نص الشريط
الدرس 6
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 5/11/1434 هـ
مرات العرض: 2468
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (408)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق في المقام الثاني وهو تصوير الجزء المستحب ما أفاده سيّد المنتقى «قده» من أنّ تصوير الجزء المستحب يبتني على دعوى وجود وجوب مؤكد متعلّق بالمركب المشتمل على الخصوصية المستحبة.

ولكن يُلاحظ على ما أُفيد:

أولاً: بأنّ الوجوب بما هو وجوب مع غمض النظر عن خصوصية التأكد هل يشمل هذه الخصوصية المستحبة كخصوصية القنوت أم لا؟

فإن قيل بأنها يشملها لزم من ذلك أن تكون الخصوصية واجبة بل هي جزء من ماهية المأمور به، وهذا خُلف كونها مستحبة.

وإن قيل بأن الوجوب بما هو وجوب لا يشملها وإنما الذي يشمل الخصوصية المستحبة هو عنصر التأكد لا نفس الوجوب، فمقتضى ذلك عدم كون الخصوصية جزءاً من الواجب ما دام الوجوب عقلاً لا يشملها وإنما الذي يشملها خصوصية أو عنصر التأكد، والمفروض أنّ التأكد بحسب ما عُلم من الدليل الخاص وهو جواز الترك هو تأكد رجحاني وليس لزومياً، إذاً فالنتيجة: هذه الخصوصية ليست جزءاً من الواجب، فلا يتصوّر أن تكون الخصوصية متعلّقة للوجوب بما هو وجوب مع كونها مستحبة، كما لا يتصوّر أن تكون خارجة عن حيز نفس الوجوب، باعتبار أنّ الوجوب المؤكد ينحل عقلاً إلى عنصرين: وجوب وتأكد، فإذا لم تكن مندرجة تحت الوجوب وإنما هي متعلّقة لعنصر التأكد، فهذا خلف كونها جزءاً من الواجب، فمرجع ما ذكره بحسب الدقة والتحليل إلى التصوير الأوّل من وجود أمرين: امر بالطبيعة وامر للحصة.

وثانيا: ما أُدعي من أنّه في حقيقة الأمر يوجد أمران وجوبي واستحبابي، ولكن يُصبحان وجوباً مؤكداً، فيُقال ما الموجب لصيرورتهما وجوباً مؤكداً، إمّا أن يكون الموجب لصيرورتهما وجوبا مؤكداً؛ دعوى اجتماع الضدين، بأن يقال: هذه الطبيعة - أي الصلاة المتقيدة بالخصوصية - معروض للوجوب ومعروض للاستحباب فهي مجمع الضدين، ولكن هذا مندفع لأنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ متعلّق الوجوب الاستقلالي الطبيعة لا بشرط، ومتعلّق الطلب الاستحبابي الحصة، أي الطبيعة المشروطة، وبين اللابشرط والمشروط تغايرٌ، فهناك موضوعان لحكمين وليس موضوعاً واحداً، وأمّا الاستحباب الضمني بأن يقال: إذا تعلّق الاستحباب بالطبيعة المشروطة فهناك استحباب ضمني لنفس الطبيعة، ففيه إنّ الاستحباب الضمني كما هو يكرره في المنتقى مجرد انتزاع عقلي وليس له حقيقة، فما صدر من الشارع حقيقة وجعلاً هو الاستحباب الاستقلالي المتعلّق بالطبيعة المشروطة، وأمّا انتزاع استحباب ضمني لذات الطبيعة بما هي، فهذا مجرد انتزاع وتحليل عقلي وليس مجعولاً شرعياً كي يقال: إذاً الطبيعة بما هي متعلّق لوجوب واستحباب، وإن كان الموجب لصيرورتهما - أي الطلب الوجوب والطلب الاستحبابي - وجوباً مؤكدا، هو أنّه في عالم التكوينيات لو أراد الإنسان خصوصية فهو لا يتولد منه اراداتان، فلو كانت هناك مصلحة في الدرس ومصلحة في أنّ يكون الدرس في الساعة الفلانية فليست هناك اراداتان، بل إرادة للدرس في الساعة الفلانية على نحو الإرادة المؤكدة، فإنّ هذا يبتني على أنّ هناك أية لا تتخلف ولا تختلف وهي أنّ الإرادة التشريعية على وزان الإرادة التكوينية بحذافيرها، وهذا هو اول الكلام.

