز الغازات من قِبَل مصانعها، والآن نزلت ميزانيتها، وهبط مستواها الإنتاجي، فتقوم ببيع هذه النسبة لشركة الأخرى، وتأخذ من ذلك الملايين والمليارات مقابل هذه النسبة! إذن تلك الشركة التي كان لها 10% صار لها 15% من المجال لإفراز هذه الغازات، فرجعنا إلى المشكلة كما كنا. إصدار قوانين لتحديد نسبة لكل شركة في إفراز غازاتها هذا حل. الحل الثاني: نحن عندنا تكنولوجيا، وعلى أساس تكنولوجيتنا نخترع آلات تقنية تحد من تلوث البيئة، ونقضي على مشكلة التلوث.

التصور الإسلامي يقول: هذا كله لا يفيد، إذ لا القانون وحده يعالج تلوث البيئة، ولا الآلات التي تنقي تعالج تلوث البيئة، بل العلاج الأساس لتلوث البيئة علاج الإنسان نفسه، وتربية الإنسان من الداخل، فإن البيئة الصالحة نتاج الإنسان الصالح. أنت أولاً ربِّ الإنسان، فإنه إذا لم يربَّ، وإذا لم يتحسس أن مسؤوليته رعاية البيئة، فلا تفيد هذه القوانين. لا بد من الانطلاق من الإنسان، ولا بد من تربية الإنسان من الداخل، فإذا ربينا الإنسان من الداخل وحسسناه بمسؤولية البيئة، وكوّنّا له ثقافة بيئية، استطاع الإنسان الصالح أن يصنع البيئة الصالحة.

الركيزة الثالثة: الإنسان خليفة وليس مالكًا.

المفهوم الغربي يقول: أنت حر تصنع ما تشاء، وتملك ما تشاء، فلأجل أنك حر علاقتك بالبيئة علاقة الاستخدام، بينما التصور الإسلامي يقول بأنك لست مالكًا، وإنما الحر هو المالك، بينما أنت لا تملك الطبيعة ولا البيئة، بل لا تملك شيئًا أصلاً، فبما أن الحرية فرع الملكية، فالإنسان ليس حرًا لأنه ليس مالكًا أصلاً، ولو كان مالكًا لكان حرًا فيما يملك، ولكنه ليس مالكًا، وإنما هو مجرد خليفة ونائب ووكيل عن المالك، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً، ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، فالقرآن يركز على الخلافة.

أنت خليفة المالك الحقيقي ولست مالكًا، وبما أنك خليفة لست حرًا، فلا بد من أن تتعامل مع البيئة بالنظام الذي وضعه المالك الحقيقي، إذ أن الوكيل يرجع للموكِّل، والخليفة يرجع للمستخلِف، فبما أنك خليفة، إذن خذ نظام التعامل مع البيئة من قِبَل من وكّلك واستخلفك، ولذلك التعبير القرآني دقيق جدًا. أنت ماذا تتصور؟! تأتي إلى الحياة، وتشتري أرضًا، وتبنيها، ثم تقول: هذا بيتي! بينما القرآن يقول: أنت متوهم، هذا مستقر وليس ملكًا، فأنت عندك مستقر في الأرض وليس ملكًا، فأنت كمن يأخذ له مقرًا بالإيجار، فأنت لك مستقر وليس ملكًا.

القرآن تعبيره دقيق: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ولم يقل: ملك ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ أي إلى مدة معينة، كم سأعيش أنا؟ خمسين سنة؟! بالنتيجة سأذهب، فهذه الأرض وهذه الطبيعة وهذه العوامل هي عارية لك تستعيرها لتنتفع بها مدة مؤقتة، فأنت خليفة ولست مالكًا، وبما أنك لست مالكًا إذن لستَ حرًا، فيجب أن تتبع نظام المالك المستخلِف.

