نص الشريط
الدرس 59
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 12/3/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 3066
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (352)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تعرّض سيّد العروة في المسألة الثانية مما يرتبط بعلامات القبلة إلى عدة مطالب - وعلّق سيّدنا على بعضها -:

المطلب الأول: هل أنَّ طريقية الأمارة في عرض الاحتياط؟ أم أنَّ الأحتياط في طول طريقية الأمارة؟. فلو أمكن المكلف الأخذ بالأمارات الظنيّة كمحاريب المسلمين وقبورهم فهل يتعين عليه العمل بالأمارة؟ أم هو مخيّرٌ بين الأخذ بالأمارة وبين العمل بالاحتياط وذلك بالصلاة إلى جهات عديدة يقطع معها بإصابة القبلة؟.

لا شكَّ - كما ذكر في بحث الاجتهاد والتقليد -: من أنّ العقل يرى العرضية بين الامتثال الظنّي التفصيلي، وبين الامتثال العلمي الإجمالي، بلحاظ أنّ ما يحكم به العقل هو أنّ «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ» سواء كان فراغاً يقينياً وجارياً عن طريق الاحتياط أو كان فراغاً قطعياً تعبدياً عن طريق الأخذ بالأمارة، فمن هذه الحيثية - وهي حيثية الفراغ - كلاهما في عرض واحد.

المطلب الثاني: في صحيحة زرارة: «يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة» دلالةٌ على أنّ التحري - أي الأخذ بالاحتمال الأحرى - طريق إلى احرز القبلة؛ فهل أنّ التحرّي في عرض الأمارات الأخرى أم في طولها؟. فلو أمكن المكلف أن يحدد القبلة عن طريق الجدي أو أمكنه تحديد القبلة عن طريق محاريب المسلمين وقبورهم فهل يمكنه ترك ذلك والأخذ بالاحتمال الأحرى؟ أي: هل أنّ التحري في عرض الأمارات الأخرى أم في طولها؟، بمعنى: من لم يتمكن من العلم ولا العلمي فتصل النوبة به إلى التحرّي، وأمّا من تمكن من العلم أو العلمي فلا يشرع التحرّي في حقه؟!.

ظاهر كلام سيدنا هو الطولية. بمعنى: أنّ الأخذ بالتحرّي إنما مع فرض عدم أمارة شرعية على القبلة وكأنه «قده» فَهم من العلم في الرواية يجزي التحري ابدا إذا لم يعلم... أنّ العلم بمعنى «الحجة» إذا لم تقم حجة على القبلة، ومع وجود أمارة شرعية فالحجة قائمة فلا تصل النوبة إلى التحرّي.

أمّا لو فرضنا من العلم هو العلم الوجداني: كما هو ظاهر عنوانه، فمقتضى ذلك: أنّه من لم يحصل على العلم بالقبلة أو لم يمكنه تحصيله فله الأخذ بالتحرّي كما له الأخذ بالأمارات الشرعية الأخرى، وهذا ظاهر جمع كالسيّد الأستاذ: من عرضية التحرّي لغيره من الأمارات الشرعية.

المطلب الثالث: هل التحرّي بمعنى الأخذ بالظن أو التحري بمعنى الأخذ بالإحتمال الأحرى لدى المرتكز العقلائي؟.

ظاهر كلمات جمع - منهم سيد العروة وسيدنا -: أنّ التحرّي بمعنى: الأخذ بالظن. ولذلك ذكر في متن العروة: أنّه لو دار الأمر بين ظن قوي أو ضعيف فلابّد أن يتحرى القوي - أي يتحرى الاحتمال الاقوى - فهذا هو معنى التحرّي.

ولكن قد يقال: هو أنّه إذا ورد عنوان في لسان الدليل وكان لهذا العنوان مصداق عقلائي فهل ينصرف العنوان لمصداقه العقلائي؟ أم يحمل العنوان على معناه اللغوي والعرفي ويعدّ المصداق العقلائي أحد امثلته ومصاديقه؟.

فمثلاً: إذا قال الشارع: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أو: «إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، عنوان العلم لغةً: مطلق القطع مع غمض النظر عن منشأه وسببه. ولكنّ لعنوان العلم مصداق عقلائي وهو القطع الناشئ عن طريق عقلائي، فما لا ينشأ عن طريق عقلائي كالرؤيا والاستخارة والقياس الظني فإنّه لا يعد علماً لدى العقلاء وإن كان علماً لغةً، فهل ينصرف عنوان العلم في هذه النصوص لمصداقه العقلائي؟!، أم يبقى على معناه اللغوي؟!.

