نص الشريط
الدرس 54
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 16/2/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 2537
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (404)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآلهِ الطاهرين

بعد الفراغ عن كفاية المحاذاة، وصل البحث لما هو المحقق لها، وقلنا: أنّ هناك اتجاهات ثلاثة فيما هو المحقق. وقبل بيانها لابّد من ذكر مقدمة يتضح بها المطلب، وهي: ما تعرّض له سيدنا في «ج11، ص444».

قال: «ولا بأس بالإشارة إليه إجمالًا، وقبل التعرّض لها ينبغي التعرّف على بعض المصطلحات مما ذكره أهل الفن.

فمنها: خطّ الاستواء، وهو: الخطّ الموهوم المرسوم بين نقطتي المشرق والمغرب الاعتداليين، والموجب لتقسيم الكرة الأرضية إلى نصف شمالي ونصف جنوبي.

ومنها: خطّ نصف النهار، وهو: المرسوم بين نقطتي الشمال والجنوب القاسم للأُفق إلى نصف شرقي ونصف غربي والقاطع لخط الاستواء المزبور ويسمى ب «خط الطول» أيضاً.

ومنها: عرض البلد، ويعنون به: مقدار بعده عن خط الاستواء الذي هو أكبر دائرة وهميّة حول الأرض قاسمة لها إلى ما عرفت من نصفي الشمال والجنوب على بعدين متساويين من القطبين، لا يزيد أحدهما على الآخر، فالدوائر الوهميّة المنتشرة على سطح الأرض الموازية لهذه الدائرة التي عددها تسعون درجة شمالًا وتسعون درجة جنوباً ولا تزال تصغر إلى أن تتلاشى عند القطبين هي المسماة ب «خطوط العرض».».

فلأجل ذلك قد تختلف البلدان في خطوط العرض نتيجة اقترابه من خط الاستواء وابتعادها وقد تختلف في خطوط الطول.

«إذا عرفت هذا فنقول: تنحرف مكّة المكرّمة عن خط الاستواء إلى طرف الشمال بمقدار إحدى وعشرين درجة وبضع دقائق فهذا هو عرضها، كما أن طولها أي بعدها عن نقطة «گرينويچ»: 39 درجة وخمسون دقيقة.

وعليه: فإن كانت البلدة متحدّة - أي: موقع المصلّي - مع مكّة طولًا، فكان خط نصف النهار المار على إحداهما ماراً على الأُخرى مختلفة معها عرضاً، فإن كان بُعدها من خطّ الاستواء أكثر من بُعد مكّة أي زادت عليها عرضاً فكانت طبعاً شماليها فقبلتها نقطة الجنوب، وإن كان أقل فنقصت عرضاً. أو كانت البلدة واقعة في طرف الجنوب من خط الاستواء فكانت طبعاً بالإضافة إلى مكّة جنوبية فقبلتها نقطة الشمال، هذا فيما إذا اتفقت البلدة مع مكّة طولًا واختلفتا عرضاً.

وأما لو انعكس الأمر فاتفقتا عرضاً، - أي: في مقدار البعد عن الاستواء - فكان خط المشرق والمغرب المار بإحداهما ماراً بالأُخرى ولكن اختلفتا طولًا. فإن كانت شرقي مكة فقبلتها نقطة المغرب، وإن كانت غربيها فنقطة المشرق. وإن شئت فقل: إن زادت طولاً فكانت أبعد من مكّة إلى الجزائر الخالدات فقبلتها نقطة المغرب، وإن نقصت فنقطة المشرق.

وأما إذا اختلفتا في الطول والعرض معاً، فإن كانت البلدة واقعة ما بين المغرب والجنوب فنقصت عن مكّة طولًا وعرضاً، فقبلتها ما بين المشرق والشمال، وإن كانت واقعة ما بين الشمال والمشرق فزادت عليها طولاً وعرضاً فقبلتها ما بين الجنوب والمغرب، فكان انحراف البلدة عن نقطة الشمال إلى المشرق موجباً لانحراف القبلة عن الجنوب إلى المغرب؛ وإن زاد طول مكّة ونقص عرضها فالقبلة ما بين الجنوب والمشرق، وإن انعكس فما بين المغرب والشمال.