افترض أنك مالك، فهل هذا يسوّغ لك السيطرة على ملكك كيفما تشاء وكيفما تريد؟! أنا الآن أذكر بحثًا فقهيًا، بعض الإخوان يقول: لماذا لا تذكر لنا كل ليلة مسألة فقهية؟ المسائل الفقهية لا تنحصر في الوضوء والتيمم، فهل الفقه من الطهارة إلى الديات ليس مسائل فقهية؟! الآن أذكر لك بحثًا فقهيًا: الفقهاء يقولون: الملك قوامه بالسلطنة. أنا أملك هذا المنديل، أي أن لي سلطنة عليه، أي أنني أستطيع التصرف فيه، فأضمه في جيبه، وأبيعه، وأهبه، أو أرميه في البحر، أو أفعل ما أشاء؛ إذ الملك قوامه بالسلطنة.

ورد عن الرسول محمد : ”الناس مسلّطون على أموالهم“، وهذه أموالي، فلي السلطنة عليهم. أنا الآن عندي برميل ونفط وخشب، وكلهم ملكي، فأضع النفط في البرميل وأشعل النار، ثم أضعه عند حائط الجيران، بحيث تكون الأدخنة كلها على بيت الجيران! وكلما قيل له: يا فلان، أنهكتنا! يقول: والله أنا أتصرف في ملكي! البرميل ملكي، والنفط ملكي، والخشب ملكي، وأنا تصرفت في ملكي بما أريد، والرسول قال: الناس مسلطون على أموالهم! وأنا أتصرف في ملكي بما أريد، فماذا يقولون لي؟!

يقولون: صحيح الملك قوامه بالسلطنة، ولكن السلطنة - كما يقول العلماء - قاصرة ضيّقة لا تمتد لفرض الإضرار بالغير، فصحيح أن لك سلطنة على أموالك، لكن لو أردت بهذه السلطنة الإضرار بالغير، فليس لك سلطنة حينئذ، فالسلطنة قاصرة لا تمتد ولا تتسع لفرض الإضرار بالغير، فحتى لو كانت أموالك ليس لك سلطنة عليها إذا ترتب على السلطنة إضرار بالغير، ”لا ضرر ولا ضرار على مؤمن“. إذن حتى لو كنتَ مالكًا فليس لك سلطنة حتى تتصرف في البيئة كيفما تريد، ولو استلزم هذا التصرف تلويث البيئة، وهذه هي الركيزة الثالثة في الفرق بين التصور الغربي والإسلامي.

الركيزة الرابعة: أهمية قراءة البيئة واستكشافها.

علاقة الإنسان بالبيئة في نظر الغرب علاقة مادية جافة. أنا هذا التراب أبني لي به قصرًا، وهذا الماء أشربه، وهذه الثمار آكلها، وهذا الحيوان أركبه وأصعده، وهكذا.. علاقتي بالبيئة في نظر الغرب علاقة مادية بحتة، ولكن الإسلام يقول: علاقتك بالبيئة يجب أن تكون علاقة هادفة وليست علاقة مادية. القرآن الكريم يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. الفلاسفة يقولون: المعرفة على قسمين: معرفة نفسية، ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، ومعرفة آفاقية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ، والمعرفة الآفاقية هي قراءة البيئة، فصارت علاقتنا بالبيئة علاقة قراءة، وليس علاقة مادية. المعرفة الآفاقية هي أن تكون علاقتنا بالبيئة علاقة قراءة وتأمل وتدبر، إذ ليست البيئة غاية، بل هي وسيلة. الغربي يقول: غايتي أن أملك قصرًا، وأملك سيارة، وأملك أموالاً، فالبيئة غاية، ولكن المسلم لا يقول ذلك، بل يقول: البيئة وسيلة وليست غاية؛ غايتي الوصول إلى الله. إذن علاقتك بالبيئة علاقة معرفة واستكشاف وقراءة.

أضرب لك أمثلة حيوية: أنت تكتشف بالبيئة التوازن في الحياة، إذ أن هناك توازنًا يحكم الحياة، ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، حتى النبات له وزن، هناك ميزان يحكم الحياة، فأنت الآن منذ وأنت في المرحلة المتوسطة تقرأ: الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض فيه نسبة أكسجين 21%، وهذه النسبة لو صعدت احترق من على الأرض، ولو نزلت مات من على الأرض، فهناك عملية توازن، وهذه العملية تكتشفها إذا قرأتَ البيئة، هذا أولاً.