كذلك عنوان الباطل: ﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، فهل المقصود بالباطل: معناه اللغوي؟ أم ما يراه المتركز العقلائي سبباً باطلا؟.

فمن جملة هذه الموارد: محلُّ كلامنا، حيث قال: في صحيحة زرارة: «يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، فالتحري لغة: بمعنى الأخذ بالظن؛ لأنّ الظن أحرى من الشك والاحتمال، ولكن المصداق العقلائي للتحري هو: أن يكون الظن ظناً عقلائياً، أي: ناشئاً عن سبب عقلائي، لا مطلق الظن ولو من طيران الطير في الهواء.

إذاً: لو دار الأمر بين ظنٌّ ضعيف ولكن عن منشأ عقلائي، وبين ظن قوي ناشئ عن وسوسة، فإن كان المدار على الحجية العقلائية فالحجية للظن الضعيف، ما دام ناشئ عن منشأ عقلائي؛ وإن كان المدار على المعنى اللغوي: - أي الاحتمال الأحرى تكويناً - وإن كان ليس كذلك عقلاءاً فالمدار على الظنّ القويّ. يختار سيد العروة: المدار على الظن. حيث ذكر في متن العروة: «ولا فرق في أسباب حصول الظن فالمدار على الأقوى فالأقوى».

ولكنَّ الصحيح: أنّ المدار على المنشأ العقلائي لمناسبات الحكم والموضوع. فموضوع الأثر هو المصداق العقلائي؛ ثم قال سيد العروة: «فلو أخبر عدل ولم يحصل الظن بقوله: وأخبر فاسق أو كافر بخلافه وحصل منه الظن من جهة كونه من أهل الخبرة يعمل به».

وذكر سيّدنا في التعليق: «هذا على إطلاقه ممنوع، وإنما يتجه فيما إذا كان إخبار العادل مستنداً إلى الحدس بحيث يكون ساقطاً عن الاعتبار في حد نفسه.

وأمّا إذا استند إلى الحس وبنينا على حجيته في الموضوعات من غير إناطة، بإفادة الظن كما هو الأصح على ما سبق فاللازم تقديمه، لأنّه حجّةٌ شرعيّةٌ وعلمٌ تعبّديٌّ، ومعه لا تصل النوبة إلى التحري والتعويل على الظن الحاصل من قول الفاسق أو الكافر كما هو ظاهر».

وتعليقا على هذا الكلام نقول المدار على المنشأ العقلائي فإن كان خبر الفاسق عن منشأ عقلائي عمل به وان كان الظن الحاصل منه اقل من الظن الحاصل من خبر العادل إذا لم يتسند إلى منشأ عقلائي.

قال سيد العروة: [1232]  مسألة أربعة: «لا يعتبر إخبار صاحب المنزل إذا لم يفد الظن». فإنّه إذا أفاد الظن فإنّ خبره مصداق للتحري، والكلام إذا لم يفد الظن فهل أخبار «ذي اليد» عمّا في يده حجة في نفسه وإن لم يفد الظنّ أم لا؟.

وهذا البحث تعرض له السيد الشهيد في بحثوه على العروة، «ج2، ص101»، قال:

«إحداهما: إرجاع حجية قول صاحب اليد المذكورة إلى قاعدة عقلائية أعم منها، وهي: «أنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به»، فالمركوز عقلائياً هو أنّ كل من كان مستولياً على شي‌ء ومتصرفاً فيه - سواء كان مالاً أو أمراً معنوياً كالطلاق والتمليك مثلاً - فقوله نافذ بالنسبة إليه. وهذا ما حاوله المحقق الهمداني «قدس سره» في مصباحه». فمن ?ان مال?اً بالملك الحقيقي أو الاعتباري كمليكة العقد، وبتعميم الإقرار للإقرار عليه أو له، سواء كانت نتيجة الإقرار أثراً ضده أو بصالحه فمن ملك شيئاً ملكاً اعتباريا أو تكوينياً ملك الإقرار به - أي كان إخباره عنه نافذاً، فحجية أخبار «ذي اليد عما في يده» من مصاديق هذه الكبرى وهي أنّه من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

أشكل السيد الشهيد على هذا الوجه من جهتين:

الجهة الأولى: قال: إنّ هذه القاعدة توسعة عقلائية لقاعدة «إقرار العقلاء على انفسهم نافذ»، بيانه: أنّه عندنا قاعدتين: الأولى: قاعدة «إقرار العقلاء على انفسهم نافذ»، ومن الواضح اختصاص هذه القاعدة بالآثار التحميلية، أي: إنّما يكون الإقرار نافذاً إذا كان بأمر ضد المقر، وهذا هو معنى القاعدة.

