نص الشريط
الدرس 52
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/2/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 3159
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (490)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم إنّ سيّدنا أفاد: بأنَّ الروايات التي تتضمن تعدد القبلة مخالفة للسُّنة القطعيّة، بلحاظ أنّ الروايات الواردة في إنّ القبلة الواقعية هي الكعبة للبعيد والقريب بحدّ من الكثرة والوضوح بحيث يطرح ما خالفها، بل تقدم إنّ السيّد الإمام ذكر أنّ هذا النوع من الروايات مخالف للكتاب.

والانصاف إنّه: لابّد من التعليق في المقام على أمرين:

الأمر الأول: هل إنَّ النصوص متعارضةٌ أم هناك جمع عرفي بين هذه النصوص بملاحظة سائر الطوائف الواردة في هذا الباب؟، وهي عدة طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلَّ على إنّ القبلة هي نفس الكعبة الشريفة لجميع المكلّفين. وهذا ما يظهر من رواية عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ: «قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ الْيَقْطِينِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ حُرُمَاتٍ ثلاث [ثَلَاثاً لَيْسَ مِثْلَهُنَّ شَيْ‌ءٌ - كِتَابُهُ وهُوَ حِكْمَتُهُ ونُورُهُ وبَيْتُهُ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلنَّاسِ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ تَوَجُّهاً إِلَى غَيْرِهِ وعِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ «صلى الله عليه واله»،]».

فيقال: إنّ ظاهرها أنّ البيت قبلة لجميع الناس قريباً أو بعيداً.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على تنوع القبلة، وهو ما تقدم ذكره، وأصحّها: «عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْبِلَادِ عَنْ أَبِي غُرَّةَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع الْبَيْتُ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ والْمَسْجِدُ قِبْلَةُ مَكَّةَ ومَكَّةُ قِبْلَةُ الْحَرَمِ والْحَرَمُ قِبْلَةُ الدُّنْيَا».

ولكن قد يقال: ليس ظهور هذه الطائفة بمثل ظهور الطائفة الأولى في أنّ القبلة لجميع الناس، فإنّ هذه الطائفة تحتمل عرفاً أنّ المقصود بذلك: أنّ القبلة هي الكعبة، غاية ما في الباب أنّ المطلوب في فرض عدم مشاهدة الكعبة مراعاة جهتها المحاذية لها كإمارة عليها والجهة المحاذية المسجد لمن كان خارجه؛ ومما ينبّه على عرفية هذا الاحتمال استبعاد أن تتغير القبلة بمجرد أن خرج من المسجد فكان بداخل المسجد قبلته الكعبة، وبمجرد أن خرج تغيرت القبلة في حقه، فإنّ هذا مستبعد بحسب المرتكزات المتشرعية، فهذا الاستبعاد صالح للقرينية وصرف هذا الظهور واحتمال ان المقصود بذلك هو أنّ المطلوب هو المحاذات للكعبة، وهي: تتعدد بتعدد فرض موقع المصلّي.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على توسعة القبلة، وهو: «رَوَى زُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا صَلَاةَ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَة، ِ قَالَ قُلْتُ وأَيْنَ حَدُّ الْقِبْلَةِ؟ قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ كُلُّهُ، قَالَ قُلْتُ فَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أو فِي يَوْمِ غَيْمٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ قَالَ يُعِيدُ».

فإنّ متقضى هذا اللسان إنّه ليس المتعين في حق البعيد هو مراعاة عين الكعبة بحيث يمتد منه خط الى الكعبة بل المحاذ العرفي للكعبة، ولأجل ذلك جاءت هذه التوسعة.

الطائفة الأخرى: ما دلَّ على ندبية التياسر بالنسبة لأهل العراق. «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ التَّحْرِيفِ لِأَصْحَابِنَا ذَاتَ الْيَسَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ وعَنِ السَّبَبِ فِيهِ فَقَالَ إِنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَمَّا أُنْزِلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ ووُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ جُعِلَ أَنْصَابُ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ لَحِقَهُ النُّورُ نُورُ الْحَجَرِ فَهِيَ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وعَنْ يَسَارِهَا ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ كُلُّهُ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا فَإِذَا انْحَرَفَ الْإِنْسَانُ ذَاتَ الْيَمِينِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْقِبْلَةِ لِعِلَّةِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ وإِذَا انْحَرَفَ ذَاتَ الْيَسَارِ لَمْ يَكُنْ خَارِجاً عَنْ حَدِّ الْقِبْلَةِ».