والحاصل: إنّ قبلة البلاد تُعيّن على هذا الأساس. ويتضح ذلك برسم دائرة بعد تسوية الأرض وتقسيمها أقواساً أربعة متساوية ذات أربع زوايا حادة، كل زاوية «تسعون درجة» ليكون مجموع الدائرة «ثلاثمائة وستين درجة»، ثم وضع البلدة في موضعها من الدائرة بنسبة الطول والعرض، ثم رسم خط منها إلى مكّة بعد افتراضها في مركز الدائرة ومنها إلى المحيط، ثم ملاحظة مقدار التفاوت بين موضع التقاطع وبين أحد الجوانب الأربعة فذلك المقدار هو مقدار الانحراف، وبذلك تعرف قبلة البلدة على سبيل التحقيق».

المسلك الاول: «عن الفاضل المقداد: أنّ جهة الكّعبة التي هي القبلة للنائي خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب الاعتداليين ويمرّ بسطح الكعبة، فالمصلّي حينئذٍ يفرض من نظره خطاً يخرج إلى ذلك الخط، فإن وقع على زاوية قائمة‌ فذلك هو الاستقبال، وإن كان على حادة أو منفرجة فهو إلى ما بين المشرق والمغرب.

توضيح كلامه: أننا إذا لاحظنا نقطتي المشرق والمغرب الاعتداليين، أي: في الوقت الذي يعتدل فيه الليل والنهار ويتساويان، وفرضنا خطاً مستقيماً متّصلًا بينهما على نحو يمرّ بسطح الكعبة، فهذا الخط هي جهة الكعبة، وحينئذٍ فالمصلّي النائي لو اتجه نحو هذا الخطّ فإن كان اتجاهه بحيث لو فرض خروج خط مستقيم من نظره متصل إلى ذاك الخط يتشكل منهما زاويتان قائمتان - أي يكون كل منهما بمقدار تسعين درجة - فذاك استقبال للجهة. وإن كان الخط المزبور متمايلًا نحو الشرق أو الغرب بحيث يحصل من تقاطعه مع الخط الأول زاوية حادة وأُخرى منفرجة فذاك من التوجه إلى ما بين المشرق والمغرب، الذي يحكم فيه أيضاً بصحة الصلاة عند العجز عن استقبال الكعبة وجهتها». إذا فرغ الفاضل المقداد في اليوم الذي يكون الشروق والغروب معتدلاً يكون رسم خط بين المشرق والمغرب مارّاً بالكعبة، ونأخذ هذا الخط مقياساً فالمصلّي في أي مكان يقف بحيث يكون وقوفه مستقيماً مع هذا الخط الذي رسمه، فيكون الخط الصادر منه نحو هذا المرسوم مستقيما، وإن نشأ عن هذا الوقف زاويتان قائمتان: «90 عن يمينه، و90عن شماله»، فهو مستقبل حقيقة للكعبة، لأنّنا فرضنا أنّ هذا الخط يمر بسطح الكعبة. وإذا وقف عن هذا الخط مستقيماً تولدت زاوية حادة من جهة ومنفرجة من جهة أخرى، فهو غير مستقبل حقيقة للكعبة وإنّما هو ما بين المشرق والمغرب الذي هو استقبال مغتفر.

أشَكل عليه سيّدنا «ص430»، قال: «نعم يتوجه عليه، أولًا: أن تفسير الجهة بما ذكره لا دليل عليه، فالاجتزاء في تحقق الاستقبال بالاتجاه نحو أي نقطة من نقاط الخط الاعتدالي على نحو تتشكل منه زاوية قائمة لم يثبت بدليل شرعي، وهي دعوى بلا برهان، وعلى مدعيها الإثبات.

كأنّ السيّد يريد أن يقول: إن كون هذا الخط مارّاً بسطح الكعبة في اليوم المعتدل لا يعني انّه مصيب للكعبة في تمام الأوقات، بحيث لو وقف الإنسان مستقيماً مع هذا الخط في أي وقت فقد نال الكعبة إمّا بنفسها أو ما بين المشرق والمغرب، فإن هذا مما لا يمكن ضبطه واحرازه».

فإن قلت: مقتضى صحيحة زرارة السابقة ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه، مقتضاه: صحّة ما أفاده الفاضل المقداد، فإنه إذا لم يصب الكعبة لم يعد القبلة لأنّه ما بين المشرق والمغرب قبلة.

قلت: هذا لو أُريد بالمشرق أو لمغرب جهة الشرق والغرب، فينصرف للاعتداليين.