قال السيد الشهيد: «إنّ من المقرر عقلائياً أن إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ، وهذه القاعدة تقتضي ترتيب خصوص الآثار التحميلية دون النفعية أو ما لا يكون تحميلياً ولا نفعياً، لأنّ ذلك هو مقتضى كون الإقرار على المقر وكونه نافذاً بما هو عليه. وموضوع هذه القاعدة هو الإقرار الصادر ممن يقع التحميل عليه، وبذلك لا تشمل الوكيل في الطلاق لو أقر بإيقاعه، لأن الإقرار ليس على نفسه بل على موكله، ومن هنا احتيج إلى قاعدة: «أن من ملك شيئا ملك الإقرار به» لتوسيع نطاق موضوع القاعدة الأولى، وجعل إقرار الوكيل بالطلاق نافذاً على الموكلّ، لأنّه مالك لإيقاع الطلاق كما أنّ الزوج مالك لذلك، دون أي توسيع في نطاق الآثار التي تثبت بإقرار الوكيل، فما يثبت بإقراره نفس ما يثبت بإقرار الموكل، وهو الأثر التحميلي على الموكل خاصة». فالوكيل بالطلاق لو أقر الوكيل بالطلاق، هل يصح عن الموكل؟ فإقراره على الغير لا على النفس، فوقعت المشكلة فلا يدخل تحت قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ»، من هنا ولحاجة نظامية، أي: لكي لا ينفصل ما هو بالوكالة عمّا هو بالأصالة، وسعّت القاعدة فقيل: بما أنّ الوكيل ملك الايقاع - أي للطلاق أو العتق أو النذر - ملكاً اعتبارياً، فمن ملك شيئاً ملك الإقرار به، فهذه توسعة لقاعدة الإقرار لاقتضاء المصلحة النظامية. هذه التوسعة. ولذلك يختص هذا: بالآثار التحميلية أيضاً. فلو ترتب على طلاق الوكيل أثر في صالح الموكل، بل يختص ما ينفذ فيه إقرار الوكيل بما يكون أثراً تحميلياً على الموكل فإنّ هذا هو مقدار التوسعة التي بنى عليها العقلاء.

والنتجية: أنّه لا ربط في هذه القاعدة بما يذكره المحقق الهمداني، فلا ربط لها بمسألة حجية خبر ذي اليد.

قال السيد الشهيد: «ومعه فلا معنى لجعل حجية خبر صاحب اليد عن الطهارة والنجاسة مصداقا لقاعدة: «أنّ من ملك شيئا ملك الإقرار به»، لما عرفت من اختصاص القاعدة بالآثار التحميلية».

الجهة الثانية: إنّ نكتة حجية خبر «ذي اليد» عمّا تحت يده هو الكاشفية، فالعقلاء يرون خبر ذي يد كاشف عن الواقع، بينما قاعدة الإقرار وما تفرع عنها من ملك شيئاً ليست من باب الكاشفية أصلاً، بل هي ثابتة لنكتة موضوعية أخرى وهي إلزام الشخص بما التزم به، فحيث إنّه ألزم نفسه بهذا الكلام فقد ألزم لا من باب الكاشفية. والشاهد على ذلك:

إجماع الفقهاء على قبول الإقرارين المتناقضين معاً؛ فلو أقر بالدار لزيد ثم بعد ساعة أقر بالدار لعمرو، نفذ الإقراران معاً مع القطع بكذب أحدهما فيغرم قيمة الدار لعمر، وتسلّم لزيد. ففتواهم هذه شاهد على أنّ حجية الإقرار وما تفرع عليها ليست من باب الكاشفية بل من أن يلزم بما ألزم به نفسه.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 58
الدرس 62