فليس هناك شاهدٌ على أنّ الإرادة التشريعة على وفق الإرادة التكوينية، بل الإرادة التشريعية تابعة لملاكاتها، سواءً استلزم الملاكان إرادة واحدة او استلزم إرادتين، ولذلك هو «قده» في بحث النواهي ذهب واختار أنّ النهي طلب للترك، مع أنّ مقتضى عالم التكوين أن يكون النهي انزجاراً عن الفعل؛ لأنه في المنهيات لا توجد مصلحة في الترك بل مفسدة في الفعل، فمقتضى كون المفسدة في الفعل أن تكون النفس تجاه الفعل نافرة منزجرة لا أن تكون النفس طالبة للترك، فمع أنه في عالم التكوينيات ليست هناك إرادة للترك بل نفورٌ من الفعل، مع ذلك هو قال: في عالم التشريع مرجع النهي إلى طلب الترك لا إلى الزجر عن الفعل وإن كان بحسب عالم التكوين، نعم ما يكون موقف تجاه موطن المفسدة هو النفور والزجر.

فتحصّل من ذلك: أنّ التصوير الذي افاده «قده» للجزء المستحب محل تأمّل، فالصحيح في تصوير الجزء المستحب هو الوجه الثاني، وهو البناء على أنّ عنوان المأمور به عنوان انتزاعي صادقٌ على القليل والكثير، لكن لا يُثمر الثمرة التي يُراد الوصول إلى إليها، كما سنبين في المقام الثالث، إن شاء الله.

فإذا قلنا وبنينا على أنه يمكن وجود جزء من الواجب ومع ذلك هو مستحب، والمراد بكونه جزءاً من الواجب أنه جزء من الفرد المحقق للامتثال وليس جزءاً من ماهية المأمور به، فسوف يتبين بذلك الخلل فيما أفاده سيدنا «قده» في المستند من أنّ الجمع بين الجزئية والاستحباب جمع بين المتناقضين، فإنّ مقتضى الجزئية عدم الاستحباب، مقتضى الاستحباب عدم الجزئية، جواز الترك.

نقول: ليس المدعى أنّه جزء من الماهية، هو ليس جزءاً من ماهية المأمور به كي يُقال بأنه لا يجتمع كونه جزءاً من ماهية المأمور به مع كونه مستحباً يجوز تركه، إنّما المدّعى أنّه جزءٌ من الفرد المحقق للامتثال، كما أنّه ليس المدعى أنه جزء تعيني من الفرد، بمعنى أنّه لا يوجد الفرد المحقق للامتثال إلّا به، فإن هذا يتنافى مع كونه مستحباً، إنما هو جزء من الفرد على نحو التخيير بين الفردين؛ إذ افترضنا أن المأمور به عنوان انتزاعي ينطبق على الفرد القصير هو «الصلاة لا مع القنوت» وعلى الفرد الطويل وهو «الصلاة منع القنوت» كانطباق عنوان «الصلاة» في موارد التخيير بين القصر والتمام، فحينئذ القنوت جزءٌ من الفرد؛ لأنه أحد فردي الواجب، لكنه ليس جزءاً تعينياً كي يتنافى مع الاستحباب وجواز الترك، فلا مانع من الجمع بين الأمرين من أنّ نقول: هذا جزء من الفرد المحقق للامتثال على نحو البدل والتخير، وفي نفس الوقت هذا الجزء مستحبٌ يعني راجحٌ فهو أفضل فردي التخيير، هذا لا مانع من الجمع بينهما، ولا يلزم من الجمع بينهما الجمع بين المتناقضين.

وبذلك أيضا يتبين المناقشة في الوجه الأوّل وهو دعوى الارتباطية، حيث قيل إنّ الطبيعي المأمور به إمّا مأخوذ بشرط شيء، فهو جزء من ماهية المأمور، أو مأخوذ لا بشرط فهو أجنبي.

قلنا: بل هناك شقٌ ثالثٌ، وهو أن يكون المأمور به جامعا انتزاعيا بين فرد قصير وفرد طويل فالجزء من الفرد الطويل جزء من الفرد المحقق للامتثال، وفي نفس الوقت هو أفضل الفردين، وبذلك يُجمع بين الاستحباب والجزئية للفرد، إنما هل هذا يُفيد؟ هل هذا الكلام له ثمرة؟ لا، سيأتي ذلك في بيان المقام الثالث، ألا وهو ذكر الثمرات.

المقام الثالث: وهو أنّه هل هناك أثر عملي للبحث حول إمكان الجزء المستحب أم لا؟

ذُكر في المقام عدّة ثمرات:

الثمرة الأولى: - وهي المهمة - هي جريان قاعدة التجاوز في الجزء المشكوك بعد الدخول في الأمر المستحب، كما إذا شكّ في القراءة بعد التلبس بالقنوت، او شك في السلام بعد التلبس بالتعقيب بناءً على أنّه من الصلاة.