ولكن قلنا سابقاً: إن هذا التفسير لا قرينة عليه، بل الظاهر منهما أو يكفي الاحتمال في منع الاستدلال، إنّ المراد بالمشرق والمغرب اليمين واليسار، وإنّما عبّر عنهما بالمشرق والمغرب إمّا على نحو الكناية عن الانحراف كما في «ليس البِّرَ أن تولوا وجوهكم قِبلَ المشرق والمغرب»، فإنّه لا يقصد الشرق والغرب، إنّما في أي جهة غير المستقيمة، فكّنّى عن الانحراف لأي جهة فهو مشرق ومغرب. أو كما في الرواية: «شرّقا أو غرّبا فلن تجدا علما صحيحا من غير اهل البيت»، أو إنّه كّنّى عنهما بلحاظ أنّ مورد السؤال المدينة المنورة ويمين المصلي وشماله فيها هو المشرق والمغرب.

فالنتيجة: إنّه لا يصح الاستدلال بهذه الرواية على مطلب الفاضل المقداد. هذا أولاً.

وثانياً: إنّ الاتجاه نحو الخط الاعتدالي بنحو الزاوية القائمة قد يستوجب الانحراف عن الكعبة بدرجات كثيرة، بحيث لو كانت الزاوية حادة أو منفرجة كان الاتجاه إلى الكعبة أقرب مما لو كانت قائمة، ولا سيما في البلدان الواقعة في شرقي مكة أو غربها كجدة ونحوها التي تكون قبلتها نقطة المشرق أو المغرب تحقيقاً، فلا يطّرد الضابط المزبور على سبيل الإطلاق كما لا يخفى».

الاتجاه الثاني: ما ذهب إليه سيّدنا تبعاً للمحقق النائيني في كتاب الصلاة، وهو مؤلفٌ من أمور:

الأمر الأول: إذا رسمنا دائرة صغيرة ورسمنا دائرة أخرى حولها أكبر منها، بحيث يتحد مركز الدائرتين، فلا محالة يكون كل جزء من محيط الدائرة الصغرى محاذياً لما يسامتها من محيط الدائرة الكبرى بنسبة واحدة، فالنصف من الصغرى محاذٍ للنصف من الكبرى المحيط بها، والثلث للثلث والربع للربع، وكذا الخمس للخمس وهكذا، بحيث لو رسمنا خطوطاً كثيرة من ربع محيط الكبرى مثلًا فهي بأجمعها تنتهي إلى ربع محيط الصغرى في الجانب المحاذي لها، وكلّما ازداد بعد الكبرى عن الصغرى كانت جهة المحاذاة أوسع وقوس الاستقبال أكثر.

الأمر الثاني: وعليه فإذا طبّقنا هاتين الدائرتين على موقف المصلّي ومسجد جبهته فرسمنا حول موقفه دائرة بمقدار قطر دائرة الرأس التي هي كرؤية بالطبع، ورسمنا دائرة أخرى حوله يمر محيطها بمسجد الجبهة عند السجود فجميع دائرة الرأس محاطة بجميع الدائرة الثانية كل جزء بجزء بنسبة واحدة كما‌ عرفت.

الامر الثالث: وبما أنّ نسبة قوس الجبهة التي هي المناط في تحقق الاستقبال والاتجاه نحو الشي‌ء عرفاً إلى مجموع دائرة الرأس هي السبع تقريباً، حيث إنّ عرض الجبهة المتعارفة أربع أصابع ومجموع دائرة الرأس المتعارف ثمان وعشرون إصبعاً تقريباً، فتكون النسبة هي السبع، فسبع دائرة الرأس مواجه لسبع الدائرة الثانية المارة بمسجد الجبهة بحيث لو رسمنا خطاً من أي جزء من أجزاء هذا السبع فهو يصل إلى ناحية من قوس الجبهة لا محالة، فلو فرضنا اتساع الدائرة الثانية إلى أن انتهت إلى دائرة الأُفق، فالنسبة هي النسبة بعينها، أي: أنّ قوس الاستقبال من دائرة الأُفق نسبته إليها هي السبع الذي كان نسبة قوس الجبهة إلى مجموع دائرة الرأس، غايته أن البعد اقتضى اتساع دائرة المحاذاة، وعليه فقوس الجبهة مواجه حقيقة لتمام سبع الدائرة من الأُفق. ومن هنا لو اتجه المصلّي نحو هذا السبع من الدائرة المتضمن للكعبة، ففي أي جزء من أجزائه وقعت الكعبة كان متوجهاً إليها حقيقة ومستقبلًا لعينها تحقيقاً، من دون أية عناية ومسامحة، لما عرفت من مواجهة جميع أجزاء السبع مع الجبهة لدى المقابلة، غاية الأمر أن الكعبة لو كانت في وسط السبع كانت المواجهة مع وسط قوس الجبهة، ولو كانت في يمين السبع أو يساره كان الاتجاه مع يمين الجبهة أو يسارها حسب اختلاف الدرجات «وهذا ما يعبر عنه ما بين المشرق والمغرب قبلة».