ثانيًا: إذا قرأتَ البيئة ستكتشف أن الوجود كله خير، وليس هناك شر. الكثير من الناس يقولون: الله أنعم علينا ولكنه ابتلانا، حيث أنعم علينا ولكنه خلق لنا حشرات وأمراضًا! العالم ليس فيه شر أبدًا، بل الوجود - كما يقول الفلاسفة - مساوقٌ للخير، والخير مساوقٌ للوجود، ليس في العالم شر أبدًا، إذا قرأت البيئة ستصل إلى هذه النتيجة. مثلاً: الديدان الصغيرة التي تعيش على الأرض ما رأيك فيها؟ عبد الرزاق نوفل في كتابه [بين يدي الله، ص100] يقول: اكتشف العلماء أن هذه الديدان تقوم بطحن التربة، وتحويلها من مادة صلبة إلى تراب هش صالح للزراعة.

هذه الديدان تخدمك، حيث تحوّل الأرض إلى أرض زراعية، كما تقوم بدفن أوراق الشجر ومخلفاتها، بحيث تصبح سمادًا طبيعيًا للأرض يؤهلها للزراعة. العناكب التي تراها في البيت، قد تقول: ما هي فائدة هذه العناكب أيضًا؟! نفس الكتاب يذكر: اكتشف العلماء أن هذه العناكب أنها تأكل سنويًا من الحشرات ما يعادل وزنه وزن ثلاثة ملايين رجل! فالعناكب تقضي على هذه الحشرات وتريحك منها. أنت إذا قرأتَ البيئة وجدتَ الخير ينبض في البيئة، ويبرز من خلال البيئة.

وثالثًا: إذا قرأتَ البيئة ستكتشف أن كل شيء له لغة، لا يوجد شيء لا لغة له، حتى الصخرة الصماء، وقد يقول قائل: هذه صخرة فأي لغة لها؟! لا، كل شيء له لغة، وقد عرفنا هذا من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، كل شيء إذا قرأتَه وجدتَ أنه يحمل صلاة وتسبيحًا وارتباطًا بالله. إذن علاقتنا بالبيئة علاقة القراءة والتدبر، فهي علاقة روحية توصلنا إلى الله «تبارك وتعالى»، وليست مجرد علاقة مادية جافة.

النقطة الثالثة: التوصيات المرتبطة بعلاقة الإنسان بالبيئة.

عرفنا مفهوم البيئة، وعرفنا علاقة الإنسان بالبيئة، ونريد الآن أن نعرف التوصيات التي تترتب على علاقة الإنسان بالبيئة، وأنا أختصر الكلام فأذكر توصيتين فقط.

التوصية الأولى: حول أهمية البيئة في المنظور الفقهي.

الكثير من الإخوة يقول لي: عما تتحدث هذه الليلة؟! ما علاقتنا بالبيئة نحن؟! لا يهمنا كانت أو لا تكون! اذكر لنا تاريخًا، أو تحدث عن الأخلاق، أو عن معارف عقائدية، أو عن أحكام شرعية، إذ ما ربطنا نحن بالبيئة؟! من المفروض أن تستغل شهر محرم في المعارف العقائدية والمعارف الأخلاقية وتحليل التاريخ والتربية والأخلاق، لا في الحديث عن البيئة! ما هي علاقتنا نحن بالبيئة؟!

مع الأسف الشديد، هذا من أسباب ضعفنا نحن المسلمين. من أسباب تخلفنا ضعف ثقافتنا، وضيق أفقنا، وضيق تصوراتنا، لا نملك أفقًا واسعًا، لا نملك مفاهيم منفتحة، لا نملك رؤى متطلعة، نحن دائمًا مفهومنا: الدين يعني العبادة والأخلاق والتاريخ والعقيدة! هذا هو الدين فقط! لا يوجد شيء آخر في الدين! هذا ضيق في الأفق، وقصور في الرؤية، وانغلاق في التصور. أنا أقول لك: 750 آية تتحدث عن البيئة، فهل القرآن متخلف؟! القرآن يتحدث عن البيئة في 750 آية وأنت تستكثر حديثنا ليلة واحدة عن البيئة؟! القرآن كما تحدث عن الأخلاق والصلاة والصوم والتشريعات، تحدث عن البيئة أيضًا.