فهذه الطائفة من الروايات التي إن تمت دلالتها على استحباب التياسر بالنسبة لأهل العراق، كاشفة عن مراعاة جهة المحاذاة للكعبة عرفا.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على إمارية الجدي: «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَالَ ضَعِ الْجَدْيَ فِي قَفَاكَ وصَلِّ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ إِنِّي أَكُونُ فِي السَّفَرِ ولَا أَهْتَدِي إِلَى الْقِبْلَةِ بِاللَّيْلِ فَقَالَ أَ تَعْرِفُ الْكَوْكَبَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْجَدْيَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاجْعَلْهُ عَلَى يَمِينِكَ وإِذَا كُنْتَ عَلَى طَرِيقِ الْحَجِّ فَاجْعَلْهُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ».

فإنّ هذه الطائفة تصلح على أن تكون قرينة على أنّ المراعاة للمحاذاة العرفية للكعبة.

ويمكن الجمع بين هذه الطوائف: إنّ القبلة هي الكعبة، غاية الأمر إنّ الشارع جعل المحاذاة العرفية إمارة عليها بالنسبة إلى البعيد والنائي، لا إنّ بينها تعارض حتّى نحكم قواعده. ويساعده ما ذكره المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه:

«وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ، قَالَ: مَعْنَى شَطْرِهِ - نَحْوُهُ - إِنْ كَانَ مَرْئِيّاً، وبِالدَّلَائِلِ والْأَعْلَامِ إِنْ كَانَ مَحْجُوباً، فَلَوْ عُلِمَتِ الْقِبْلَةُ لَوَجَبَ اسْتِقْبَالُهَا والتَّوَلِّي والتَّوَجُّهُ إِلَيْهَا، ولَوْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا مَوْجُوداً حَتَّى تَسْتَوِيَ الْجِهَاتُ كُلُّهَا فَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِاجْتِهَادِهِ حَيْثُ أَحَبَّ واخْتَارَ حَتَّى يَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الدَّلَالاتِ الْمَنْصُوبَةِ».

فبهذا يتبين: أن لا منافاة بين مفاد الروايات والآية، حيث إنّ المراد بالشطر: النحو والجهة، ﴿وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.

ثم إنّه على فرض التنافي والتعارض خصوصاً بين الطائفتين الأوليين، أي: ما دلَّ على انّ القبلة عين الكعبة، وما دلَّ على التعدد. فما ذكره السيّد الإمام إنّ الكتاب مع الطائفة الاولى صحيح؛ حيث ما دلّ على ﴿فولوا وجوهكم شطره، وقد نزلت على النبي في المدينة شاهد على انّ القبلة: بالنسبة للنائي.

وأمّا ما ذكره سيّدنا: من إنّ الطائفة الثانية منافية للسّنة القطعية، فهو غير واضح؛ لأنّ الطائفة الأولى مجموعها سبعة عشرة رواية الدّالة من هذه الروايات بوضوح على: أنّ القبلة عين الكعبة، هي أربعة روايات؛ وأمّا قسم من هذه الروايات: فقد ورد في كلام السائل حيث إنّ السائل يقول للإمام متى صرف النبي إلى الكعبة... فعبارة «تعين الكعبة» وردت في كلام السائل. وبعضها الآخر: غاية ما يستفاد منه العقد السلبي لا الايجابي.

وبعضها عبّر أنّ النبي صرف عن الكعبة أو حول الى الكعبة. فإنّ هذه الروايات ليست في مقام بيان ما هي القبلة، وإنما هي في مقام بيان أمر آخر وهو: أنّ النبي أمرَ بالتوجه إلى بيت المقدس ثم صرف الى الكعبة، وليست في مقام بيان ما هي القبلة، فهي في مقام بيان إنّه ليست القبلة بيت المقدس وإنما هي الكعبة.