الأمر الرابع: «ومنه يظهر أنّ الانحراف بدرجات يسيرة كالعشرة والعشرين بل ستة وعشرين غير قادح في تحقق الاستقبال ما لم يخرج عن حدّ السبع «45 درجة» الذي يزيد حينئذٍ عن ستة وعشرين درجة كما لا يخفى».

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ الكعبة بعينها قبلة لعامة الناس، سواء فيه القريب والبعيد، كما تقتضيه ظواهر النصوص من الآيات والروايات. وهذا على النّحو الذي بينّاه أمر يسهل تناوله للجميع من دون ابتنائه على التحقيق والتدقيق، فلا وجه للعدول عن مقتضى ظواهر النصوص إلى الجهة العرفية أو المسامحية التي لم يتضح المراد منها ولا الدليل عليها، فلم نتعقل معنى محصّلًا لشي‌ء من ذلك وراء ما ذكرناه كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ومما ذكرنا يظهر: أنّ الصفوف المتمادية مهما طالت فالكل متوجهون لعين الكعبة، لعدم تجاوزهم حدّ السبع، وقد عرفت أنّ الانحراف اليسير لا ضير فيه؛ لأنّ لكل واحد من المصلين جبهة، ونسبة كل جبهة موازية لسبع الدائرة في الكعبة...

ولامحالة مقصوده : إنه لابّد من إحراز الجهة، أي: لابّد أن يحرز أنه شرق مكة أو غربها، فلابّد أن يحدد نسبة موقع الصلاة إلى مكة من حيث خط الطول والعرض ثم يأتي هذا الوجه المحقق للمحاذاة وإلا لو لم يحرز الجهة لم يكن هذا الوجه في إصابة سبع جبهته للكعبة. ولأجل ذلك: قد يرد الإشكال على ما أُفيد منه: أن مقتضى كروية الأرض إنّه لو وقف المصلّي عند القطب الشمالي وفرضنا أنّ مكة في الجنوبي فهو متّحد مع مكة في خط الطول، إذاً فقبلته بالنسبة لمكة الجنوب؛ ولكن لو وقف فإن صدور سهم من جبهته لا يمكن أن يقع على الكعبة بحيث تتحقق محاذاة حقيقية، إلاّ إذا اعتبرنا أنّ الخط نافذاً في عمق الأرض، وإلا فإنّ الخط لا يمكن أن يصيب الكعبة حقيقية إلاّ إذا قلنا بأنه ينفذ هذا الخط في عمق الأرض إلى أن يصل الكعبة؛ وحينئذٍ السيّد يختار إمّا أن يقول بأنّ المدار في الاستقبال على وقوع الخط الصادر من الجبهة على الكعبة بعمق الأرض، فالمدار على عمق الأرض لا على تقوسها وتحدبها، فهذا ليس من المحاذاة العرفية في شيء. وإمّا أن يأخذ في الإصابة تقوس الأرض، ومقتضى تقوس الأرض عدم استقامة الخط، فلابّد أن ينحرف إلى اليمين أو إلى الشمال وحينئذٍ لا تتحقق المحاذاة الحقيقية.

والنتيجة: إنّ ما ذكره سيّدنا إمّا أن يرجع إلى اعتبار محاذاة دقيّة لا تنسجم مع ظاهر النصوص جزماً إذا اعتبرنا النفوذ في عمق الأرض. وإمّا أن يرجع إلى المحاذاة العرفية التي قال بها غيره إذا اعتبرنا المقياس ما يساوق سطح الأرض المتحدّب. مضافاً إلى أنّ قوس الجبهة لا يشكل سبع الدائرة لأنّ الرأس ليس مستديراً فقد يكون أكثر أو أقل...

فالمتحصل هو الاتجاه الثالث، وهو: دعوى أنّ المحقق للمحاذاة العرفية هو استقبال الجبهة كما ذهب اليها الاردبيلي والمشهور، بمقتضى القرائن التي اقامها.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 53
الدرس 55