وقد ذُكر هنا وجهان مصححان لترتب الثمرة على بحث الجزء المستحب:

الوجه الأول: لا ريب ولا إشكال في أنّ جريان قاعدة التجاوز عند الشك في القراءة فرع التجاوز، وفرع الخروج من الشيء والدخول في غيره، إلّا أنّ عنوان التجاوز والخروج؛ لأنه بعض الروايات عبّرت ب «التجاوز» وبعض الروايات عبّرت ب «الخروج»، زرارة سأل أسئلة كثيرة فاجابه الإمام: «يا زرارة إذ خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فكشكك ليس بشيء، إلّا أنّ صدق التجاوز والخروج من شيء لشيء آخر، إنما يتصوّر في المركب، كي يقال: خرج من شيء إلى شيء آخر، تجاوز من شيء إلى شيء آخر، والمراد ب «المركب» ما سمّاه الشارع تحت عنوان معيّن، كأن يقول الشارع: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» ثم يعدد اجزاء الصلاة، فيكبر، ويقرأ، ويقنت، فبما أنّ ألمراد بالمركب ما سمّاه الشارع تحت عنوان معين ألا وهو عنوان «الصلاة» فيُعرف من ذلك أن القنوت جزء من هذا المركب؛ لأنّ الشارع سمّاه في ضمن هذا الاطار ألا وهو عنوان الصلاة، فإذا القنوت ممّا سُمّي تحت عنوان «الصلاة» فالدخول في القنوت تجاوز خروج عن القراءة وتجاوز لها، فيتنقح بذلك موضوع قاعدة التجاوز فتجري.

ولكن يُلاحظ على ما أُفيد: - كما ذكره سيّدنا «قده» في مصباح الأصول في بحث قاعدة التجاوز - من أنّ العنوان الوارد في النصوص عنوان التجاوز او عنوان الخروج، لا محالة لا يُراد به الخروج الحقيقي؛ إذ لا يجتمع الخروج عن الشيء مع الشك فيه، كي خرج منه وهو يشك فيه، فكيف يُقال خرجت من القراءة ودخلت في القنوت وهو يشك في وجود القراءة، إذاً ليس المراد بالخروج الخروج الحقيقي حتماً، فلا محالة المراد به الخروج الادعائي، وحيث إنّ الخروج الادعائي مبهم عندنا؛ لأننا لم نصل إلى ما هو المناط في الخروج الادعائي، حيث لم تفصح الرواية عنه، فنقتصر على القدر المتيقن، والقدر المتيقن من الخروج الادعائي الخروج عن المحل الشرعي، حيث إنّ للقراءة محلاً شرعياً في هذا المركب، فالخروج عن ذلك المحل الشرعي خروج ادعائي عن القراءة، والخروج عن المحل الشرعي يتوقف على تحديد ما هو المحل الشرعي؟ والمحل الشرعي: هو عبارة عن دخل اللاحق في صحة السابق، بمعنى أنّه لا يصح السابق حتّى يلحقه اللاحق، فلحوق اللاحق قيد في صحة السابق، هنا يُقال: إذا خرج إلى اللاحق خرج عن المحل الشرعي؛ لأنّه لو أراد أن يتدارك لأُضطر أن يأتي بهما معاً - السابق واللاحق -، فإذا كان المحل الشرعي عبارة عمّا تقيد السابق باللاحق، إذاً بالنتيجة لا يكفي في ذلك أن الشارع سمّاه، أي سمى القنوت حين امره بالصلاة او حين صلاته؛ إذ ما لم يثبت أن القنوت شرطٌ في صحة القراءة، بحيث إذا لم يأتي بالقنوت لم تصح القراءة لا يصدق أنه خرج من القراءة؛ لأنه إذا لم يكن القنوت شرطاً فيها يستطيع أن يرجع للقراءة إلى تدارك شيء، يستطيع أن يأتِ بالقراءة مرة ثانية؛ لأن اللاحق ليس شرطاً فيها.

إذاً: حيث إنّ المحل الشرعي هو عبارة عن تقيد السابق باللاحق، فبالنتيجة مطلق التسمية لا تكفي، ما دام اتى بالقنوت أم لم يأتِ به، القراءة صحيحةٌ، فلا يصدق على الدخول في القنوت أنّه خرج من القراءة ما دامت ليست متقيدة به فكيف خرج منها؟؛ إذ يستطيع أن يأت بها حتّى بعد القنوت ما هو الإشكال في ذلك؟ لأنه لم يخرج منها ما دامت غير متقيدة بالقنوت؛ فلأجل ذلك هذا الوجه الذي ذُكر كمصحح لجريان قاعدة التجاوز غير تامٍّ.

وأمّا مجرد أن الشارع سمّاه فالتسمية كما ذكرنا أعم؛ إذ قد يكون التسمية على نحو الجزئية وقد تكون التسمية على نحو الظرفية، بأن كان مستحباً ظرفه الصلاة، أو أُمر بتطبيق الصلاة على هذا الفرد المشتمل على المستحب.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 5
الدرس 9