إذاً: دعوى وجود سُّنةٌ قطعيةٌ على انّ القبلة عين الكعبة بحيث تعتبر الطائفة الثانية مخالفة لها، غير واضحة.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية. حيث بحثنا في الجهة الأولى: في إنّ الكعبة: «خصوص البنية أم من تخوم الارض الى عنان السماء»؟. وقلنا: لا دليل على هذه التوسعة. وفي الجهة الثانية: بحثنا على انّ «القبلة التي هي عين الكعبة هل هي لخصوص القريب أم لمطلق المكلفين، وهل تتعدد القبلة بتعدد موقع المصلي أم لا»؟. وقلنا: إنّه لا تعدد، وإنّ عين الكعبة قبلة لجميع المصلّين.

الجهة الثالثة: بعد الفراغ عن الكعبة هي عين الكعبة، فهل المدار بالنسبة للمصلّي البعيد على المحاذاة العرفية؟ أم لابد من المحاذاة الدقية؟ أي: لو خرج خط من جبينه لوقع على بنية الكعبة.

وقد أفاد سيّدنا في «ج11، ص426» مطلبان:

الأول: هل المطلوب مراعاة عين الكعبة أم يكفي الجهة؟.

الثاني: وعلى فرض الجهة، ما هو حدها؟.

أمّا المطلب الأول: نقل سيّدنا عن «ما ذكره المحقق الأردبيلي فيما حُكي عنه، قال ما لفظه: عدم اعتبار التدقيق في أمر القبلة وأنّه أوسع من ذلك، وأقام على ذلك قرائن:

القرينة الأولى: قال: «وما حاله إلا كأمر السيّد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية، الذي لا ريب في امتثاله بمجرد التوجه إلى جهة تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها مما يختص بمعرفته أهل الهيئة المستبعد أو الممتنع تكليف عامّة الناس من النساء والرجال خصوصاً السواد منهم بما عند أهل الهيئة الذي لا يعرفه إلا الأوحدي منهم».

إذاً: مقتضى مناسبة الحكم للموضوع وهو: إنّ التكليف باستقبال الكعبة عامٌّ لسائر المكلّفين هو أنّ المطلوب المحاذات العرفية.

القرينة الثانية: «واختلاف هذه العلامات التي نصبوها وخلوّ النصوص عن التصريح بشي‌ء من ذلك سؤالًا وجواباً عدا ما ستعرفه مما ورد في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين، وأُخرى بجعله على اليمين، مما هو مع اختلافه وضعف سنده وإرساله خاص بالعراقي، مع شدة الحاجة لمعرفة القبلة في أُمور كثيرة، خصوصاً في مثل الصلاة التي هي عمود الأعمال، وتركها كفر، ولعلّ فسادها ولو بترك الاستقبال كذلك أيضاً».

القرينة الثالثة: جاء تهذيب الأحكام، «ج‌2، ص44‌»: عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهٰاءُ مِنَ النّٰاسِ مٰا وَلّٰاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا قُلْ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَ لَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - ﴿ومٰا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلّٰا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وإِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّٰا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّٰهُ ومٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، قَالَ إِنَّ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَتَوْهُمْ وهُمْ فِي الصَّلَاةِ وقَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ والرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ وجَعَلُوا الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَصَلَّوْا صَلَاةً وَاحِدَةً إِلَى قِبْلَتَيْنِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَسْجِدُهُمْ مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ».

قال:» وتوجّه أهل مسجد قبا في أثناء الصلاة لما بلغهم انحراف النبي «صلى اللّٰه عليه وآله» وغير ذلك، مما لا يخفى على العارف بأحكام هذه الملّة السهلة السمحة أكبر شاهد على شدّة التوسعة في أمر القبلة وعدم وجوب شي‌ء مما ذكره هؤلاء المدققون».

إذاً: مقتضى هذه القرائن أنّ المطلوب رعاية المحاذي العرفي.

إلاّ إنّ سيّدنا أشكل في «ص431»: «وأمّا مقالة المحقق الأردبيلي المتقدمة، من عدم ابتناء أمر القبلة على التدقيق، فهي في غاية الجودة والمتانة، لكنّها لا تقتضي الالتزام بالجهة والاستناد إلى المسامحة العرفية؛ بل القبلة بالإضافة إلى الجميع هي نفس الكعبة تحقيقاً، ومع ذلك لا تبتني على التدقيق ولا تتوقف على رصد وعلامات، كما ذكره «قده»، بل هي بمثابة يعرفها كل أحد ويسهل تناولها للجميع».

والحمد لله رب العالمين

الدرس 51
الدرس 53