نحن قصور ثقافتنا هو الذي جعلنا نتصور أن لا علاقة لنا بالبيئة، وإلا فإن الإسلام كما أمرنا بالصلاة والصوم أمرنا أمرًا شرعيًا إلزاميًا بعدم تلويث البيئة، فهذا من المحرمات الشرعية، ولا فرق بينه وبين المحرمات الأخرى، فكما يحرم شرب الخمر وأكل الخنزير يحرم تلويث البيئة.

كما قال القرآن: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، قال القرآن: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، نحن جعلنا الأرض أرضًا زراعية نقية وجعلنا لكم جوًا نقيًا، فلا تفسدوا في الأرض، فالقرآن ينهانا عن تلويث البيئة، وينهانا عن تخريب البيئة. إلقاء القمامة في الشواطئ وفي الأنهار، وإلقاء النفايات النووية.. كله تلويث للبيئة. ربما يقول قائل: أنا إنسان نظيف لا يرمي القمامة، ولكن نحن نسأل سؤالاً آخر: انظر نظرة إلى أخرى إلى هذا القطعة من النخيل التي تمتد من سيهات إلى الأوجام، فإن هذه القطعة سد منيع لهذه المنطقة التي نعيشها، فإذا أردتَ أن تلوث البيئة فاقضِ على هذا النخل، واقطعه وأحرقه؛ فإنك تعرّض البيئة إلى الأخطاء الفادحة.

قطع النخل والقضاء عليه من أعظم المظاهر لتلويث البيئة ولتخريبها؛ لأن إزالة النخل يعني تصحر الأرض، وإذا تصحرت الأرض تزحف الرمال على الجزء المسكون من هذه الأرض، وزحف الرمال من الأسباب المؤدية لأمراض وخيمة لا تُعْرَف إلا بمرور الأيام والأوقات. ورد عن الرسول محمد في كتب الفريقين: ”أكرموا عمتكم النخلة“، لماذا هي عمتنا؟ هل لأنها تعطينا رطبًا وتمرًا فقط؟! لا، لأنها سد أمام الرمال والتراب، ولأنها تنقّي لنا الأجواء.

هذا الجو الذي تعيش فيه إذا أردتَ أن يكون نقيًا فحافظ على هذه النخلة، فالقضاء على النخلة يعني فتح باب للجو الملوث، وفتح باب للرمال الزاحفة، وفتح باب للأمراض الوخيمة. ورد عنه : ”من قطع سدرةً فقد صوّب رأسه إلى النار“. هذه مسؤولية شرعية، فليست مسؤوليتنا الشرعية أن نصلي ونصوم فقط! نعم، يجب أن نصلي ونصوم وأن نعرف عقيدتنا، ولكن من مسؤوليتنا الشرعية أيضًا أن نحافظ على أجوائنا وزراعاتنا ونخيلنا وبيئتنا وعلى سلامة أرضنا.

التوصية الثانية: حول خطورة الإسراف.

تعاملنا مع البيئة تعامل الإسراف، ومن الأمثلة الواضحة لذلك: ارجع إلى [مجلة منار الإسلام الإماراتية، العدد الصادر مارس 1989 ميلادي]، يذكر عن الكويت: صارت إحصائية للقمامة في الكويت، فوجدوا أن نسبة 45% من القمامة غذاء، مواد غذائية في القمامة نسبتها 45%! وهذا ليس في الكويت فقط، بل نحن نعيش نفس العادات ونفس الأعراف في ولائم أعراسنا وفواتحنا وبيوتنا، فكلها مبنية على الإسراف والتلاعب بالنعمة ووضعها في غير موضعها، والإسراف من الكبائر.

قد يظن الإنسان أنه مؤمن إذا صلى وصام فقط، وأما إذا رمى نصف الغذاء فقد حافظ على الإيمان! لا، الإسراف من الكبائر. افتح [منهاج الصالحين، ص4] يذكر صاحب منهاج الصالحين - السيد الخوئي أو غيره من العلماء - أن من الذنوب الكبائر الإسراف، ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

وأيضًا [مجلة منبر الحوار، عدد 95] تنقل إحصائية عالمية: العالم كله ينتج سنويًا غذاء يكفي لثمانية بليون إنسان، بينما سكّان الأرض ستة بليون تقريبًا، فالغذاء الذي ينتج أكثر من حاجة الإنسان، ومع ذلك شعوب ترمي بالغذاء إلى القمامة، وشعوب تتوق إلى قرص الغريف فلا تجده، فهل هذه علاقة صحية مع البيئة؟! هل هكذا التعامل مع البيئة؟! تعامل الإسراف؟!

السنن الطبيعية تأخذ مجراها، فإذا تلاعبنا بالنعم فالنتيجة محسومة: كل مجتمع تلاعب بالثروة وأسرف في تعامله معها فإن نتيجته ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لأنك إذا امتلكت مالاً تحركت الشركات كلها نحوك! من ملك أموالاً استطاع أن يستورد، ولذلك الشركات والمؤسسات كلها تدخل إلى بلدك لتستثمر فيه؛ لأنك تملك أموالاً ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فماذا حصل؟ ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. سنة طبيعية: يتحول المجتمع نتيجة التلاعب بالنعمة إلى مجتمع مضطرب غير آمن، وإلى مجتمع فيه حروب ونزاعات، ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.

إذن تعاملنا مع النعمة ينبغي ألا يندرج تحت هذه المنطقة المحظورة: منطقة الإسراف. تعال إلى أهل البيت ، كيف تعاملوا مع النعمة؟ انظر إلى علي وانظر إلى معاوية، علي يقول: ”لو شئت لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل باليمامة أو الحجاز من له عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرسى، وأكباد حرى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!“. علي بن أبي طالب عقلية حضارية، يوزع النعمة توزيعًا عادلاً، ويكتب إلى مالك الأشتر: ”هذا ما عهد به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى واليه على مصر مالك الأشتر النخعي“، ما هو هذا العهد؟ هل قال له: مرهم بالصلاة فقط؟! لا، بل أمره بالصلاة والصيام وأمره بأشياء أخرى أيضًا، ”استصلاح أرضها“ لاحظ العقلية الحضارية، يقول له: أصلح الأرض، أي: ازرعها، ولا تجعلها أرضًا صحراء، ”وجباية خراجها، وعمارة بلادها“. علي يأمر بالبيئة الصالحة، بالبيئة النقية، بزرع الأرض، بخلقها، علي هكذا تعامل مع النعمة.

وأما معاوية فكان تعامله مع النعمة تعاملاً مختلفًا، حيث بنى القصور، وبنى الدنيا بين يديه، وكما دعا عليه رسول الله: ”لا أشبع الله بطنه“، تلاعب بالثروة تلاعبَ الإسراف، ولكن التاريخ كيف ذكر عليًا وكيف ذكر التاريخ معاوية؟ أين معاوية وأين علي؟! محمد مجدوب السوري زار قبر معاوية وزار قبر الإمام علي، فقال:

أين  القصور  أبا  يزيد ولهوها
أنحرتَ     عزَّتها     iiوزبرجها
هذا  ضريحك لو نظرتَ iiلبؤسهِ
كتلٌ  من  التربِ المهينِ iiبخربةٍ
قم  وارمق  النجف الأغر بنظرةٍ
تلك  العظام  أعزَّ  ربك  iiقدرَها




 
والصافنات   وزهوها  iiوالسؤددُ
على أعتاب دنيا سحرها لا ينفذُ
لأسال  مدمعك المصير iiالأسودُ
سكر  الذبابُ  بها  فراح  iiيعربدُ
يرتد   طرفكَ   وهو  باكٍ  iiأرمدُ
فتكاد   لولا   خوف  ربك  تُعْبَدُ

الفكر وأهمية التجديد
قيمة الإنسان في الإسلام